[email protected] إن تاريخ الغرب لم يبدأ مع مجيء إدريس الأول، ولا بناء فاس أو سقوط الأندلس، ولا حتى مع نزول الفينيقيين على سواحل “تامازغا”، وكل التواريخ والمعلومات التي يقدمها التاريخ الرسمي، وتحفل بها كراسات التاريخ المدرسي، وحفظها المغاربة عن ظهر قلب، فهي تهم تاريخ السلطة والحكام والعائلات والسلالات التي تعاقبت على أرض مراكش. أما تاريخ الإنسان الذي سكن هذه الأرض، ووجوده الاجتماعي والسياسي وتنظيماته المحلية، وسجل انتصاراته وإخفاقاته وإنجازاته ومقاوماته…، فيظل منحصرا بين صفحات بعض الكتابات والأبحاث النادرة، ولم يجد بعد طريقه إلى الرواية التاريخية الوطنية وإلى الفصول والكراسات التعليمية . التصحيح والإنصاف من أجل المستقبل الأمازيغ، وتاريخ المغرب الأمازيغ لم يكتبوا تاريخهم، وتظل وجهة نظرهم غائبة في الروايات والكتابات التي تناولت تايخ شمال إفريقيا منذ العصر القديم إلى الزمن الراهن. هذا هو العامل الكبير الذي أفضى إلى تحريف الحقائق وتعميم المغالطات حول العديد من الوقائع والمجريات، وحول مساهمات الأمازيغ ووجودهم التاريخي وتنظيماتهم السياسية والاجتماعية. وأدوارهم وحضورهم في سيرورة الحداث والتحولات التي عرفها شمال إفريقيا على امتداد أكثر من ثلاث وثلاثين قرنا. ونتيجة لهذا الغياب، ولعدم مساهمة الأمازيغ في تسجيل التاريخ الذي صنعوه وعاشوه، أو ربما ضياع كتابتهم بعد إتلاف خزانة قرطاج، فقد بقيت شهادة الماضي محصورة في ما وصل من مكتوب الوافدين أو الأجانب، الذين احتكروا رواية الوقائع بالشكل الذي لا يخفى تحيزه بما يعلي وجهة نظرهم، ويعظم شأنهم ويخدم مصالحهم . وقد كان أولائك “الأهل” الشهود هم الكتب من المصريين القدماء، ومن اليونان والفينيقيين والرومان والو ندال والبيزنطيين والعرب والفرنسيين والأسبان، أما المشهود على أمرهم، فلو لم يزل بعضهم أو جلهم يحمل ورقة تعريفه، لأيقننا أنهم اندثروا منذ زمان، وصاروا جميعا خبر كان. ورقة تعريف الأمازيغي في وقتنا الحاضر، هي قدرته على الإفصاح بلفة” الزاي “. أو تعاطفه معها، أو عدم تنكره للأجداد . وسواء تعلق الأمر بالمعطيات التاريخية الواردة في كتابات الإخبار ين والكتبة منذ التاريخ القديم، أو تعلق الأمر بالتاريخ الرسمي الذي تألف على امتداد سيرورة تأسيس وسقوط الدول والسلالات التي تعاقبت على أرض المغرب، فإن التاريخ الذي كتبه المنتصرون ومؤرخو السلطة وكتبة الحكام ظل منحصرا في أنشطة هذه الفئات وأنظمتها السياسية والأحداث التي تهمها، ولم يهتم بالوقائع والقضايا التي ميزت عمق التاريخ الاجتماعي أو التي جرت على هامش نفوذ السلطات المركزية وتحركات أمرائها وقوادها. فالتاريخ، كما كتب علي صدقي أزيكو، لا ينحصر في الأنشطة الرسمية التي ليست في حقيقة الأمر إلا انعكاسا باهثا لتاريخ تجري أحداثه خارج الميادين المفضلة لدى الإخباريين . إقصاء التاريخ القديم : ما عدا درس “سكان المغرب الأولون” الذي تلقاه التلاميذ المغاربة في المستوى الثاني ابتدائي، والذي سنوضح بعض مغالطاته فيما، بعد، لم تكن مقررات التاريخ المدرسي تقدم من التاريخ القديم سوى ما يرتبط بالمؤثمرات الخارجية والشعوب الوافدة على أرض المغرب، خاصة الفنيقيين وألو ندال والبيزنطيين والرومان، لتنتقل إلى تاريخ شبه الجزيرة العربية، ثم إلى “بداية الدولة المغربية” التي تمت، حسب مضمون تلك الملخصات التعليمية، مع مجيء إدريس الأول الذي أسس دولة أوبة التي تسمى الأدراسة في المصطلح الرسمي، وبعد اغتياله تولى ابنه إدريس الثاني الحكم عند بلوغه 18 سنة، وبنا فاس . ورغم أن التاريخ القديم يمثل أزيد من 90% من تاريخ الشعوب ومرحلة أساسية من مسيرتها الحضارية، فقد تم تجاهله وإقصائه، وفي أحسن الأحوال اختزاله والاكتفاء بالإشارة إليه في رواية التاريخ الرسي، ولم يفسح المجال لاستحضار الممالك الأمازيغية مثلا- حضورا باهثا- في الدرس التاريخي إلا مؤخرا، رغم الأهمية السياسية والتاريخية لهذه الدول التي امتد نفوذها على مدى شمال إفريقيا من القرن الرابع ق.