ما فتئ "التشيُّع" يَعْرِض نفسَه كمذهب من داخل "الإسلام" يَقُوم على مُوالاة ومُناصَرة "أهل بيت النبوّة" بصفتهم "المَهديِّين" و"المُطهَّرين" و"المَعصُومين" من بين كل الناس، ممّا يُعطيهم في المعتقد الشيعي صفة "الحُجَج" في الدين بلا نظير و"الأئمة" في الدنيا بلا مُنازِع. وإذا كان النظر في "التشيُّع المذهبي"، بما هو "رافضيّة"، يجعله يَتحدَّد كرفض ل"راشدية" الإسلام (وهذا ما حاولنا القيام به في «"رافضية" التشيُّع المذهبي وإرادة تحريف "راشدية" الإسلام»)، فإن الرؤية لا تكتمل إلا بالنظر في الجانب الآخر المُقوِّم له بما هو -في مُقابل ذلك- قَبُول بالطرف الأدنى من "المعقوليّة" ك"تقليد للحُجَج" (مُتابعة من تُفترَض فيه "العِصمة" بعيدا عن كل مُساءَلة)، وهو القَبُول الذي لا يَلْبث أن يَنْزِع ب"عاقليّة" المتشيِّع نحو طرفها الأقصى ك"تشكيك جذري" مَداره فقط إعمال مَعاوِل الِانتقاد في رسالة "الإسلام" كما تحدَّدت في "التقليد المُخالِف" (تقليد "أهل السُّنة والجماعة") ووقف إعماله في "التقليد الخاصّ" نفسه (تقليد "الشيعة")، على الرغم من أن مآل "التشكيك الجذري" إنما هو "تَنْسيب الِاعتقاد" وليس ترسيخه أو إطلاقه (وهذا ما سنُحاول القيام به في هذا المقال). إن ممّا ينبغي تبيُّنه، بالأساس، أنّ قيام "التشيُّع" على الإيمان ب"مَعصوميّة" الأئمة والحُجَج لا يجعله مذهبا مُؤسَّسا على نحو إيجابي بحيث يُكْفَل له "قيامٌ عقلاني" في ٱستقلال عن منطوق "الشرع" (لأن "المَهديّة" و"المُطهَّرية" و"المَعصوميّة" تَدُلّ، بخلاف ظن المُتشيِّع، على "مَفعوليّة" أولئك "الأئمة" و"الحُجَج" بالنسبة إلى "فاعليّة" ربّ العالَمين بصفته وحده "الهادي" و"المُطهِّر" و"العاصِم" بفعله الخَلْقي الخبير وأيضا بفعله الأمري/الشرعي اللطيف)، بل يصير قائما على نوع من "التأسيس السَّلْبي" الذي يَشُدّه في الواقع إلى "نوازع ٱلهوى" فيُعطيه صفة "ٱلِانفعال ٱلْهَوَيَانِيّ" ٱلذي يجعلُه غير ممكن -من الناحية النظرية- إلا على أساس الإيمان بوجوب صَرْف ظاهر "الشرع" بحثًا عن بُلوغ باطنه المزعوم عن طريق نوع من "التأويل" المُتعاقِل ("المتظاهر بالعقل")، وهو الإيمان الذي يفرض على "التشيُّع المذهبي" أن لا يتحقق -من الناحية العمليّة-إلا ك"باطنيّة" تتوسَّل "التقيّة" مُصانَعةً ومُداراةً ومُداهنةً. ومن ثم، تأتي ضرورة "التبرير العقلي" لذلك "التأسيس السَّلْبي" المُقوِّم للتشيُّع، حيث يُطلَب في هذا التبرير إيجاد أسانيد مُتسنِّنة (تقديم "باب العقل" على "باب الإيمان" في المُعتمَد من كتب "الشيعة") يُفترَض فيها أن تجعل "العقل" المُؤسِّس ٱمتيازًا لَدُنيّا وأزليّا خاصّا بالأئمة والحُجج "المَهديِّين/المُطهَّرين/المعصومين" على النحو الذي يُبيِّن أن "التأسيس" في "التشيُّع" يبتغي أن يكون تأسيسا نظريا/صُوريّا وكُليّا/مطلقا (وهو التأسيس الذي لا يتحقق إلا دَوْرًا أو تسلسُلًا)، وليس تأسيسا عمليّا/تداوليّا وتاريخيا/نِسبيّا (وهو تأسيس للمعقولية