يظن بعض المُنْبَتِّين، ممن صاروا يتقحَّمُون ميدان الكتابة، أن ممارسة الفكر نقدا وتأسيسا يُمكن أن تتأتّى بمجرد "اللَّغْوَى" ("الباطل من الكلام والفكر") بلا قيد ولا شرط. لكنْ، إذا كان تعاطي الكتابة ٱستعجالا وٱستسهالا يُعَدّ علامةً على نوع من الكسل الفكري والتَّحَصْرُمِ المُتواقِح، فإن النُّزوع إلى مُمارسة التفكير على شاكلة "خطاب اللغوى" ليس سوى نزوع إلى التضليل يزداد تفاحُشا في واقع فكري وثقافي شديد الِارتكاس. ومما يدخل في هذا النطاق أنّ بعض أدعياء النقد قد أطبقوا على ٱستعمال لفظ ["قومجيّة"] في وصمهم ل"القوميّة العربيّة"، بل لقد أصبح يتراءى لهم أنه مفهوم إجرائي له كِفايةٌ نقديةٌ لا تُجارَى. تُرى، ما حقيقة هذا اللفظ على مستوى الِاستعمال الفصيح في "العربيّة" ٱشتقاقا وٱصطلاحا؟ وهل يتعلق الأمر بمقولةٍ تُتِيح القدح والمَجّ (مقولة مَجِّيَّة) أم ب"القوميّة العربيّة" في دلالتها، تحديدا، على "العرب" بصفتهم "قومًا همجيِّين" ("قوم[هم]جيّة")؟ يبدو، ٱبتداءً، أن لفظ ["قومجيّة"] في "العاميّة المغربيّة" أقرب إلى لفظ ["قاميجه"] المُولَّد من خلال المزج بين الكلمة العربية "قميص" وبين مُقابِلها "قاميجا" في البرتغالية (« camisa ») والإيطالية (« camicia ») المأخوذ من الأصل اللاتيني "كاميسيا" (« camisia ») الذي أُخِذت منه، أيضا، الكلمة الفرنسية "شُّومِّيزْ" (« chemise ») والكلمة الإسبانية "كاميسّا" (« camisa ») ؛ فكأن من يستعمل كلمة ["قومجيّة"] يَغْفُل عن أنّ المتلقي العربي أو المُتعرِّب يتبادر إلى ذهنه -حينما يسمعها أو يقرأها- معنى "القوم" (ك"جماعة من الناس") في علاقته بمعنى "قاميجه" (كلباس معروف، أي "قميص")! و، بالتالي، معنى «القوم الذين لا قيام لهم إلا بالقميص» (وأي قميص؟!) أو «القوم ذوي القُمْصان» (بالمقابلة مع «القوم بلا قميص» أو «القوم بدون قُمصان»)! ومن البَيِّن أنْ لا شيء من هذا يقصده الذين يستعملون لفظ ["قومجيّة"]، بل من الراجح أنه لا يكاد يخطر على بالهم أن هذا اللفظ قد يُوحي بمثل ذلك المعنى الغريب في ذهن المتلقي! وأكثر من ذلك، فقد يذهب "الخيال التأويلي" بالمتلقِّي العربي أو المُتعرِّب إلى أن لفظ ["قومجيّة"]، لكون مُستعملِيه يُريدون به أن يقدحوا في "القوميّة العربيّة"، إنمّا يرجع إلى المزج بين معنى "القوم" و"الهَمَج" أو بين "القوميّة" و"الهمجيّة" ("قوم[هم]جيّة")! خصوصا أن بعض مستعملي ذلك اللفظ لا يتورَّعون عن وصف "العرب"، بالضبط في "شبه الجزيرة العربيّة"، بأنهم كانوا ولا يزالون مجرد «شعب من الأعراب الهمجيِّين»! وقد لا يَفُوت هؤلاء أن يستندوا -لكي يُعزِّزُوا كلامهم حتى يكتسب زِينَة الموضوعية- إلى ما ورد في "مقدمة" العلَّامة "ٱبن خلدون" من وصف يبدو، لمن يتبيَّن