أصل كلمة بلطجة البلطجة صفةُ البلطجي وممارسته. والبلطجي كلمةٌ تركية مركبة من شقين: "البلطة"، وهي الشاقور الذي يشق به الخشب، و"جي"، وهي أداة النسبة، وعليه فالترجمة الحرفية للبلطجي هي الشاقوري. لم تكن النسبة إلى البلطة قدحيةً في بداية أمرها، فقد كان الجيش التركي يحتوي على فرقة تقاتل بالبلطات، تعرف بالبلطجية. وعندما مالت الخلافة التركية إلى الانحدار، ودب الموت في أطراف "الرجل المريض"، ساءت أحوال أعضاء هذه الفرقة في مصر، وصاروا يأتون سلوكات عنيفة خارجة عن القانون، فبدأ اللفظ يُشحن بمعنى قدحي، ثم سرعان ما استعير لكل من يأتي سلوكَ أفراد تلك الفرقة، أي قطع الطريق والاعتداء على الناس جسديا ولفظيا. ويبدو أن البلاطجة تصارعوا على مواقع النفوذ فتحول البلاطجة إلى عصابات يقود كل واحدة منها مصارع لا يقهر يسمي "فتوة". يفرض الفتوة نفسه على منافسيه ثم يستعملهم في إخضاع السكان وحماية مجال نفوذه من الأفراد "المتمردين" والدخلاء مقابلَ إتاوات يحددها حسب مزاجه. "وكانت الحكومات تستعين بالفتوات لمقاومة البلطجية المارقين وأعمالهم إلي أن جاءت ثورة يوليو وتدريجيا بدأت تبسط يدها الأمنية علي كل ربوع مصر، وهنا كانت نهاية البلطجة والفتونة تماماً , إلي أن عاد لمصر منذ ثلاثين عاماً عهد ظالم وفاسد فبدأت تظهر البلطجة من جديد"[1]. النوع الجديد من البلطجية المشار إليه يتمثل في الحراس الشخصيين للشخصيات النافذة الخارجة عن القانون (ال "بودي گارد" بالإنجليزية، وال "گارد كور" بالفرنسية)، ويتمثل بشكل أخطر في المجرمين الذين يرعاهم ضباط الشرطة كمخبرين في ميادين الجريمة ويستعملونهم في الوقت المناسب لترويع السكان وارتكاب الجرائم، وهناك نوع ثالث مشتق من النوعين السابقين يستعمله الأعيان في مجال السياسة خاصة في فترات الانتخابات، يروعون به الخصوم ويستولون على الدوائر الانتخابية. ومن هذه الأنواع خرج نموذج الشَّبِّيحة السورية التي تردد شعارات خطيرة من بينها: "بشار نام لا تهتم، احنا رجالك نشرب دم". وهي عصابات مسلحة تحترف الإجرام قامت بمهاجمة المتظاهرين ضد النظام. ولعل القارئ يستخلص بسهولة أن بعض الحكام العرب الحاليين (ومن شاء أن يعمم فذلك شأنه) تحولوا في أحسن الأحوال إلى فتوات يبتزون شعوبهم. وقد كافحنا في المغرب طويلا للخروج من هذا الوضع الذي سعى المخزن لترسيخه بصناعة الأحزاب الزائفة والأجهزة السرية غير المنضبطة للقانون. وبهذا المفهوم يمكن أن نتفاءل فنعتبر حسني مبارك آخر فتوات مصر، أي آخر البلاطجة الذين يرأسون عصابة تبتز الشعب. وفي عصره، وبسببه، تحول لفظ البلطجة من معناه الأول الاجتماعي إلى الميادين السياسية والصحفية والفكرية. ونزلت مصر من قمة التنوير مع طه حسين وقاسم أمين إلى حضيض الهوان مع من لا أذكر أسماءهم من المتسولين بالعلم والثقافة. وأنا اليوم سعيد شخصيا بأن أراها تعود إلى موقعها الطبيعي كجزء من قاطرة الجر العربي بعد أن كانت قاطرة معطلة تستنزف الطاقة بدون جدوى. وكما زوَّد الأطفال الفلسطينيون المعجمَ الثوري العالمي بلفظ "الانتفاضة" مصحوبة بالحجارة (انتفاضة أطفال الحجارة)، فقد دفع شباب ثورة الكرامة بلفظ البلطجة نحو التداول الواسع كمفهوم أساسي كبير من مفاهيم الصراع مصحوبا، هذه