كمسؤولية بشرية مُحدَّدة)، مما يُؤكِّد أن تأسيس "التشيُّع المذهبي" بذلك الشكل يقتضي الدخول في "تشكيك جذري" من شأن إعماله الفعلي نقض أركان "الإسلام" وٱجتثاث أصوله (مُخالَفة الشيعة للسنة في أركان "الإسلام" وأصوله معروفة)، لأنه لا يتعيَّن إلا كنُزوع مذهبي يُخضِع نسق "الإسلام" ل"تشكيك جذري" يَطلُب تسويته من جديد بالاستسلام لمَنازِع "الهوى" المُتعاقِل تأريخا أو تأويلا، وليس بالاجتهاد في ٱتِّباع سُنَن "العقل" الراشد تسديدا وتجديدا. ذلك بأن الإيمان ب"المعصوميّة" في حق "الأولياء/الأئمة" يقتضي إعطاءهم نوعا من "العالِميّة" الأزليّة التي تَخْرُج ب"العاقِليّة" لديهم من نطاق "الجاهِليّة" (المُحدَّدة بشريا إزاء "مجهوليّة" العالَمِين والمُفعَّلة ربّانيا ك"مَعلوميّة" تفضُّلا من "علَّام الغُيوب" على عباده) وتجعل "المَظلوميّة" (المُقدَّرة تظالُما بين الناس إزاء قضاء "أحكم الحاكِمين") مخصوصةً بآل البيت فيما وراء التدبير الإلهي الذي قضى أن يَحمِل الإنسان الأمانة في الأرض وهو "الظَّلُوم/الجَهُول" (الاقتران بين "الظالِمية" و"الجاهِليّة" -كابتلاء على مستوى الفاعلية البشرية- لا يستلزم الاقتران بين "المظلوميّة" و"المعصوميّة" إلا بالنسبة إلى أنبياء الله ورُسله، ممّا يجعل الانفكاك عن الاقتران الأول تابعا للتحقُّق الاجتهادي/الجِهادي ب"القائميّة" و"الراشديّة"، وليس رهينا بتوهُّم وُجوب حفظ الاقتران بين "المظلوميّة" و"المعصوميّة" حتى بالنسبة إلى القائمين من أولياء الله وعباده). من أجل ذلك، فإن كون "التشيُّع المذهبي" قائما على الإيمان ب"معصوميّة" الأولياء والأئمة (بالقياس على "معصوميّة" الأنبياء والرُّسل، وهي "معصوميّة" مشروطة فقط بأنهم يُوحى إليهم وليست مُطلقةً تُجاه ربهم "العاصِم" لهم بفضله ورحمته) يقتضي أنّ "الوَلاية/الإمامة" بعد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا تكون إلا ل"عليّ بن أبي طالب" ("المَوْلَى/الوليّ" المُراد له أن يصير "الإمام الأوحد") وأبنائه (الوارثين -في الحقيقة "المُورَّثين" في بعضهم فقط!- للنبوة وَلايةً ووِلايةً). ولذا، فإن "القرآن الكريم" -بما هو كلام الله الحاكِم- لا بُدّ، حسب منطق المُعتقَد الشيعي، أن يَنُصّ في مُحكَم آياته على ذلك "الحُكْم/الوصيّة" ؛ فإن لم يكن الأمر كذلك (كما هو بالفعل الواقع المشهود منذ 14 قرنا)، فهو لا مَحالة مَنقوصٌ ومُحرَّفٌ (على الرغم مما صارت تُظْهِره ألاعيب "التقيّة")، بل إن "الرسول المُبيِّن" كان عليه أن يُوصي بالإمامة لعليّ وأبنائه (تبليغا شِفَاهيّا وتَوْصية كتابيةً مُؤكِّدة) ؛ وإن لم يفعل شهادةً وإشهادا، فإنه لم يُبلِّغ رسالة ربّه! ولأن النبوّة والرسالة تُوجِب الِامتثال والِاتباع على الحواريِّين والأصحاب، فما كان لهم أن يُخالِفوا وصيّة رسول الله التي هي أمر من الله سبحانه ؛ وبما أنه من الثابت تاريخيا أن "الخلافة" قد عُقِدت في الغالب لغير "عليّ" (ثم لغير أبنائه)، فإنّ كل من فعلوا