م إلى حدود منتصف القرن الأول ميلادي، والتي عرفت أوج ازدهارها مع الملك يوكرتن ويوبا الأول وبوكوس وماسينيسا الذي تحدثت المصادر التاريخية عن تمكنه من توسيع مملكته وهزم قرطاج، وتنظيم دولة على النموذج الإغريقي، حيث طور آليات الحكم السياسي والتنظيم الاقتصادي، وطور الزراعة وحقق نهضة ثقافية تشجيع الأدب والفن والاستفادة من الفكر اليوناني، مما جعل من عاصم مملكته مدينة راقية من الجانبين المادي والثقافي في مستوى ازدهار مدينة أثينا الإغريقية . فبعد سقوط قرطاج سنة 146 ق.م، كما تؤكد الشهادات التاريخية، بدأت مرحة جديدة من الاستعمار دامت أكثر من سنة قرون قاوم فيها الأمازيغ أكبر إمبراطورية استعمارية عرفها حوض البحر المتوسط في العصر القديم، وهي الرومان، بكثير من الشجاعة والصبر والتبات . فكل هذه الأحداث والأزمنة المضيئة من تاريخ المغرب همشت في التاريخ الرسمي، والمدرسي بالخصوص، وتم التركيز والإعلاء من شأن المؤثرات الخارجية والشعوب الوافدة على المنطقة المغاربية، كالفينيقيين والوندال…، بشكل يعكس خيارا معرفيا وتاريخيا واضحا، ينقص من تاريخ ودور العنصر المحلي في صناعة الأحداث والتحولات التي عرفها مجاله، والتعتيم عن مساهمته في حضارات الحوض المتوسط. بل أن هذا التناول الانتقائي للتاريخ، يذهب إلى أن المغرب دخل التاريخ على يد الفينيقيين، رغم أن مرحلة وجودهم وتأثيرهم لم تكن سوى مرحلة للتعامل التجاري، لم تعرف استقرارا ولا يمكن أن تشكل عصرا أو بداية للتاريخ. ويتجاهل التاريخ الرسمي كون المازيغ كانت لهم علاقات مع حضارات أخرى من قبل، وكانوا يملكون أبجديتهم تيفيناغ التي أكدت الدراسات الأركيولوجية عراقتها أكثر من الفينيقية، إضافة إلى أن الأمازيغ تمكنوامن حكم مصر على يد الملك شوشونق الأول منذ سنة 929 ق.م، والأكثر من قرنين من الزمن، مما يؤكد دخولهم عصر التاريخ قبل نزول الفنيقيين على سواحل بلادهم . أليست هذه الأحداث والأزمنة المجيدة من تاريخ المغرب القديم مثار افتخار واعتزاز، من شأنه أن يعزز معرفة المغاربة بتاريخهم وسيرورة بناء حضارتهم، ويسمو بالذاكرة والوجدان الفردي والجماعي والانتماء الحضاري الوطني؟ دخول الإسلام وأسطورة “الفتح السندبادي ” لم يكن دخول العرب إلى المغرب دخولا سندباديا عبر رحلة ببساطة، كما تحاول روايات التاريخ الرسمي والمدرسي تقديم ذلك. بل كان هذا الدخول، وباستحضار غايته المعلنة والفعلية، دخولا عنيفا، اتسم بالمواجهة والمقاومة وطول المدة التي استغرقها والتي وصلت إلى حوالي 70سنة. ورغم أن هذه الأحداث تمت في أوج قوة الأمويين، فقد كانت المقاومة الأمازيغية قوية بسبب وجود تجمعات أمازيغية قوية، تلك التي تزعمها كوسيلة أمير أوربة، والتي قادتها أميرة الأوراس داهيا، وبسبب سلوك خلفاء وقواد الأمويين المتعصبين لعرقهم والمحتقرين لأهالي البلاد التي غزوها، حيث تمادو في جمع الغنائم والسبايا وإرسالها إلى الشرق لإرضاء ولاة الأمر، مما أثار مواجهات عنيفة، وزاد من مقاومة الإمارات الأمازيغية للجيوش العربية . يقدم التاريخ الرسمي دخول الأمويين و كأنه مقرون بقوة ميتافيزيقية استرضت الإنسان والأرض، وامتلكتهم دون عنف ولا مقاومة، مقصيا من روايته كل الأحداث والمواجهات التي شهدتها هذه المرحلة الشائكة من تاريخ المغرب.