المرة، بصورة البغال والجمال والحمير وهي ترفس المتظاهرين في ميدان التحرير، ولكل "ميدان"، ماديا كان أو معنويا، بغاله وحميره وجماله. لقد بسط لفظُ البلطجة معناهُ ليشمل فئات ما كانت تظن يوما أنها تنتمي إلى هذا الصنف من المخلوقات، وهذا يقتضي إعادة ترتيب وتصنيف السلوكات والخطابات الداخلة في منطق "قطاع الطرق، جميع الطرق". أخذت كلمة بلطجة رحلتها نحو العالمية بالانتقال من مصر إلى باقي البلاد العربية من صنعاء إلى فاس، ومن نواكشوط إلى المنامة... السوريون وحدهم وجدوا ضرورة لإضافة لفظ آخر يبرز خصوصية محلية خطيرة: الشبِّيحة، وهي عصابات مسلحة يقال أن الحكم جندها خارج أجهزته المعلنة. البلطجة السياسية والثقافية ما هي العلاقة إذن بين المعنى الأصلي الاجتماعي المحلي للبلطجة وبين المعنى السياسي والثقافي الجديد الذي عم العالم العربي؟ هناك اتصال، وهناك انفصال! البلطجي السياسي والثقافي الحالي هو أيضا "قاطع طريق"، هو الشخص الذي يعوق حركة الثوري نحو المستقبل، لا من أجل الرجوع إلى الماضي البدائي، كما هو حال سلفه الذي كان يعمل لحسابه الخاص فارضا نظام الغاب، ولكن لحماية حاكم مستبد يمثل الماضي ويعيش فيه، حاكم من عينة بن علي ومبارك والقذافي وعلي صالح...الخ. ستقول لي هذا هو المرتزق بعينه، وهو معروف، فما الداعي إلى استعمال لفظ جديد؟ وهل كل من سخر (أو أجَّر) بندقيته أو قلمه لنظام قائم يعتبر مرتزقا؟ الجواب هو أن "البلطجة" الجديدة ذاتُ وجهين: وجه صلب (هارد وير) ووجه ناعم (سوفت وير)، الوجه الصلب مكشوف، هو الارتزاق الصريح الذي يقابلك بوجه وقح. الوجه الارتزاقي الفج هو الذي استعمله القذافي حين اعتمد على الأجانب من مرتزقة البوليزاريو وغيرهم من الأفارقة، واستعمله مبارك حين فتح أبواب السجن للمجرمين ثم ألبس قوات أمنه لباسا مدنيا ودفع بالجميع لقتل الثوار ورفسهم بالسيارات والحيوانات، هو الذي استعمله النظام السوري حين أطلق الشبيحة على الثوار ..وهلُمَّجرا. وفي امتداد هذا الارتزاق الفج يوجد طابور من الصحفيين وأشباه المثقفين الذين يتلونون كالحرباء بلون البيئة التي يمرون بها، ويتنقلون بين الهيئات والأحزاب كما تتنقل السوائم حسب الماء والمرعى، وهم كثيرون في المسخ العربي الراهن..الخ. هذا هو الوجه الفج للبلطجة الذي يُحيل بقوة على المعنى الاجتماعي الإجرامي. أما الوجه الناعم فهو مُقنَّع بقناع الاختلاف، يقول لك البلطجي المقنع: أنت تريد ذاك البعيد، ونحن نريد هذا القريب، والاختلاف مشروع، بل هو رحمة. ولذلك فإنك تحتاج، في إماطة اللثام عن هذا الوجه، إلى تحليل خطابه ومراقبة حركاته. فهو أقرب، في طرف منه، إلى البراءة. إنه بلطجية المستفيدين من الوضع القائم، ولو كانوا من المثقفين أو حتى من المناضلين القدماء أو "علماء" الدين المأجورين، بلطجية المستلبين والانهزاميين والخائفين من المستقبل . فاللحظة الثورية الحالية كانت مباغتة وغير متوقعة، لا أحد استطاع أن يقرأ حساباتها أو يستشف آفاقها. البلطجة الناعمة هي التي تهمنا في المغرب، وإليها أهدي هذا المقال. فمن حسن حظنا في هذا البلد رغم كل المظالم أننا لم نعبُر إلى الضفة الأخرى، وأتمنى أن يفهم المخزن نفسه ويؤدي ديونا ومتأخرات كثيرة عليه تلافيا لكل توتر أو