ذلك يَكُونون قد ٱغتصبوا حق "الوِلاية/الإمامة" من أهلها فباءُوا بالكفر ٱرتدادًا، هُم ومن وافقهم في ذلك الأمر وٱتَّبعهم عليه منذئذ إلى الآن! وهكذا، فإن "التشيُّع" لا يَملِك أن يقوم مذهبيا في إطار النسق الإسلامي إلا من خلال تعاطي نوع من "التشكيك الجذري" الذي يشتغل ظاهرا و/أو باطنا والذي يطلب إيجاد تبرير شرعي وعقلي وتاريخي لمجموع المقتضيات المُترتِّبة أصلا عن جُملة "الأهواء" المحكومة في نفوس أصحابها بشروط ٱجتماعية وتاريخية مُحدِّدة لمساراتهم في الحياة وحاكِمة سُلُوكيّا لكل ما يأتونه من صنوف التشكيك والتضليل. ومن البَيِّن أن هذا التشكيك يُبْطِل -حينما يقوم فعلا ك"تشكيك جذري" عند غُلاة الشيعة والرافضة- رسالةَ محمد نفسه وكتاب الله "القرآن" ("مُصحف عثمان" المُحرِّف، في زعمهم، ل"مُصحف فاطمة") وتاريخ "الإسلام" منذ أصوله ("الخلفاء الراشدين" المُغتصبين، في ظنهم، للإمامة الشرعية). فهو، بذلك، تأسيس للشك الجذري في "الإسلام"، ليس ك"شكَّانيّة" تَرفُض منهجيا ومعرفيا إمكان التأسيس القَبْلي للمبادئ والمعايير، وإنما ك"رافضيّة" تفتح أبواب الشُّبُهات والظنون على مصاريعها لعجزها الأصلي عن التأسيس الشرعي والعقلي داخل "الإسلام" لمطالب كل الأهواء والوساوس المتلبِّسة ب"التشيُّع"، وأيضا لصعوبة الذهاب بعيدا في تحمُّل تَبِعات وجرائر "التشكيك الجذري" حينما يكون مآله النهائي النقض التام للإسلام في ٱتجاه تفضيل غيره عليه أو تعطيل "الدين" مطلقا. ولأن ذلك "التشكيك الجذري" يُؤِّدي بالضرورة إلى رفض "الظاهر" من "الإسلام" (نصوصا مُؤسِّسةً وتنزيلا مُبيِّنا)، فإنه يذهب إلى أن "الحق" مرتبط ب"الباطن" من الشرع والواقع اللَّذين لا يعرف تأويلهما إلا "الحُجَج"، مما يجعل "التشيُّع المذهبي" يتحدَّد ك"حركة باطنيّة" غايتها تجاوُز "السطح" الذي تقف عنده العامّة (من "أدعياء السنة") ظلما وجهلا و، من ثم، النفاذ إلى "العمق" الذي يُعبِّر عن حقيقة "رسالة الإسلام" كما يتوهمُها أدعياء "العلم الباطني" المَورُوث والمُورَّث عبر "الوَلاية العامّة" (في تقابلها مع "الوَلاية الخاصة" التي هي "النبوّة" المختومة بمحمد صلى الله عليه وسلم)، وهو ما يُوجِب -حسب الظن الشيعي- السعي إلى هَدْم "الخلافة المُغتصَبة" وبناء "الوِلاية/الإمامة" الشرعية وَفْق مقتضيات ذلك "العلم الباطني" المَوْقُوف حصرا على "الخاصّة" من الأولياء من "بيت النبوة" (بعيدا عن "صريح الشرع" الآمِر لمجموع أمة المسلمين بالعمل لتحصيل الإجماع اجتهادًا وشُورى). ولذلك، فإن كون "التشيُّع" يَؤُول (ويُؤَوَّل) إلى نوع من "التشكيك الجذري" يجعل "المتشيِّع" -على غرار من ٱتَّخذ "الشكّ" مذهبًا- يفتقد بالفعل "العقل" الصحيح (بامتناع أن يُؤسِّس "الشك" نفسه ٱبتداءً، بَلْه أن يُؤسس "الإيمانَ" ٱنتهاءً) ؛ ومن ٱفتقد "العقل"، ٱمتنع عليه "العلم" ؛ ومن لا علم له، فلا دين له ؛ ومن لا دين له، لا يكون إلا عبدا لأهواءِ نفسه و/أو تابعا لنزغات شيطانه، سائبا