بل أن الرواية الرسمية لم تكتف بالتعتيم عن مظاهر ووقائع العنف والغزو والاستبداد الأموي التي واجهها الأمازيغ بقوة، بل حاولت إضفاء طابع أسطوري على عملية دخول الأمويين، وإقرانها بالفتح الإسلامي فقط، بالشكل الذي يحجب حقيقة صراع السلطة وإخضاع المغرب لنفوذ ولاة وقواد المشرق فنعلم مع عبد الله العروي بأن مسألة الفتح كانت منذ البداية سياسية أكثر منها دينية: أي كيف سيحكم العرب المغرب وليس كيف سيعبد المغاربة خالقهم …. ولا شك أن إسلام “البرير” في آخر المطاف لم يعد أن يكون اعتراف بسيادة الخلقية . وقد ارتبطت أسطورة الأحداث بتعظيم شخصية القائد، وكان عقبة بن نافع الاسم الذي حظي بالنصيب الأوفر من ذلك، ككبير القواد الفاتحين، رغم أن تأكيد حملته على المغرب الأقصى يبقى دون سند، كما يذهب إلى ذلك عبد الله العروي الذي أكد أن حملة عقبة لم تتجاوز نواحي تلمسان ووهران. وقد يكون الهدف من هذا التقديس الذي أحيطت به شخصية عقبة في التاريخ الرسمي، والإشادة بأعماله الحقيقية وغير الحقيقية، هو تعظيمه والتغطية على الوقائع الميدانية كحملة الاسترقاق الجماعي التي قادها جيوش الأمويين . إضافة إلى الصورة التاريخية الرسمية التي اقترن بها اسم عقبة، يمكن أيضا إثارة اسم موسى بن نصير وطارق ابن زياد . فباستثناء الخطبة الشهيرة التي اقترن بها اسم هذا الأخير أثناء فتح الأندلس، والتي تتضارب الآراء حولها خاصة أنه القائد الأمازيغي الذي تفيد بعض المصادر بأنه لم يكن يتقن العربية بتلك الدرجة، فأن مصير طارق ومكان تواجد قبره يبقى الحلقة المفقودة من هذه الرواية التي لا يخفى بعدها وارتباطها الوطيد بأهداف وخفايا الخلافة الأموية وصراعاتها الداخلية . وامتداد لنفس الخيار الإيديولوجي، تسعى الرواية الرسمية في تناولها لمختلف الأحداث التي ميزت تعاقب الدول والصراعات والأحداث، إلى الإيحاء بنوع من الاندماج المجتمعي والانتصار العارم والدائم للسلطة المركزية، والتقليل من شأن الوقائع والردود التي عرفتها المناطق المستعصية، ومنها حقيقة الصراع الكبير الذي طبع علاقة الدول والأنظمة المركزية والجماعات الوافدة مع سكان المناطق الممتدة على أنحاء البلاد، وأنماط تنظيمهم السياسي المحلي ووجودهم الاجتماعي . فهذا التاريخ الذي يحدوه “مكر العقل الشمولي”، وبغضه الطرف عن وقائع الأزمة والصراع التي طبعت علاقة المراكز الحاكمة بالهوامش المقاومة أو المستعصية، فهو يسعى إلى تقديم صورة البلاد المندمجة والسلطة القوية التي تملك الحق وشرعية السيطرة والتنظيم وامتلاك الأرض والإنسان، وإخضاع الجميع لنفوذها الإداري والقضائي. ومن هذا المنظور، يسقط التاريخ الرسمي من حسابه ما يسميه صدقي أزايكو باللازمة العميقة المحركة لتاريخ المغرب وشمال إفريقي منذ أن استقر بهما الإسلام، وهي تدافع الأحداث والوقائع، وتضارب الآراء والمواقف وتصارع الجماعات والدول، وتنافس اللغات والثقافات والمؤسسات المختلفة . البورغواطيون، ومشروع “أمزغة الإسلام ” بورغواطة، اسم لم يظهر إلى فضاء التداوال التاريخي إلا مؤخرا، رغم أنه يحمل دلالة وقيمة سياسية ودينية هامة في تاريخ المغرب. فهو اسم الإمارة الأمازيغية التي نشأت على الساحل الأطلسي على امتداد الشريط الرابط بين مدينتي آسفي وسلا عبر منطقة تامسنا، والتي استمر حكمها حوالي أربعة قرون . فقد تأسست دولة بورغواطة من تحالف مجموعة