حقيقته، مُتحاملا على من سمّاهم ب"العرب"! غير أن هذا التقريب بين لفظي "قوم" و"همج" لوصف "العرب" حصرا لا يَصِحّ إلا بما هو تعبير عنصري صريح، إذ متى كانت "البداوة" و"الهمجيّة" حكرا عليهم؟! ثم إنه، حتى لو صحّ ذلك، لفظٌ لا يَسُوغ في "لسان العرب" الذي ليس فيه أي تعليل وجيه للَّاحقةِ "جِيٌّ/جِيَّةٌ" بمعنى "همجيّ/همجيّة"! يتبيَّن، إذًا، أن لفظ ["قومجيّة"]، مَثَله كمَثَل اللفظ العاميّ ["قاميجه"]، لا سند له من داخل نسق "العربية الفُصحى". فهو يُؤكِّد، في المشرق والمغرب كليهما، تأثير "العاميّات" في تفاعُلها الفاسد والمُفسد مع "الأجنبيّات"، بحيث إنه لفظٌ يُظهِر مدى إذعان مُستعملِيه للسهولة (أو، بالأحرى، الِاستسهال) في تعاطي الكتابة الفكرية من موقع "الخواء" ٱدِّعاءً وتطاوُلًا. وفضلا عن هذا كله، فإن ٱستعمال هذا اللفظ لا يُمكِّن إطلاقا من الخروج من دائرة الِالتباس في وصف واقع الممارسة المتعلقة بأشكال التعامُل مع "القضية القوميّة" عند "العرب". وإذا أردنا بالفعل تحديد مصدر ["قومجيّة"] كلفظ عاميّ، فإن آذان الذين ٱرتادوا حلقات المُساجلات البيزنطية -التي كانت تدور بين الطلبة المُتحزِّبين في الكواليس والساحات- يُمكنها أن تتذكر تبلوُر ذلك اللفظ، بالخصوص، بعد ٱنفضاح فِكْرَى (أو "إديولوجيا") "القوميّة العربيّة" بعد هزيمة 1967 وتهافُتها المُتوالي في العقود التالية، وبالأخص بعد ٱنهيار المعسكر الشرقي في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، وهو الانهيار الذي أفقد المُتياسِرين العرب ما تبقّى لهم من مشروعيّة في توجُّههم القومي والاشتراكي، والذي وصل إلى نهايته بعد سقوط أو إسقاط حزب "البعث" مع الغزو الأمريكي/البريطاني للعراق بُعيد أحداث 11 شتنبر 2001. هكذا وُلِّد لفظ ["قومجيّة"]، من جهة، بتوظيف لفظ "بَلْطَجيّة" (المُولَّد في العاميّة المصرية أخْذًا عن الكلمة التركيّة "بَلْطَجِي" بمعنى "حامِل السِّكِّين"، وهي كلمة مُكوَّنةٌ من مقطعين: "بَلْطه" بمعنى "سِكِّين"، و"جِي" بمعنى "حامِل") الدالّ على "الترهيب باستعمال الصعاليك" و، من جهة أخرى، اللاحقة الأجنبية "لُوجِي" (« logy/logie ») بدلالتها على "الخطاب الفِكْرَوِيّ" (أو "الإديولوجي") المُتعالِم (كخطاب مُتمركِس ومُتلبِّس بما كان يُعرَف في كتابات اليسار، منذ أواخر القرن 19، ب"الاشتراكيّة العلميّة"). ولا يخفى أن ٱستعمال لفظ ["قومجيّة"] هذا له حُمُولة سِجاليّة وقَدحيّة واضحة وأنه مُرتبط بأطرافٍ كانت تدَّعي، في مُعظمها، الِانتماء إلى "العرب" وتتنازع حول الكيفيّة الناجِعة للنهوض بالقضايا "الوطنية" أو "القومية" أو "القُطرية" في إطار ما يُسمَّى "الوطن العربي" أو "العالم العربي" أو حتى "المغرب العربي" (في تقابُله مع "المشرق العربي")! وإنّ ممّا يَجدُر تبيُّنُه أن توليد لفظ ["قومجيّة"]، في ذلك السياق، قد يكون مُبرَّرا من الناحية السِجاليّة والنضاليّة. لكنه لا يقبل أي تعليل لُغوي أو فكري في المدى الذي ينبغي لمُستعملِي "العربيّة" أن يُفكِّروا بمُراعاة مقتضيات مجالهم التداوُلي الخاص، حتى وهُمْ يتفاعلون مع المجالات التداوليّة الخاصة بغيرهم. وهنا نجد أن خطاب "القوميّة العربيّة" -بصفته خطابا فكروِيًّا و/أو طُوبَويًّا- قد يُمكِنُ وصفُه و، من ثم، نقدُه بالنظر إلى أنه، أولا، خطابٌ مُنغلِقٌ قوميّا ومُتعصبٌ عرقيّا (أي أنه "قومانِيّ"، بحيث يَصِحّ الحديث عن "القَوْمانِيّة" أو "المركزية القوميّة" العربية، في مقابل « l'éthnocentrisme arabe »، بمعنى «ٱتِّخاذ "العرب"، بما هم "قوم"، كما لو كانوا مركز البشرية عرقيّا و/أو تاريخيّا و/أو لُغويّا و/أو ثقافيّا») وأنه، ثانيا، خطابٌ أُحاديٌّ وغير تعدُّديّ (أي "غير ديموقراطي"، من حيث إنه يَنْفِي حقوق الأقليّات غير العربيّة) وأنه، ثالثا، خطاب وُثُوقي غير عقلاني وغير نقدي (أي "ٱعتقاداني" أو ["دُغْمائي"]، حيث «يُبالِغ في الِاعتماد على ٱعتقادات مُعيَّنة لا تقبل أي نقاش» أو "ثقافاني" «يُغالِي في ردّ كل شيء في واقع "العرب" إلى مُحدِّدات ثقافية ثابتة وخاصة») وأنه، رابعا، خطاب غَوغائي ودِعائي (أي "شَعْبانيّ" «يَحمِل مجموعةً من الشعارات والصُّور المُبسَّطة المُوجَّهة إلى دغدغة عواطف وآمال هذا "الشعب" أو ذاك» ؛ و"طُوبانِيّ" «يتعامل مع الأحلام والمُتخيَّل الجماعي أكثر من الواقع الفعلي»). ومن المُؤسف أن لفظ ["قومجيّة"] لا يُسعف في أداء كل هذه المعاني في وصف ونقد خطاب "القوميّة العربيّة"، بل إن توليده على ذلك النحو المُبتسَر يُوهِم بأن تلك الخصائص تُميِّز "العرب" وحدهم في علاقتهم ب"الحركة القوميّة"، في حين أن النقد الذي خضعت له "الحركة القوميّة"، تاريخيّا وعالميّا، يكشف عن ٱتِّصافها بقليل أو كثير من تلك الخصائص! وأما إذا أردنا معرفة حقيقة مُستنَد مُستعملِي ذلك اللفظ في ذمّ وهجاء "العرب" و"القوميّة العربيّة"، فإن أول ما يُمكِن الجزم به أنّ "العرب" ليسوا عِرقًا أو، على الأصح، لم يَعُودوا كذلك لثُبوت ٱختلاطهم بغيرهم مُصاهَرةً ومُعاشرةً منذ أقدم العصور. وبالتالي، فلا شيء في "القوميّة العربيّة" (« arab nationalism »)، كما حدَّدها أبرز زُعمائها، يرتبط ب"العرب" كمجموعة عرقيّة، بل هي بالأساس «حركة تعمل على توحيد وإنهاض الأقوام المُكوِّنة للعرب في أُفق قيامهم ك"أُمة"». ومن البَيِّن أن "العرب" في هذا ليسوا ٱستثناءً، إذ أن أيّ مجموعة قوميّة ٱمتدت بعيدا في التاريخ وتناوبتها صُروفُه لا يَصِحّ أن تُحدَّد ك"عرق" خالص أو "سُلالة" نقيّة! وإذا كان "العرب" قد ٱشتهروا بحرصهم على "الأنساب" وحفظ ٱتِّصالها وتسلسُلها، فإن هذا الأمر يُفسَّر في إطار الوراثة والِاستخلاف الاجتماعيَّيْن أكثر مما يُفسَّر في علاقته بأسطورة "العرق" كأصل ثابت ومقدس. ومن المعروف أن "النَّبالة" و"الشرف"، رغم أهميتهما الِاجتماعية، يُخالِطُهما -كما أكدّ "ٱبن خلدون"- الوهم بمجرد ما يتعدّى الخط النسبي بضعة آباء (نَسَب النبي نفسه يتوقف عند الجدّ العشرين "عدنان"!). ولهذا، فإن "العُروبة" يَصعُب تحديدُها عرقيّا، بحيث إنها لا تعود -بالتالي- تعني شيئا خارج مُكوِّناتها اللُّغوية والثقافية في علاقتها بمُختلِف نَوابِض "الِانتماء القوميّ" المُحدَّدة تاريخيا وٱجتماعيا. ومن ثم، فإن تناوُل "العرب" بصفتهم "قومًا" يجعلهم يتحدَّدُون، في الواقع، ك«مجموعة من الشُّعوب والفئات المختلفة عرقيا وٱجتماعيا والمتقاربة، إلى حدٍّ بعيد، جغرافيا وتاريخيا ولُغويا وثقافيا على نحو يُقوِّي شُعورها بالِانتماء المشترَك ويسمح، بالتالي، بقيام أنواع من التداخُل والتكامُل والتعاوُن بما يُمكِّن من قيامهم بشؤونهم وقيامهم كأُمّة متميِّزة بين مُختلِف الأقوام والأُمم في العالَم». ولأن "العرب" يُمكِنُ تحديدُهم ك"قوم"، على هذا النحو، فإنه يَصِحُّ الحديث عن "القوميّة العربيّة" كحركة ثقافية وٱجتماعيّة وسياسيّة تُريد النهوض بمجموع "الشعوب العربيّة" من حيث وجود جُملة من "المُقومَّات" التي يُمكِن أن تسمح بقيامهم في صورة "أُمّة". ونجد، بهذا الصدد، أن المجال الجغرافي الممتد من "بلاد الرافدين"، مرورا ب"بلاد الشام" و"شبه الجزيرة العربيّة"، وٱنتهاء ب"شمال أفريقيا" و"القرن الأفريقي" يُكوِّن، من الناحيّة التاريخية والعرقية واللغوية والاجتماعية والثقافية والدينية والحضارية، مجالا مُشترَكا ومُتداخلا إلى أبعد حدٍّ، على النحو الذي يُقِيم منه مجالا "قوميًّا" واحدا ويجعل، بذلك، كل محاولةٍ تُريد فصل بعض مُكوِّناته وتفخيمها نوعًا من الِانتزاع الواهم والمُتوهِّم، بل حتى بطابعها هذا لا تُفيد إلا في تعزيز عوامل التمزيق وٱستدامة التبعيّة للقُوى الغربية. إذ كيف يمكن الفصل بين "الشعوب" بهذا المجال من الناحية العرقيّة بعد آلاف السنين من المُصاهَرة والتزاوُج؟! وكيف يمكن فصل المُكوِّنات اللغوية ضمن "العائلة الأفريقية-الأسيوية"؟! وكيف يُراد الفصل بين تلك المُكوِّنات على المستويات الأخرى (ثقافيا ودينيا وٱجتماعيا وحضاريا) فصلا يُمكِّن، مثلا، من التمييز التامّ بين "ما هو عربي" وبين "ما هو فينيقي" أو "ما هو قِبْطي" أو "ما هو أمازيغي"؟! يبدو أن مُغالَطة "اللَّوْح المَمْسُوح" لا تُماثِلُها في القوة واللُّزُوجة إلا مُغالَطة "التفرُّد المطلق"، وكلتاهما لا تَقُومان إلا على أساس مُغالَطة أخرى يَصِحّ أن تُسمّى مُغالَطة "التضليل المفضوح"! وهو التضليل