كل معرفة هي سلطة بالوجوب والضرورة،غير أن كل سلطة لاتعني أنها معرفة. هكذا يتحايل ميشيل فوكو على المفهومين عاملا على تثبيتهما في اطار "الاركيويولوجيا" ليرسم حفريات للمعني والمبنى. ولا تعني النظام السياسي للدولة أو أنظمتها الأمنية إن أي سلطة غير مخيفة وتفرض وجود المحاكم المستقلة والعادلة.فالحديث عن السلطة يرتبط عضويا بالمؤسسة،سواء الأسرة أو الشارع أو المدرسة أو المجتمع أو السجن. هناك ألف سلطة أخطر من هذه السلطة : " سلطة العائلة" ،تلك التي تحاول أن تجعل منك "كلب حراسة أو ضابط إيقاع" لحياة بسيطة ومتفائلة ترنو إلى الوطن والخير والجمال والسكينة. تدفعك أن تكون حارسا لشارع ضيق مليء بالمطبات والحفر وعربات الخص والبطاطس والبرتقال، المعاكسة للتيار الطرقي أو الهوائي وهما سواء في زحمة الحياة. فالمجتمع،تلك المؤسسة التي علمتك منذ طفولتك الاولى أن الغناء في الشارع "عيب"، والنظر إلى عيون النساء عيب أكبر،واقتراف الكتابة جريمة والتأمل ارتكاب كبيرة. ولاعجب أن "الأنا الأعلى" والضمير الجمعي يصبح "رقيبا" بدون حسيب ولا أقصد الرقيب الذي يحمل مقصه استعدادا لبتر جزء من مقال محرج للسلطة وإنما أعني الرقيب" الذي يسكن في داخلك ، ويتنفس معك ، وينام على أطراف أصابعك ، ويجعلك تلتهم علبة سجائر بحثا عن جملة أقل حدة وأنت تضيع في متاهة أنطولوجية بدون قعر. الرقيب الذي يسكنك يا صديقي أخطر ألف مرة وأشد قسوة من رقيب وزارة الإتصال ، فالأخير تستطيع أن تراوغه،بينما الآخر هو الذي يراوغك ويمارس عليك غوايته باستمرار. ويحدث أن تجد ذاتك وأنت تقدمها قربانا لسلطة الناقد الذي يهدمك دون أن يعيد بناءك،والذي لا يستطيع أن يصل الى روح الفلاّح وراعي الغنم في السفوح والفلوات والتلال ، وتلك المراعي التي تسكنك، ويتعامل مع نباتاتك كما يتعامل مهندس زراعي مع نباتات المحميات المغطاة بفظاظة في أغلب الوقت. ويكفي أن تعرج على "الجماعة" التي تخالف السنّة لتقف على سلطة المتطرفين في الدين، عندما يقيسك بعضهم بمنطق : أنا “أكفّر" إذا أنا موجود ككوجيطو محدث للحداثة الدينية في زمن الرجعية التي ألغت الاختلاف والمغايرة وأذابت الهوية شرق المتوسط. أيها الصديق، قبل أن تكتب مقالتك القادمة ، حاول أن تتخلص من كل هؤلاء، وتأكد أنهم جميعا سيركضون وراءك كنت أو لم تكن،شئت أم لم تشأ ! .. بعضهم لكي يتخلص منكم بذبحك رمزيا من الوريد إلى الوريد ويقطعك إربا إربا .. والبعض الآخر لكي تتخلص منهم، وبعضهم لكي يقبلوا جبينك ، ويؤكدوا صداقتهم لك بكل محبة وإخلاص،في حين أن الآخر الذي بقي في ذلك المكان القصي خوفا من الاقتراب سيشغّل مفكرته ليحولها إلى سؤال يجنبه خوفه المرضي. رشيد الكامل.