من قبائل مصمودة بعد دخولها الإسلام وثورتها على استبداد الخلافة الأموية وقوادها الأرستقراطيين الذين احتقروا الأمازيغ، ووظفوا الدين كوسيلة للإخضاع وطاعة الحكام، وهذا ما يفسر حضور البعد الخوارجي في الفكر والبناء السياسي لإمارة بورغواطة الأمازيغية التي استطاعت أن تصمد أمام هجومات الفاطميين وإمبراطورية المرابطين، إلى أن استولى عليها الموحدون سنة 1058م، وأقدموا على استيطان بعض الهجرات العربية ببلاد تامسنا . وبما أنه لا توجد، في حدود علمنا، كتابات ووثائق مفصلة عن تاريخ هذه الدولة التي كانت عرضة التعتيم فإن الخيار الذي أقدم عليه البورغواطيون في “أمزغة” الإسلام، وترجمة القرآن الكريم إلى الأمازيغية، يتم تحريفه في بعض الروايات بما يخدم خيارات السلطة السياسية وسعيها إلى تكريس النموذج الإيديولوجي ” للعروبة والإسلام “. كما أن الحضور ” الخوارجي” في المغرب يظل خارج الرواية الرسمية والتاريخ المدرس، رغم الأهمية المعرفية والتاريخية التي تحظي بها مثل هذه الأحداث والثورات وإمكانية الاستفادة من سياقها وأبعادها. فقد ظهرت الثورة الخارجية الأمازيغية بزعامة مسيرة المطغري ثم خالد بن حميد الزناتي حوالي 122 ه، كامتداد للمعارضة التي واجهت جيوش الأمويين، وقد كانت ثورة ضد الحكم العربي، كما كتب محمود إسماعيل . تحريف أنساب الأعلام الأمازيغ : تفصح كتابات العديد من المؤرخين والكتبة المشارفة والأندلسيين عن نزوع عرقي واضح، من خلال تزييفهم للحقائق واحتقار العنصر الأمازيغي والتحامل على تاريخه وأعلامه، فنسبوا كل المأسى والأحداث غير المرغوب فيها إلى ” الذين يعتبرونهم مصدر مصائبهم وهزائمهم باستمرار . فنجد مثلا ، صاحب “تاريخ الإسلام” ينسب كل الهزائم والإخفاقات التي حلت بالعرب إلى “شر البربر”، عند تعليقه عن نزاع الحكم بالأندلس، ومحمد رشيد رضا يرجح في كتابه “الخلافة والإمامة العظمى ” الرأي القائل بأن سبب توقف الجيش الإسلامي في جنوبي فرنسا راجع إلى كون أكثر الجنود ” بربرا “…. هذا النزوع العرقي في الكتابة التاريخية لم يكن يسمح لهؤلاء الكتبة تصور تفوق الأمازيغ وبروز أعلام من بينهم، مما يفسر محاولتهم تزييف نسب هؤلاء أو التقليل من شأنهم. وقد حاول ابن خلدون بل قام بجرد معظم الاحداث الامازيغية وأكد بإعجابه ومحاباته للأمازيغ ! وقبل الفترة الحديثة، فالعديد من الأمراء والكتاب الأمازيغ، كانوا يكتبون باللغة اللاتينية، ومنهم من تجاهلت بعض الآثار والكتابات الواردة من تلك المرحلة، أو التي تناولتها، أصولهم الأمازيغية ونسبتهم إلى الرومان أو الإغريق، ومنهم سان أغسيطين، وأفولاي، ويوبا الثاني الذي نبغ في الفلسفة والأدب واللغة حتى أن الأثينيون نصبوا له تماثلا في أحد مراكزهم الثقافية تقديرا لكفاءته الفكرية . مغالطة الأصل المشرقي يحيل سؤال أصل الأمازيغ على يدين أساسيين، الجانب الأول هو الأجوبة التي حملتها الكتابات والروايات التاريخية التي لا يخفى زيفها نظرا للعوامل والأسباب التي تحكمت فيها، والتي وضحنا بعضها من قبل، واعتمادا أيضا على ما حملته لنا كتابات مؤرخين آخرين، فندوا ما ورد في تخمينات سابقيهم وقدموا معطيات أكثر علمية وأبعد من الخرافة. أما الجانب الثاني ن هذا السؤال فهو دواعي طرحه، وتبني هذه الروايات وإدراجها في التاريخ الرسمي، والمدرس بشكل خاص، بالشكل الذي جعل منها مغالطة معرفية، لا يخفي تبنيها ترسيهما بعده التحريفي ورهانه الإيديولوجي . فالروايات التي تحدثت عن الأصل الشرقي للأمازيغ كثيرة، وكان سياق ورود هذا المعطي في بعضها لا يخفي نوعا من التحامل محول تاريخهم، من جهة، وفقرا في الإسناد والدلائل، من جهة أخرى. وقد فند العلامة عبد الرحمن ابن خلدون ما تضمنته هذه الروايات حول الأصل الشرقي للأمازيغ موضحا بأن “هذه المذاهب كلها بعيدة من الصواب، فأما القول بأنهم من ولد إبراهيم فبعيد، أما القول بأنهم من ولود جالوت أو الصماليق، وأنهم نقلوا من ديار الشام فقول ساقط، يكاد يكون من أحاديث خلافية؟ (…) إلى أن قال “إن اسم ابيهم مازيغ”. وهذه إحدى أقدم النصوص التاريخية، وهي لهيرودوت، وتعود إلى القرن 5 ق.م، تقول :”يعيش بليبيا أي (أي بلاد الأمازيغ) أربعة أجناس إثنان منهما أصليان وآخران مهاجران، فأما الأصليان فهم الليبيون (أي الأمازيغ البيض البشرة) وأما المهاجرون فهما الفينيقيين والإغريق .” إن البحث عن أصل مفترض للسكان الأصليين للمغرب، وتكريس رواية الأصل اليمني، كما في دروس التاريخ المدرسي، يطرح سؤال الغرض والرهان الإيديولوجي للسلطة. “فمن العبث أن يبحث للبربر عن مواطن أصلية غير التي نشأوا فيها منذ ما يقرب من مائة قرن. ومن يتكلف ذلك البحث يستوجب على نفسه أن يطبقه في التماس مواطن أصلية للصينيين مثلا، أو لهنود الهند والسند، أو لقدماء المصريين، أو لليمانيين أنفسهم وللعرب كافة، ليعلم من أين جاؤوا إلى جزيرة العرب “. وإذا علمنا بأن البحث الأركيولوجي أكد وجود الإنسان بالمغرب منذ حوالي مليون سنة، كما أفادت دراسة الهياكل العظمية المستخرجة بسيدي عبد الرحمان والرباط، وبأن المغرب يعتبر من البلدان القلائل في العالم التي أكد البحث العلمي التطور المحلي للإنسان فيها منذ الإنسان المنتصب القامة إلى الإنسان العاقل، فأنه من الواضح أن فكرة الأصل الشرقي لا تعدوا أن تكون مغالطة رسمية، يراد من تدريسها وتداولها حجب أو الانتفاض من مشروعية وحقيقة السكان الأصليين، والتقليل من أهمية وتاريخ العنصر المحلي أمام الأهمية التي استأثر بها تاريخ الأقوام والهجرات والعناصر التي توافدت على أرضهم . ملابسات مغرب القرن العشرين : عرف مغرب القرن العشرين عدة أحداث كبرى لا يزال مسكوت عنها في التاريخ الوطني، والمقررات الدراسية، بشكل يعكس نوعا من هاجس “الأمن المعرفي”. يقوم على إخفاء بعض الحقائق والتغطية على بؤر التوتر التاريخية في البلاد. ورغم أن بعض هذه الأحداث تحضا بأهمية كبرى على مستوى تاريخ الدولة المعاصرة، وبناء النظام السياسي وتحولاته، فإنها لا تزال خارج رواية التاريخ الوطني. فمنها ما يهم ملابسات الأجواء والوقائع التي أعقبت اتفاقية ايكس ليبان وخروج الحماية الفرنسية والإسبانية، ومنها ما يخص التاريخ المحلي الذي كانت وقائعه تدور خارج مجال نفوذ الدولة المركزية، والتجليات الأخرى لأعمال المقاومة وتطوراتها السياسية، خاصة في الريف، ومنها ما يرتبط بتحريف بعض الحقائق ونشر مغالطات إيديولوجية بالشكل الذي سمح للسلطة وبعض النخب المدينية بالتحكمة في الأوضاع وممارسة الإقصاء، وتوجيه الشعور العام بما يخدم مصالحها . هذه المعطيات والأجزاء الخفية من المشهد التاريخي، من شانها أن تفصح عن أشكال وخلفيات الصراعات التي طبعت نشوء واشتغال النظام السياسي والاقتصادي بالمغرب، خاصة على مستوى علاقة الدولة المركزية بالبوادي والجهات وأنظمتها القبلية والمحلية، وعلى مستوى صراع المصالح، وتحالفها أحيانا، بين الملكية وبعض النخب السياسية والمدينية التي كان لها نصيب وافر في العديد من الأحداث والصراعات التي عرفها سياقا دخول الحماية واستقلال المغرب . أسطورة “الظهير البربري ” لوضع حد للارتكاب المتكرر “لاغتيال” الأمازيغية، ويجب إحداث انقلاب ابستمولوجي، أعني بذلك، أن نفكر في “الظهير البربري” من خلال هذا الظهير (…) وهكذا سنحكم على من يستشهد ب”الظهير البريدي” بأنه كذاب ومفتر لأن “الظهير البربري ” لم يوجد أبدا، بل هو أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر. وهكذا تنتهي الأسطورة ويوضع حد للكذب والابتزاز . تنطوي عبارة “الظهير البربري” وتداولها وتوظيفها السياسي في فضاء المغرب المعاصر منذ ثلاثينات القرن العشرين، على تزوير تاريخي ثابت. فقد تم استغلال صدور ظهير 16 ماي 1930 المنظم للمحاكم العرفية، من طرف بعض أعضاء النخبة المدينة والحركة الوطنية، انطلاقات من تحريف حقيقة وفحوى هذا الظهير الذي الصقت به صفة “البربري”، وربطه بالاستعمار والسعي إلى التفرقة والتنصير، وإحاطته بتحوير وهالة إيديولوجية وأسطورية. فسخر الوطنيون المساجد، وقراوا ” اللطيف” الذ ي يتوسل به في حالة المصائب والكوارث، ورفعوا الدعاء بعدم التفرقة بينهم وإخوانهم البربر”، وهو ما لا يحيل عليهم مضمون الظهير الفرنسي المكتوب، والذي لا علاقة له بالظهير المؤسطر الذي حملوه في اسمه وتدواله وتهويله عدة مغالطات، وذاك لتحقيق مصالح فئة معينة وهيمنتها على فضاء المغرب المستقل . الظهير المعني يحمل اسم الظهير المنظم لسير العدالة بالقبائل ذات الأعراف البربرية، ويهم تنظيم المحاكم العرفية في المناطق التي تندم فيها المحاكم الشرعية. وإذا كان من الواضح أن الإدارة العرفية كان لها دور هام في تنظيم وحل النزاعات وتوظيف الأعراف والقوانين المحلية في تيسير الفعل القضائي وتدبير شؤون الأهالي، وأن وجود هذه المحاكم كان في بعض المناطق فقط ولا يتنافى والقضاء الشرعي، بل يتكامل معه، فإنه لم يسجل التاريخ بعد صدور ظهير ماي 1930 أن حصلت على حالات تنصير أو تحالف مع المستعمر في الأوساط الأمازيغية التي عرفت بأوج أحداث المقاومة والتضحية، عكس ما حصل مع فئات أخرى في بعض المدن “الوطنية “. والأنكى من هذا كله، أن هذا التحريف والتوظيف الإيديولوجي كان هو الورقة التي استغلت بشكل معرض لإقصاء كل ما يرتبط بالأمازيغية من فضاء النقاش والتفكير السياسي والثقافي، وعلى مستوى اللاشعور الفردي والجماعي، وإقرانها بالتفرقة والنزوع العنصري. وقد كان هذا هو التبربر الذي قام على تحريف التاريخ لخلق أسطورة بهواجس سياسية، شكلت الإطار المرجعي الذي تحكم في إقصاء الأمازيغية منذ حوالي ثمانين سنة، وإبقائها على تخوم الهامش خارج دائرة التداول والتدبير السياسي والثقافي الوطني . الريف بين المقاومة ولجمهورية نتيجة للتعتيم الذي خيم على مختلف الأحداث التي عرفتها منطقة الريف بشمال المغرب منذ أوائل القرن العشرين، ظهرت خلال السنوات الأخيرة عدة مبادرات على مستوى البحث والكتابة حاولت إثارة التاريخ المحلي للريف، والوقوف عند العديد من الوقائع الهامة التي كان هذا المجال مسرحا لها، وقد اهتمت هذه الكتابات بالأحداث والتداخلات العسكرية التي عرفها الريف، والوقوف عند العديد من الوقائع الهامة التي كان هذا المجال مسرحا لها. وقد اهتمت هذه الكتابات بالأحداث والتداخلات العسكرية التي عرفها الريف منذ إعلان الجمهورية الريفية سنة 1921، وتاريخ المقاومة المحلية للاستعمار الإسباني وعنف المواجهات التي انتهت بحية الغازات الإبادية، مرورا بالسنوات الموالية لاتفاقية إيكس ليبان وما عرفته سنتي 1957 و1958 من أحداث اغتيال عباس مساعدي تعد محاولة عزله من مسؤولية قيادة جيش التحرير ووقف المقاومة المستمرة، وملابسات هذا الاغتيال الذي تورط فيه بعض أعضاء