تشنج لا تحمد عواقبه، إن اللحظة ليست لحظة عاربة تنفع فيها المراوغة، إنه استحقاق تاريخي. لقد حاول النظام المصري أن يراوغ بكل الوسائل ولكن الشباب كانوا يقرؤون حيلَه ويردون عليها واحدة تلو الأخرى إلى أن دخلوا عش زنابير المخابرات فشتتوه. تتظاهر البلطجة الناعمة بتبني سلوك الثوار، فتهبط هي الأخرى إلى الشارع للتظاهر تعبيرا عن وجهة نظرها في الحب والولاء. غير أن الطبع يغلب التطبع، كما يقال، فسرعان ما يفضحها منطقها وسلوكها في الميدان. فما هو هذا المنطق وذلك السلوك الفاضحان: يقول الثوار في البداية: نريد الإصلاح، نريد إسقاط الفساد، نريد محاكمة لصوص المال العام، نريد الفصل بين سلطة السياسة وسلطة المال، نريد إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، نريد رفع قانون الطوارئ...نريد الكرامة...إلى آخر لائحة الشعارات المتجهة إلى الموضوع والفعل المرفوعة في ساحات وميادين التحرير. فيجيب البلاطجة جميعا وبصوت واحد: نريد الرئيس... نحب الملك... يا أعداء الرئيس يا أعداء الملك!! تقول الشبيحة في درعة السورية، مثلا: "بشار نام لا تهتم، حنا رجالك نشرب دم"، فيتردد صداها في فاس المغربية: "موت موت ألعدو، الملك عندو شعبو". كلاهما يريد الموت لمن يطالب بمحاربة الفساد. وهكذا يفرون من الموضوع (محاربة الفساد) إلى الذات، إلى الفاعل (التمسك بالرئيس). ولازم كلامهم هذا ومؤداه أن رفع تلك المظالم يمس بالرئيس ويسيئ إلى الملك، وكأن وجود الرئيس وتوقير الملك مشروطان باستمرار تلك المفاسد!! كأنه هو حاميها، إنه منطق فاضح. ولذلك كان من المنطقي أن يرد عليهم الثوار في الكثير من البلاد العربية التي تأكد فيها تسخير النظام للبلاطجة: "الشعب يريد إسقاط النظام"... "إرحل، إرحل ياعلي!"... من علامات التظاهر البلطجي أنه لا يملك برنامجا مستقلا عن برنامج الثوار، بل يرتبط به زمنا ويجاوره مكانا، وهو لذلك قصير النفس. وفي هذه الحالة يسقط قناع التظاهر السلمي الموازي ويبدأ عمل المرتزقة. لقد اتعظت السلطات في المغرب لحد الآن مما وقع في البلاد العربية المشتعلة حيث أدى الاعتماد على البلاطجة في تونس ومصر إلى إراقة الدماء وتصاعد المطالب وتعقيد الوضع وسد باب الحوار، ولذلك رفضت وزارة الداخلية المغربية الترخيص لتظاهراتهم، فأصيبوا بالخذلان وانكسرت شوكتهم. فهم ليسوا مستعدين لتحدى السلطة، كما يفعل الشباب الثائر، بل ينتظرون أن يُسجلوا في صحائف المقربين، ولذلك باءت كل محاولاتهم بالفشل. على الأنتيرنيت فديوات تصور عدة محاولات لهم تثير الشفقة، واحدة منها تضم كمشة من الأشخاص في ساحة الحمام بالدار البيضاء، يحمل أصحابها صورة الملك افتراء عليه، كما يحملون العلم المغربي وكأنهم في مسيرة نحو تيندوف، ويقول خطيبهم نريد محاربة الفساد! وقد شاهدتُ شخصيا محاولة بلطجية بمدينة فاس أوائل شهر أبريل على هامش تظاهرة لشباب 20 فبراير بساحة فلورانس (والأولى أن تسمى من الآن: ساحة الحرية). بدأ البلاطجة برفع شعارات حب الملك وتخوين المتظاهرين ("موت موت ألعدو، الملك عندو شعبو") وانتهوا بالكلام الفاحش ومحاولة قطر الطريق على المسيرة. ولكن نَفَسَ الشباب كان أطول، وقفوا في هدوء يرتبون صفوفهم ويرددون: "سلمية سلمية، حركةٌ شعبية، حنا ماشي