في دُنيا الشهوات وهائِما في ظُلمات الفتن! ومن هنا، فإن مُعظم شُغْل "المتشيِّع" أو "المُتشايِع" يدور حول جُملة من "الظنون" و"الشُّبهات" التي يَجْهَد بكل وُسْعه ليُظهرها بزينة "العلم" و/أو "الدين" لتلبُّسها، في نفسه، بسرائر "الهوى" و، في الواقع من حوله، بمُغْرِيات "الحياة الدنيا" ؛ وخصوصا حينما يَجِد أنّ عليه أنْ يُري من نفسه القُدرة على الإمساك بحقائقَ مُوغِلة في غياهب "التاريخ" أو مَشدُودةٍ إلى غُيُوب "المستقبَل" غافلا عن شدة آثار الِابتلاء المُتعلِّق بالوجود والفعل البشريين في هذا العالم. حقا، إن تجلِّي "التشيُّع" بصفة "التشكيك الجذري" صار يجعله -لتلبُّسه ب"العقلانية" في دلالتها على "الحداثة" وفي ٱرتباطها ب"الفحص النقدي" للمُعتقَدات- يَنْزِل ثقيلا وشديدا في أعْيُن وعلى نفوس كثير ممن تَستهويهم مُغْرِيات الفكر وبدائع القول. لكنّ كون هذا "التشكيك الجذري" المتشيِّع أو المُتشايِع لا يملك أن يَعرض نفسه بهذا الوجه المُغْرِي أو ذاك إلا "تعاقُلا" (ادّعاء العقل) و/أو "تَحادُثا" (ادّعاء الحداثة) يُحوِّله إلى "شَكّانيّة" مريضة ومُمْرِضة، لأنه يقف به دون مُتطلبات "العاقليّة" التي تقضي بتأسيس "العقل" تداوليا وعمليا، ويتجاوز به شُروط "الراشديّة" في الإسلام التي تُوجِب على الأمة ٱرتياد مَجاهل "الاجتهاد" والقيام بأعباء "الشورى" طلبا للصلاح في الآجل والعاجل، وطمعا في الاستقامة على أمر الله تسديدا وتقريبا كما هو دأب "حزب الله" في سيره المُفْلِح عبر الأمم. ولأن "التشيُّع المذهبي" يقوم على أن صلاح "الأمة" غير ممكن إلا باتِّباع "الأئمة المعصومين من آل البيت"، فإنه لا يكون ٱجتماعا في الله على مُقتضى سيرة "حزب الله" المُطَّردة في التاريخ، بل يكون أولَ نُزوع في "الإسلام" إلى "التحزُّب" وَفْق التوجُّه الهَوَيَانيّ في تفضيل "الأهل" على "الحق"، مما يُؤِّدي إلى أنه ليس سوى "تجمُّع" أَبَوي في صورة "عشيرة" أو "تحزُّب" تقليدي في شكل "طائفة"، بعيدا عن مقتضيات "الراشدية" في الاجتماع ٱجتهادا تسديديا وفي التدبير شُورى تقريبية. وبالتالي، فإنه لا يَصِّح -من داخل "التشيُّع المذهبي"- إقامة "حزب الله" تأسيسا عقلانيا، بل كل ما هو ممكن فيه إنما هو بناء "حزب الأهل" تشكيكًا جِذْرانيًّا. وكون "التشيُّع المذهبي" لا يقوم إلا بالتحزُّب على أساس "التقليد الأبوي" وبغرض "التشكيك الجذري" يجعله يُناهِض -بوعي أو من دونه- "التأسيس الشرعي" و"الترشيد المدني"، فلا يَعُود سوى توجُّه هَوَيَانِيّ نحو "الرفض" يَستديم العوائق المُعطِّلة لقيام "الرُّشْد" بين الأمة ٱجتهادا وشُورى، ويستبقي "وِصاية الأرباب" على عامّة المُستضعفين ٱستئثارًا وٱستبدادًا. إن تجاوُز الخلاف المذهبي بين "الشيعة" و"السنّة" -لكي يصير مجرد ٱختلاف بين إخوة مسلمين يجمعهم الِانتماء إلى "الإسلام"- ليس مُمكنا من خلال ما يُدَّعى من "حوار التقريب"، لأن دُعاة هذا الحوار يُغْفِلون حقيقةَ أن الفصل النظري بين المُختلِفين