الذي لا يخفى أنه مرتبط، من أكثر من ناحية، بأطماع القُوى المُهيمنة عالميا. ونجد، على مستوى آخر، أن ما جعل دُعاة "القوميّة العربيّة"، على الأقل بعضهم، يَبْدُون مُتطرفين تُجاه الأقليات غير العربيّة وإزاء دُعاة التميُّز إلى حدِّ الِانفصال، إنما هو قيام دعوتهم في فترةٍ ٱتَّسمت بالتدخُّل الأجنبي للقُوى المُتوسِّعة ٱستيطانيا، ثم ببُروز اليسار الاشتراكي والشيوعي وٱحتدام الصراع بين المعسكرين الشرقي (مع ما عُرِف عنه من ٱنغلاق وتشدُّد وعدم قَبُولِ للتعدَّد والاختلاف) والغربي (الموصوم ب"الامبريالية" التي ترفع شعار "الديموقراطية" و"الليبرالية" وتعمل بسياسة «فَرِّقْ تَسُدْ»). ومن هنا، فإن ما تُوصَم به "القوميّة العربيّة" من مُعاداة تُجاه الأقليّات غير العربيّة لا يَصِحّ في مُجمله إلا في سياق توجُّهٍ مرحلي حَكَم العالَم على ٱمتداد عدة عقود وكان يميل إلى "التكتُّل" و"التجميع" و"التأميم" ولو على نحو قسري وعنيف كما عُرف في "الاتحاد السوفياتي" البائد و"الصين الشيوعية" المائدة. ولعل ما عزَّز الطابع المتشدد في حركة "القوميّة العربيّة" هو العمل على ٱستنبات اليهود الصهاينة في فلسطين مباشرة بعد "الثورة العربيّة" ("وعد بلفور" في 1917 متزامن مع ثورة العرب ضد "السيطرة العثمانية"!). ورغم هذا كله، فإن "العالَم العربي" لم يَثبُت قط أنه صفَّى أقليّاته، بل إن تنوُّعه العرقي واللغوي والثقافي والديني ثابتٌ ومشهودٌ إلى الحدّ الذي يُغْرِي خُصوم "العرب" بشتى الادِّعاءات، من قبيل أنهم موجودون وسط مُحيط طائفي بحيث إنهم ليسوا سوى أقليّة طائفيّة وأن "اللغة العربيّة" نفسها ليست لُغةَ الأكثرية بعالَم يُقارب سُكّانُه ثلاثمئة وخمسين مليون نسمة ويتكلمون لُغات عاميّة مختلفة عن "الفصحى"! وبخصوص "اللغة العربية" بالضبط، فإن التضليل يصل إلى أقصى الحدود. ذلك بأن بعض ذوي الأهواء لا يرون في "القوميّة العربيّة" إلا سياسة توسُّعيّة وهيمنيّة تتوسَّل "الدين" لفرض "العربيّة"، بحيث يُصِرُّون على أن "التعرُّب" لم يكن بفعل "الإسلام" كدين عالمي مُتوسِّع وكحضارة عالميّة ٱستعملت "العربيّة" لُغةً للعلم والفكر والثقافة منذ القرن الثامن الميلادي. وإنما تراهم يزعُمون أن الأمر كان ولا يزال يتعلق ب"تعريب" قهري وشامل يتمثل الغرض منه في محو وٱجتثاث اللغات الأخرى (مثلا "القبطية" و"الأمازيغيّة" في شمال أفريقيا). لكنهم، وهم في غَمْرة تضليلهم، يَنْسون أو يتناسون أن "التعريب" مرتبطٌ ب"الإسلام" دينا وحضارة، فهو يتحدَّد بالأساس كتنوير وتحرير، تنوير يقوم على التمكين للِسان الوحي الخاتم بصفته لسانا مُبينًا يُيسِّر تلقِّي رسالة "الإسلام" التي تُمثِّل، في التاريخ الرُّوحي والديني للبشرية، "الرُّشد" الذي يَفُكّ الرقاب و"الرشاد" الذي