بلطجية"، حتى انقطعت أنفاس تلك المجموعة المناوئة فتلاشت تلقائيا، وسارت المسيرة تجوب شوارع المدينةالجديدة مستقطبة مزيدا من المواطنين في يوم كانت فيه بادية فاس والجبال المحيطة بها تسحر القلوب. قرأتُ فيما بعد في الصحافة أن تلك المجموعة المناوئة كانت محرَّكة من قِبَل عمدة المدينة، كما قرأت أنه هاجم الشباب في أحد اجتماعات المجلس بدون مناسبة، واتهمهم، على هدي من القذافي، بتناول المخدرات. وهو مضطر لذلك، فقد كانوا يرفعون شعارا يجمعه مع الوالي في تهمة غليظة. "شباط والوالي، كذا كذا بَلْعلالي"! وكان هذا الشعار يشعل تلك المجموعة المناوئة. ومن الأقنعة الحجاجية التي يقتنيها هذا الوجه من البلطجة الدعوةُ إلى الاحتكام إلى الأجهزة القائمة (حكومة وبرلمان...) احتراما للشرعية وتجنبا للفراغ. استعملت هذه الدعوى في تونس ومصر، وهي تُستعمل، الآن، في اليمن وغيرها من البلاد العربية. وهذه الدعوى تتجاهل كون تلك الأجهزة تفتقد أية شرعية، هي والفراغ أخوان: أكثر الأنظمة كانت تعيش تحت نظام حالة الطوارئ بأجهزة برلمانية وحكومية مزورة. وحين يثور الشعب يأخذ شرعيته بيده، ويعيد ترتيب قواعد اللعبة، وإلا وجب الاستسلام للمستبدين إلى الأبد. ولذلك يرد المتظاهرون بالمطالبة بحل تلك الأجهزة وحل الحزب الإداري المحتمي داخلها. ومن الحجاج البلطجي الفاسد ما سمعناه، بعد الخطاب الملكي الواعد، من بعض المأجورين حين دعوا الشباب الثائر والأحزاب المساندة له إلى التعبير عن روح ديموقراطية وانتظار أن تنتهي اللجنة الاستشارية من وضع الدستور وعرضه على أنظار الشعب، فإن هو لم يعجبهم صوتوا ضده. وقد انطلت هذه المغالطة علي بعض ذوي النوايا الحسنة فصاروا يرددونه، ولكنها لم تنطوِ على أصحاب القضية، فكان الاصطدام يوم 13 مارس، وفهمت الدولة نفسه، فسُقط مرة أخرى في يد البلطجية الصحفية. فأصحاب هذه المغالطة يعلمون أن الثورة قامت، من جملة ما قامت ضده، على أسلوب العمل، على أسلوب التعيينات الفوقية، ويعلمون أن المغرب قضى حوالي أربعة عقود في الصراع من أجل الحق في المشاركة في وضع الدستور (المجلس الدستوري)، وهم يعلمون أن النسق المخزني الذي يكافح اليوم من أجل البقاء والاستمرار بأشكال أقل بشاعة قد هيأ نسقا متكاملا للتزوير لا يمكن التغلب عليه إلا بالدخول في صراع وجودي تُسمى فيه الأشياء بمسمياتها، ويقلب عاليها سافلها. وهذا ما لا يسمح به الوضع الراهن للمغرب: الوحدة الوطنية والجوار العدواني، الخطر الأصولي الداخلي والخارجي، هشاشة الوضع الاقتصادي ، أملنا كبير في تحول هادئ يصون الطاقات ويجنب المزالق. من الحجج التي أشهرها منظرو البلطجة السياسية عدم تمثيل الثوار لكل الشعب حين يقولون: الشعب يريد..! قالوا: أقصى ما أمكن حشده من المتظاهرين المصريين هو ثمانية ملايين، وهذا الرقم لا يتجاوز عشرة بالمئة من الشعب المصري. وأقصى ما حشدته أولُ تظاهرة مغربية مائة وخمسون ألف، وهي نسبة قليلية بمقياس الاستفتاءات. وهذه حجة لا قيمة لها، لأن لحظة التحرر ليست لحظة انتخابية، بل هي لحظة استثنائية يلعب الشعب فيها دور الحاضن لطليعته المجاهدة، لا دور المنافس لها، وبتلك الحضانة تنتصر وبدونها تُنبذ فتنكشف وتنهزم. هذا ما يقع حين ينبذ الشعب جسما غريبا استعمارا