الحركة الوطنية، حسب مضمون بعض هذه الشهادات والكتابات . تنضاف إلى هذه السيرورة، أحداث فبراير 1957 التي تعرضت خلالها القرى والجبال الريفية لقصف جوي مكثف لسحق انتفاضتها، بمشاركة الملك الراحل الحسن الثاني والجنرال أوفقير وانتهاء بواقع التهميش والعقاب الجماعي الذي تعرضت له المنطقة على امتداد عشرات السنوات مما كرس لجو التوتر والصراع الذي تخللته أحداث أخرى كما وقع سنة 1984، إلى حدود مشروع المصالحة وجبر الضرر الجماعي اليوم . فجل هذه الإصدارات تعكس حسا نضاليا يروم استجلاء الحقائق، كما يتضح من مدلول عناوينها التاي تمجد الأحداث وتشييد بالمقاومة وتقرنها بالدم والحصار والملاحم والمنسي والمهمش والاحتراق… وقد أفصح بعضها على أن الريف كان ضحية القمع والتآمر والتقاء مصالح الأطراف التي حمكها سياف تأسيس الدولة المركزية، ومصلحة الملكية وحزب الاستقلال . وتستبعد بعض الروايات البعد الانفصالي لثورات وانتفاضات الريف، واعتبرت إعلان الجمهورية الريفية التي كانت عاصمتها هي أجدير، مجرد تكتيك سياسي لعبد الكريم الخطابي من أجل كسب تأييد فرنسا والأحزاب الشيوعية والقومية الأوروبية والعربية، رغم أن بيان الجمهورية تضمن في بنده الأول إعلان الريف دولة مستقلة، إضافة إلى القطيعة التي تفصل جيش التحرير الريفي عن أعضاء “الحركة الوطنية”، وتعبير الأمير عبد الكريم الخطابي عن مشرع توسيع المجال الجمهوري سنة 1925، مما استعجل قيام فرنسا وإستابنيا بهجوم مشترك لإسقاط جمهورية الريف . عدى وبيهي ومأساة الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي مسقط رأس عدى وبيهي هو قرية “كراندوا ” بالقرب من مركز “الريش” وبمحاذاة قرية “تيجان” التي شيد بها معتقل تازممارت الشهير . وقد ارتبط اسمه بالأحداث التي عرفها الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي خلال السنوات الموالية لاتفاقية إيكس ليبان، واستقلال المغرب. فقد كان عدي وبيهي حنيها يفشل منصب عامل إقليمالراشيدية، وتزعم ثورة ضد الحكم وزعماء الحركة الوطنية الذين عملوا على عزله من منصبه والحكم عليه بالسجن ثم الإعدام، هو الذي كانت تربطه علاقة ولاء مع الملك محمد الخامس كما أكدت ذلك عدة مصادر وشهادات، ورغم مساندته من طرف الحسن اليوسي الذي كان حينها يشغل منصب وزير التاج ! فقد أكد عبد الهادي بوطالب في شهادته أن السبب الرئيسي في قمع عدي وبيهي سنة 1957 هو غضب حزب الاستقلال عليه لأنه لم يكن يسمح لأعضائه بالقيام بأنشطة حزبية في إقليمه. وفي جمهورية أمازيغية بالأطلس المتوسط أجاب بوطالب بأن هذا غير صحيح (…)، وأكد أن سعي حزب الاستقلال إلى الاستئثار بالحكم والسلطة والولاة والوزراء، هو ما أثار لدي رجال القبائل حزازات ومخاوف، مما كان يدفعهم إلى مناهضة الحكومة. وقد امتدت هذه الرغبة في الهيمنة والاستفراد والحكم إلى مواجهة خيار التعددية السياسية واعتقال بعض ممثلي القبائل والمناطق القروية الأمازيغية سنة 1958 . لم يكن حدث قمع وسجن وإعدام عدى وبيهي نهاية مأساة الجنوب الشرقي، بل استمت معاناة هذه المنطقة في شكل عقاب جماعي بعد أن شيد بها معتقل تازممارت، وعزل المنطقة عن محيطها بما يخدم التصور الأمني والتعتيمي للمعتقل، مما سبب في استباحة كرامة الامازيغ وأعراضهم من طرف الجنود والمتدرعين بحساسية الموقع والمجال للممارسة الهيمنة والإذلال . مقاومة الأمازيغ وهيمنة الحركة الوطنية أيت عبلا، وأيت بعمران، وبوكافر، وبزيان… وغيرها من المناطق الأمازيغية التي شهدت أهم أحداث المقاومة والتصدي للاستعماريين الفرنسي