يَهْدِي الناس سواءَ السبيل (ألا يكفي للدلالة على التوجُّه التنويري في هذه الرسالة أن يكون "العقل" شرط "الإسلام" و"التكليف"؟! ألا يكفي أن يكون "المُجتهِد" مأجورًا حتى لو أخطأ؟! ألا يكفي أن تكون أمة المسلمين سيِّدةَ أمرها شُورًى وإجماعًا؟!). فهو، إذًا، تنويرٌ مُزدوِجٌ: مع "الإسلام" تَبيَّنَ "الرُّشدُ" من "الغيّ" بأنْ «لا إكراه في الدين»، وبه ٱكتسب الناس رُشدَهم فخرجوا من "وصاية" الأرباب إلى "راشديّة" الأمة الوسط. ثم إنه، أيضا، "تحرير" يتمثل في رفع "وصاية الأرباب" عن "العِباد" بجعلهم لا يقبلون في تعبُّد الخالِق لهم أي معصية بطاعة غيره ويسعون إلى الخروج من إِسار عوائدهم بالعبادة تخلُّصًا وتحرُّرًا. وإنه، بحق، لتحريرٌ شاملٌ: تحريرٌ بالنسبة إلى الواقع الحاضر، وتحرير بالنسبة إلى التاريخ الماضي. فليس "التعريب"، إذًا، مجرد عمل على التمكين للعربيّة لفرضها قَسْرًا وٱجتثاث غيرها من اللُّغات سَلْبًا. ولهذا، فلا شيء في الِانتساب إلى "العرب" يُمكِن أن يُعَدّ ٱستلابًا. إذ هل يَصِحّ أن يُقال عن "مصطفى كامل المصري" و"أحمد عُرابي المصري" و"سعد زغلول المصري" و"سليمان الباروني الليبي" و"عمر المختار الليبي" و"عبد العزيز الثعالبي التونسي" و"فرحات حشاد التونسي" و"الأمير عبد القادر الجزائري" و"البشير الإبراهيمي الجزائري" و"عبد الحميد بن باديس الجزائري" و"أحمد الهيبة المغربي" و"محمد بن عبد الكريم الخطابي المغربي" و"محمد المختار السوسي المغربي" بأنهم كانوا مُتعرِّبين مُستلَبِين، وهم الأبطال العِظَام والعمالقة الكِبَار؟! أي تنوير مزعوم ذاك الذي يُلْقِي بظُلُمات التسفيه والتحقير على رجال ٱعتزُّوا وشَمَخُوا بالِانتماء إلى "الإسلام" و"العروبة"؟! يبدو أن دعاة الِانفكاك عن "العرب" ما زالوا لا يَملِكُون أن يَبْنُوا فِكْرَاهُم وحركتَهم إلا على نحو سَلْبيّ وعلى حساب "كل ما هو عربي" تبخيسا له ("القوميّة العربيّة" عندهم مجرد ["قومجيّة"]!) أو تخوينًا لأصحابه (أصحاب "الحركة الوطنية" في شمال أفريقيا ليسوا سوى خَوَنة!). ولهذا تراهم يختلقون، في كل مرة، ما من شأنه تغويلُ وشيطنة هذا الخصم المُفتعَل. وفي هذا النطاق يدخل الإصرار على ٱستعمال ["قومجيّة"] التي يُحاوِل بعضهم ٱستنساخها مُتحدِّثا عن ["ٱسلامجيّة"] (يقولون، في العاميّة، ["خوانجيّة"]!). لكن العُقلاء بين شعوب هذه المنطقة كانوا ولا يزالون يُدْرِكُون -من موقع قوةٍ وتبصُّرٍ تماما بخلاف ما يَدَّعيه المُبطِلُون- أن مُشكلاتهم الحقيقية والكُبرى ليست مطلقا مع "العرب" أو "العربيّة" أو "الإسلام"، وإنما هي بالأساس مع مصائب "الاستبداد" و"الظلم" و"الحرمان" و"الإقصاء" التي يقتسمونها جميعا بالسويّة والتي يَسُومُهم إيّاها بعض بني جِلْدتهم الذين لا يتردَّدُون