كان أم استبدادا أم تطرفا دينيا. وقد استعمل الاحتلال الفرنسي هذه الحجة الزائفة ضد المقاومة وحشَد سكان البوادي ضد المدن مستعينا ببلطجة ذلك الزمن الذين سموا خونة، وانتصرت القلة الفدائية لأنها كانت محتضنة وانهزم البلطجية برغم كل الدعم الذي قدمه لهم الاستعمار. المهم في لحظة الثورة هو الاحتضان والإمداد بالرجال والعتاد لتستمر الحياة. الإرهاب سيندحر في المغرب لأنه غير محتضن حتى ولو تقنع بالإسلام، والثورة ستنتصر لأنها نبض الشعب: الشعب يريد إسقاط الفساد. الشعب يرى الفساد رأيَ العين بمظاهره ورموزه، مقترفيه وحماته، ويريد الخلاص منه، ولذلك يبارك من يتقدم الصفوف. وقد حضرت مشهدا رائعا مؤثرا في مدينة المحمدية يوم 24 أبريل، فحين توسطت المسرة الضخمة التي عرفتها المدينةُ شارعُ فلسطين خرج سكان العمارات المجاورة إلى الشرف يصفقون ويرددون الشعارات مع المتظاهرين فتوقف المتظاهرون يردون التحية، هذا هو استفتاء الثورات. وهؤلاء السكان هم أنفسهم الذين يتحولون إلى "مخبرين" (بمعنى إيجابي هذه المرة) كلما حاول متطرف مجرم الاختباء بين صفوفهم ولو تقنع بالدين. هذه نماذج أما استقصاء أوجه وأساليب المغالطات البلطجة السياسية والفكرية فيحتاج إلى أطروحة كاملة، وسنعود للموضوع. في تخوم البلطجة: بعيدا عن بلاطجة الشارع المسخرين لتمثيل أدوار المكافئ الديمقراطي السلمي للثوار، بعيدا عن الصحفيين الذين ينظِّرون لهم، الصحفيون الذين احترفوا، من زمان، الهجومَ على كل من يشير بإصبع اتهام أو استفهام للأنظمة المستبدة. بعيدا عن هذين الفريقين هناك منطقة التباس كبيرة وقع فيها فنانون ومثقفون كبار، فنانون من عيار عادل إمام! فعادل إمام الذي طالما سخِر من الاستبداد والمستبدين وجد نفسه يتبلطج ويُدين الثوار. وعندما حاول التراجع عن الإدانة سلك طريق التهوين والسخرية: لن ينزل إلى الميدان لأنه خائف من "عصايا تقع على رأسه فتشغله عن التصوير": تصوير فيلم أهم من ثورة مصر. (والحديث عن الفنانين لا يسمح لنا بالحديث عن شخص أمي حقيقة لا مجازا حَشرجَ أغنية رديئة تبرأ فيها من ثورة "آكلي رمضان" و"أصحاب اللحى"، فهو نفسه يسمى الخاسر، وقد أخذ من يستحقه من الشباب على النيت. مثل هذا الخاسر مثل المتطرف السلفي الذي ما كادت قدماه تتجاوزان باب السجن بفضل ثورة الشباب حتى قلب لهم ظهر المجن، ودعا إلى تطهير الحركة من آكلي رمضان والمثليين .. وعندما حاصره النقد والإدانة أبدى تراجعا عن كلامه بطريقة مغالطة في منتهى السذاجة: "أنا لا أعرف أي واحد من هذه الحركة يأكل رمضان...). بعيدا عن هذه الفئة، وفي منطقة شديدة الالتباس، يمكن ترتيب مواقف ثلاثة من المثقفين المشهورين الذين يمكن تصنيفهم في صف التنوير فإذا بهم يتعثرون في سياج البلطجة. الأول هو محمد الهاشمي صاحب قناة المستقلة الذي ظل سنوات يدعو إلى الاقتداء بالنموذج البريطاني في الحرية وحقوق الإنسان، وعندما ثار مواطنوه على الدكتاتور بن علي سخَّر كل طاقته لإقناعهم بضرورة التعاون مع "الرئيس". اصطنع مسرحية استفتاء على الهواء، سأل المشاهدين التونسيين بما مضمونه: هل تفضلون التعاون مع ابن علي لتحقيق الإصلاح الذي تطالبون به، وهو غير ممتنع، أم تودون الاستمرار في الثورة إلى نهايتها..