والاسباني، لم تحظى في تاريخ المقاومة الرسمي سوى بحضور هامشي، بشكل يعكس مدى الانتقالية والهيمنة الإيديولوجية التي تتحكم في رواية التاريخ الوطني . فانتصارات عسو بسلام، ومقاوم هذا الأمازيغي من أبناء بوكافر في قمم جبل صاغرو، لم تنل حظها في هذا التاريخ الذي تحتله أنشطة ووقائع رسمية أقل شأنا مما صنعه أيت بوكافر. فعلى امتداد سنة 1933 قاد عسو انتفاضة قبائل أيت عطا ضد الزحف الفرنسي، واستطاعوا أن يكبدو فرنسا خسائر كبرى في الضباط والجنود رغم قوة العتاد واستعمال الطيران لقصف المخابئ الجبلية وضرب الحصار على السكان البسطاء وحملهم على الاستسلام . موحى وحمو قاد بدوره انتفاضته ومقاومة قبائل زيان ابتداء من سنة 1914، وحقق انتصارات هامة في معركة الهري قرب خنيفرة، وأخر استعمار الأطلس المتوسط والجنوب الشرقي إلى سنة 1921. أما أيت عبلا بإقليمتارودانت، أيت بعمران بنواحي تزنيت، فقد شهدت أكبر الأحداث التي جسدت صمود وقوة المقاومة، حيث انتفض ايت بعمران ضد الإسبان على امتداد سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، رغم محاولة استمالتهم بقانون التجنيس، كما كانت منطقة أيت عبلا القلعة الجبلية التي استطاعت أن تقاوم ترسانة الجنود والعتاد الفرنسي، لتكون آخر نقطة دخلها الاستعمار . فجل هذه الأسماء والمناطق التي صنعت بطولات المقاومة وجيش التحرير والمقاومة الجبلية الأمازيغية، لا تزال على هامش التاريخ الوطني الذي هيمنت عليه المدن والعائلات المدينية وقيادات الحركية الوطنية . في الأخير لقد لعب المكون الأمازيغي على امتداد تاريخ المغرب دورا محوريا في الدفاع عن البلاد، ومواجهة الاستعمار والدول الوافدة، بل أن “أيمازيغن” كانا الطرف الذي ارتبط وجوده ومصالحه على الدوام بمصلحة البلاد، في عز فترات التوتر والصراع التي عرفتها سيرورة تقلب الحكم وتضارب المصالح، وتحالف أطراف أخرى مع الدول الأجنبية . وعبر تاريخهم الحافل بالأحداث والمقاومة ومواجهة حملات الإمبراطوريات والشعوب التي توافدت على شمال إفريقيا، لا يزال الأمازيغ في موفق المدافع عن وجوده وأرضه، وعن حقه في معرفة الحقائق، وعرض الروايات كاملة وإنصاف التاريخ، وكأن قدرهم أن يضلوا في موقف الدفاع عن الوجود. الوجود التاريخي أولا، ثم الاجتماعي الثقافي والهوياتي …في الراهن والمستقبل ثانيا . إن تاريخ المغرب لم يبدأ مع مجيء إدريس الأول، ولا مع بناء فاس أو سقوط الأندلس، ولا حتى مع نزول الفينيقيين على سواحل “تامازغا”. وكل التواريخ والمعلومات التي يقدمها التاريخ الرسمي، وتحفل بها كراسات التاريخ المدرسي، وحفظها المغاربة عن ظهر قلب، فهي تهم تاريخ السلطة والحكام والعائلات والسلالات التي عاقبت على أرض مراكش. أما تاريخ الإنسان الذي سكن هذه الأرض، ووجوده الاجتماعي والسياسي وتنظيماته المحلية، وسجل انتصاراته وإخفاقاته وإنجازاته ومقاوماته…، فيظل منحصرا بين صفحات بعض الكتابات والأبحاث النادرة، ولم يجد بعد طريقة إلى الرواية التاريخية الوطنية وإلى الفصول والكراسات التعليمية . فالمصالحة مع التاريخ تبدأ من هنا، من رفع التعتيم عن تاريخ المغرب منذ العصر القديم، وتصحيح كافة المغالطات والأساطير التي يحفل بها التاريخ الرسمي، والإفصاح عن الأحداث والنصف الآخر من الحقائق المغيبة، واعتماد مقاربة علمية ونزيهة في إعادة كتابة تاريخنا الوطني بالشكل الذي يسمح بإدراج مختلف نتائج البحوث العلمية والكتابات التصحيحية والشهادات المتوفرة، بعيدا عن هواجس السلطة، ودون الرغبة في الهيمنة التي يغذيها الخوف من التاريخ.