عن التحالُف مع الشيطان نفسه لبلوغ أغراضهم غير المشروعة! وهكذا، يمكن أن نَخلُص إلى أن الحديث عن "القوميّة العربيّة" بصفتها مجرد ["قومجيّة"] إنما هو حديثٌ يَستعمل أصحابُه لفظًا مُبتذلا جِدًّا فيَظُنُّونه مَقولةً قد أُحسِنَت تسويتُها لوصمِ توجُّهٍ لُغوي وثقافي وسياسي يستند إلى "العربيّة" و"العُروبة" و"الإسلام". غير أن كون أصحاب هذا المسعى كانوا ولا يزالون يتحركون في إطار سِجاليّ وعِناديّ يجعلُهم مُرتهنين ل"خطاب اللَّغْوَى" على الرغم من رفعهم لشعارات "التنوير العقلاني" و"التحرير الحداثي". ومن الثابت أنه لا يكفي أن يتظاهر المرء بكل ما هو مطلوب ومُمتاز ليصير مُتحقِّقا به فِعلًا ؛ كما أنه لا يُجْدِي الحرص على إظهار "المُخالَفة" و"المُبايَنة" لنفي واقع "المُشابَهة" و"المُماثَلة" مع الخصم على أكثر من مستوى بفعل الاشتراك الضروري في شروط "الوضع البشري". ذلك بأنه حتى لو صَدَق أو صَدَّقنا، بعيدا عن الآثار الثابتة للتوجُّه الهيمني الغربي، أن حركة "القوميّة العربيّة" قد ٱنحرفت في مسارها التحريري للشعوب العربية وحُرِّفت مبادئُها التنويرية فصارت مجرد "فِكْرى" أو "طُوبى" تفتقد كل سند تنويري ولا تَكفُل أيّ أُفق تحريري (مما يُجيز، بالتالي، التشدُّد في ٱنتقادها)، فإن ما يُدَّعى من بديل لا يُمكِنُه أن يُثْبِت جدارته النظرية ونجاعته العمليّة بمجرد التطلُّع إلى "التنوير" و"التحرير" وإرسال الأقاويل الممجوجة باسمهما في صورةِ "خطابِ لَغْوَى" لا يُخفي سَوْأتَه التضليلية إلا بكأْدٍ بَادٍ ولا يَدْرَأُ عنه التهافُت إلا باتِّهامٍ عَادٍ. إذ، ألا يكفي في رَدِّ ذلك البديل المزعوم أنه لا يستطيع أن يُثبِت نفسه إلا بتوسُّل ٱنتماءٍ قومي يُراد له أن يكون أفضل من "الِانتماء العربي" نفسه الذي يُشتَطُّ في وصمه بكونه مجرد "قومجيّة" عربية مَهِينة ومُقزِّزة؟! أليس من التضليل الظُّلْماني والتقييد الطُّغياني أن يُتباهى بالقيم الكونيّة ٱدِّعاءً ومُزايَدةً وتُرفَع المَطالِب القوميّة تنكُّرًا ومُغالَطةً؟! يبدو أن إرادة التمحيص مُساءَلةً ونقدًا لا تلبث أن ترتدّ، بين أيدي المُبطلِين وعلى ألسنتهم، إلى ٱنفضاح صارخ لغوائل القدح والمَجِّ كما ينكشف ذلك في الإصرار على ترديد لفظ ["قومجيّة"] بقصره على حركات التحرُّر بين شعوب هذه المنطقة التي ٱستقرت العادة على تسميتها "عربيّة" رغم تعدُّد ٱنتماءاتها التكوينية وٱختلاف مُحدِّداتها البنيوية. ولعل التوجُّه المشترك لهذه الشعوب والقائم حاليّا على الِانفكاك عن قيود الِاستبداد والتطلُّع نحو مزيد من الِازدهار يُمثِّل خير دليل على روابط "القيام الجَمْعيّ" التي تُؤلِّف بينها ك"أُمَّة" فيما وراء الِانتماء العرقي والطائفي أو الِاختلاف اللغوي والديني. [email protected]