مع كل الاحتمالات؟ واتصل تلفونيا بالرئيس بن علي الذي وعده بالاستجابة لبعض مطالب المتظاهرين. كانت النتيجة المفبركة التي أعلنها محمد الهاشمي هي 18 صوتا لصالح التعاون مع بن علي وصوتان مع الاستمرار في الثورة. وبذلك أقام البرهان على أن "التونسيون يحبون رئيسهم"! من سوء حظه أن الأحداث تسارعت في ذلك المساء؛ فر بن علي، فسُقط في يد المناضل المغترب الذي انفصل، مكرها، عن حركة النهضة، ومن ذلك المساء إلى اليوم وهو يتجرع مرارة ذلك الموقف. والنموذج الثاني هو الباحث العربي المشهور جابر عصفور الذي ركب السفينة وهي تغرق فأصيب بالدوار ونزل منها مطأطأ الرأس. لقد قبِل زميلنا عصفور شغْل منصب وزير الثقافة في حكومة مبارك في اللحظة التي كانت الجماهير تقول لمبارك: ارحل يا رايس! ثم حمل أحدهم لا فتة كتب عليها بسخرية: ما ترحل يدي توجعني! لم يشغل جابر عصفور ذلك المنصب غير أيام معدود تساقطت عليه فيها عبارات اللوم والتأنيب من كل أصقاع المعمور، توعك صحيا واستقال. وقد أعلن بعد ذلك أنه سيتخلى حتى عن الجائزة التي منحها إياه معمر القذافي، لا يستحق الرجل هذه العثرة في آخر حياة مليئة بالعمل العلمي والثقافي. رغم أن النظام في المغرب استبقَ الأحداث ونفَّس الأزمة، إلى حين ظهور النتائج، واستغنى عن خدمات البطجية الميدانية، مكتفيا، إلى الآن، بالبلطجية المؤسساتية، فيمكن اعتبار تصريح الباحث السوسيولوجي المتميز محمد الطوزي خطوة نحو التورط البلطجي الناعم. والدليل على ذلك ردود الفعل القوية التي أثارها موقفه على جميع المستويات: من طرف الأحزاب (الاتحاد الاشتراكي مثلا)، والجمعيات (العصبة المغربية لحقوق الإنسان مثلا) والمناضلين الحقوقيين (الأستاذ النويضي مثلا، وهو أيضا رئيس جمعية عدالة الحقوقية) والعلماء العاملين (الحمودي وبوبكري). وقد جاء في رد فعل العصبة المغربية صراحة، وباللفظ، أن الأستاذ الطوزي هو الذي ينقصه التأهيل، وهذا الحكم متضمن في الاعتراضات الأخرى التي أخذتْ عليه عدم الالتزام بمقتضيات الموقع الذي يقتضي التحفظ، والاحتفاظ بالرأي الخاص. وأنا أتساءل: هل الأستاذ الطوزي غير مؤهل فعلا لإدراك حاجيات المغرب الديموقراطية، ولا علم له بما يوجد في المغرب من طاقات وكفاءات سياسية مجمدة بسبب الحجر؟ أليست حصيلةُ تجربة المغرب في نصف قرن من الاستبداد كافيةً لتجريب أي بديل؟ هل يمكن أن يحدث أسوأ مما حدث؟ ألم يسمع قط بأن أقل الأنظمة سوءا هو النظام الديموقراطي؟ وأن التاريخ حسم بأن الملكية لا يمكن أن تعيش في مجتمع ديموقراطي إلا في صيغة واحدة هي الملكية البرلمانية؟ هل يعتقد الأستاذ الطوزي فعلا أن المخزن أكثر تأهيلا لقيادة المغرب من الطبقة السياسية التي حاربت الاستبداد طوال نصف قرن، برغم كل الغبار والصدأ الذي علاها الآن وحول أكثر ذهبها إلى نحاس "مخزز"؟ لا شك أن قيادات الأحزاب الحالية مجسدة أحسن تجسيد في "مرونة" الوزير الأول الحالي السيد عباس الفاسي، ومسايرته هو وزملاؤه الرؤساء لرجال المخزن في تشكيل حكومته، وتحديد حدود سلطته، وإعلانه صراحة، لا ضمنا، أنه يطبق برنامج غيره.. إضافة إلى ما يتهم به، في كثير من المنابر، من محاباة أقربائه وما يسجل في سجله من أغلاط سابقة (النجاة).. لا شك أن كل ذلك أضر بصورة الحزب المغربي الحاكم، أو المرشح لتسلم سلطات أوسع. ولكن هذا الوضع الشاذ يمكن أن يضلل صحفيا مشغولا باليومي والعابر، كما يمكن أن يستشهد به شخص منفعل يجادل زميلا له في المقهى من باب الغيرة على العمل السياسي، ولكنه لا يمكن أن يكون أساسا لموقف علمي مؤسس على خبرة تاريخية أو مسح ميداني للواقع السياسي في العالم (من الهند إلى فنلدا). ومن هذه الزاوية بالضبط رد عليه باحث من نفس العيار والاختصاص (عبد الله الحمودي) في مقال بجريدة الاتحاد الاشتراكي، ورد عليه محمد بوبكري في مقال بجريدة الأحداث، وآخرون على شبكة الأنتيرنيت. إن العطب الحالي عابر ولا ينبغي أن يشوش على المحلل السياسي ويدفعه إلى إصدار حكم أصدره المولى إسماعيل في القرن السابع عشر حين قال لمبعوث لويس الرابع عشر، وقد حثه على الرفق بالرعية: "قُلْ للويز: إنه يحكم البشر وأنا أحكم البقر"، وأصدره الملك الحسن الثاني واختبأ وراءه عقودا حتى وافاه أجله والمغاربة غير مؤهلين في نظره. المغاربة، يا أستاذ الطوزي، كانوا مؤهلين بعد الاستقلال مباشرة. لو تركت حكومة عبد الله إبراهيم، ومن حولها تعمل عملها لكان وجه المغرب غير ما ترى، ولو تركت حكومة عبد الرحمن اليوسفي ومن معه تعمل عملها وتمد سلطتها للأماكن التي نطالب اليوم بالوصول إليها لكنا اليوم نتفرج على الحكام العرب من منصة عالية كما يتفرج عليهم الفرنسيون. هل يعتقد الأستاذ الطوزي أن الحكومات التي سيرها أفقير ومن على شاكلته كانت لا محالة أحسن من حكومة كا سيقودها علال الفاسي أو عبد الرحيم بوعبيد؟ إذا اعتقد ذلك فلا حرج عليه أن يقول ما يشاء، فسيرفع عنه القلم! كان من الأكرم للأستاذ الطوزي أن يستقيل من لجنة تحرير مقترح الدستور، فهو لم يعد مُؤتمَنا. لو كنت مكانه لاستقلت دون مراوغة، خاصة وقد تطاير شرار الرد عليه إلى رداء المصداقية الذي تتدثر به اللجنة التي ينتمي إليها كما جاء في بيان اللجنة المركزية لحزب الطليعة: "إن ما جاء في تصريح محمد الطوزي، عضو اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور، من كون الملكية البرلمانية الحقة تبقى بعيدة المنال في الظرف الحالي بالمغرب لأن البلاد تفتقر إلى طبقة سياسية ناضجة وذات مصداقية وتتمتع بثقة المواطنين، يعتبر تضليلا وتبخيسا لوجهة نظر دون أخرى رغم كونها لا زالت معروضة على اللجنة التي لم تعلن بعد عن تقييمها لجميع ما قدم إليها"... و"لحد الآن لم تعلن اللجنة موقفها من التصريح المذكور لعضو بها.. الأمر الذي يعني، ضمنيا، بأنها موافقة عليه.. الشيء الذي يزيد من إضعاف مركزها وعدم مصداقيتها"[2]. خاتمة نحن اليوم نستورد الاسم أما البلطجة السياسية فهي عمليا صناعة مغربية أصيلة. منذ انقلب المخزن على الحركة الوطنية، بعيد الاستقلال، وهو يصنع الأحزاب التي "تقطع الطريق" على أي نزوع إصلاحي ديموقراطي، والبلطجية في الاصطلاح المغربي هم قطاع الطريق. ولقد كان من المروءة أن تَحُل تلك الأحزاب نفسها ويقوم أصحابها بتأسيس أحزاب جديدة انطلاقا من الشعارات التي يلوحون بها، من قبيل الليبرالية (الأصالة والمعاصرة رفض لحد الآن الإعلان عن أيديولوجيته). محمد العمري. باحث في بلاغة الخطاب ------------------------------------------------------------------------