في "العقيدة" يبقى مُمتنعًا ما دام الِاختلاف العَقَدي بينهم يَرجِع بالأساس إلى أسباب موضوعية على مستوى الممارسة العمليّة، بحيث ينبغي تأكيد أنه لا إمكان لتوحيد ٱعتقادات الناس ما لم يَقُم بينهم نوع من "الِاشتراك" في الشروط الموضوعية المُحدِّدة، في الواقع، للنُّزوع نحو "الِاعتقاد". وبعبارة أخرى، فإنه لا فائدة من مُحاوَرة المُخالِف في "العقيدة" ما لم تتبيّن أسباب النزاع الحقيقية التي هي، في العمق، أسبابٌ مُتجذِّرة في التكوين التاريخي والاجتماعي والنفسي والثقافي للأشخاص ومرتبطة بنيويا بالتفاوُت القائم في الأوضاع والشروط المادية لوجودهم. وبالتالي، فإن أي مُناظَرة فكرية بين المتنازِعين ٱعتقاديا ومذهبيا لا جدوى منها ما لم تُبْنَ مدنيّا في صورة سيرورة ٱجتماعية ومُؤسَّسية تَكفُل عُموميّا تعاطي النقد المنهجي والمعرفي ٱجتهادًا مفتوحا ومسؤولا طلبا ل"التأسيس" و"الترشيد" على النحو الذي يسمح بإمكان قيام موضوعي لحرية التفكير والتعبير بعيدا عن عوائق المعرفة الصحيحة وأشكال الانغلاق العَقَدي أو المذهبي التي تُمثِّل الوجه الآخر للاستعباد والاستلاب. ولذلك، فإن الدعوة أو العمل للدخول في النقاش المذهبي أو العَقَدي في بلاد المسلمين الآن، في ظل الغياب الفعلي لأهم شروط التدبير الراشد لأنواع التفاوُت المادي ولأُسس التداوُل العقلاني حول أشكال الاختلاف الفكري، ليُعدّ ٱقتحاما أعزل لمعمعة "الفِتَن المُظلِمة" بين طوائف المُستضعفين ممن كانوا ولا يزالون ضحايا للفقر والمرض والجهل في مُحيط مُطبِق من دواهي الظُّلْم والتظالُم برعايةٍ من حُكَّام مُستبدِّين ومُستكبرين، ومباركة من علماء قاعدين ومُستقيلين. لن يكون، إذًا، ذلك النقاش حقيقيا بحيث يَكفُل إثبات صحة ومشروعية هذا المذهب أو ذاك، وإنما هو بالأحرى نقاش زائف يَقَع ويُوقِع في أحابيل التلاعُب الذي يُغذِّي التضليل ويُكرِّس السيطرة كما يريد أصناف المُبْطلِين. وليس هناك من سبيل لتجاوُز هذا الواقع إلا بالتطلُّع لإقامة "النظر" و"العمل" على ٱستلهام نسقي ل"رسالة الإسلام" بشكل يُمكِّن من "تأسيس المشروعية" و"ترسيخ المعقولية" ويكشف، في الآن نفسه، ٱستحالةَ "التنوير" و"التحرير" من خلال "التشكيك الجذري" كرفض صريح أو مُتَخَفٍّ للأصول المُقوِّمة لتلك الرسالة، ممّا يستلزم الانتقال إلى العمل الحقيقي الكفيل بالنهوض بأوضاع المسلمين بالشكل الذي يجعل كل عمل مُنحرف أو مُحرَّف يظل مكشوفا ومفضوحا أمام الآثار الفعليّة والإيجابية للعمل الراشد في "الإسلام" تسديدا وتجديدا تماما كما ظل يفعل "أهل السنّة والجماعة" عبر التاريخ (ولو في حدود ضيقة) جاعلين الفِرَق الأخرى المُخالِفة تبقى "أقليّات" هامشيّة لا يُعتدّ بها على مستوى البناء الحضاري العامّ الذي كان في جوهره عملا مُتسنِّنا بغير ٱنغلاق عَقَدي أو تطرُّف مذهبي، وتشيُّعا مُكْرِما لآل البيت من غير إطراء ولا تعصُّب، ورعاية مُتسامحة بلا تحامُل على الناس أو تساهُل في الحقوق. [email protected]