منذ تأسيس التلفزيون المغربي في بداية الستينيات و إلى اليوم، ظل بعيدا عن إقرار و إعمال المبادئ الأساسية التي تمكن من الدفع بديمقراطيته. وإذا كانت العهود السابقة قد أنهكت بحثا وتعليقا في الصحافة المكتوبة ومختلف الندوات والمنتديات، فإن التحولات الهيكلية و التدبيرية للمجال السمعي البصري (منذ 1999 إلى الآن) لم تنجح في التحقيق الفعلي لديمقراطية الإعلام التلفزيوني العمومي في علاقته بالجمهور المتلقي خاصة، وبالمشاهدين المواطنين عامة. ومن اجل بلوغ هذا الهدف، لابد في البداية من بسط المؤشرات الأساسية الجاري بها العمل دوليا لقياس ديمقراطية أو عدم ديمقراطية الإعلام العمومي، في سياق النقاش الجاري من اجل تحقيق تغيير جذري في الأداء الإعلامي للتلفزيون المغربي، حيث أصبح مطلبا مهنيا داخليا و شعبيا و جمعويا..،في ما يشبه إجماعا غير مسبوق في تاريخ المغرب المعاصر. مؤشرات ديموقراطية الاتصال يعرف الأستاذ سعد لبيب ديمقراطية الاتصال بأنها "ليست مجرد إطلاق حرية التعبير عن مختلف الآراء والاتجاهات وعدم الحجر على حرية المواطنين في التجمع والاتصال بالآخرين، والحصول على معلومات وأفكار من أي مصدر كان وإلغاء كافة القيود القانونية والعملية التي تحول دون ممارسة هذه الحقوق. فهذا كله وارد وأساسي... ولكننا نعني بديمقراطية الاتصال بالإضافة إلى كل هذا مجموعة من الأمور التي أثبتت التجربة في العالم شرقه وغربه وفي الوطن العربي أن هذه الديمقراطية لا تتحقق إلا بها. فملكية الدولة لوسائل الإعلام والاتصال قضية ينبغي إعادة النظر فيها لإتاحة الفرص للأفراد والجماعات والمؤسسات لامتلاك الوسائل التي تتيح له حرية التعبير، وترفع قضية الدولة عن نشاط اجتماعي ثقافي لا يمكن له أن يزدهر إلا في ظل المبادرات الفردية والشعبية، وتستوي في ذلك وسائل الاتصال الجماهيري بكافة أشكالها" (سعد لبيب، الإعلام الإذاعي في أزمة الخليج، الدراسات الإعلامية، العدد 64، 1991، ص 81( ويستتبع ملكية الدولة لوسائل الإعلام والتحكم المفروض في المضامين السمعية البصرية التي تعنينا في هذا السياق، وتحويلها إلى أداة تلبي حاجة المؤسسات السياسية أو الشخصيات السياسية، بدل أن تخدم مصالح المواطنين الذين "بحكم ما يقدمه الإعلاميون من قيم وأفكار باهتة وسطحية لا يدركون حقوقهم ويرضون بأقل القليل من أشكال الترفيه الهابط والساذج" (بسيوني ابراهيم،دراسات في الإعلام،عالم الكتب، 2008، ص 278). كما يؤكد سعد لبيب أن سيطرة الدولة على وسائل الاتصال وتوجيهها لدعم سياستها كانت أحد أسباب ضعف مصداقية هذه الوسائل ودفع المتلقي إلى الاعتماد على قنوات الاتصال الدولية على الأخص خلال الأزمات (ص 315). تأسيسا على ذلك، يوضح إبراهيم حمادة أن الرأي العام والإعلام وصنع القرار تعمل في النظم الديمقراطية كنظم مفتوحة ومتوازنة في علاقات التأثير والتأثر القائمة بينها إلى حد كبير، والأهم أن "كل نظام فرعي يعمل تحت رقابة النظام الفرعي الآخر، الإعلام يراقب السلطة والرأي العام يراقب الإعلام، والسلطة تراقبهما معا وتخضع بدورها لمراقبتها، وفي النظم غير الديمقراطية يتدفق التأثير من السلطة إلى الإعلام ومنه إلى الرأي العام دون أن يأخذ مسارا معاكسا" (ص 242). مرتكزات ديمقراطية التلفزيون العمومي هكذا، يمكن القول إن ديمقراطية التلفزيون العمومي تقوم على المرتكزات الأساسية التالية: تلفزيون عمومي لا تلفزيون رسمي أو نظامي:يجب اعتبار ملكيته من طرف الشعب فعلا لا قولا، و عملا لا نظرا. و الحال أن ملكية التلفزيون العمومي غالبا ما تتحول إلى ملكية للنظام القائم، و بالتالي يصبح أداة إيديولوجية في يد الحاكمين لتغليط و تضليل المواطنين و التعتيم على الأخبار و الأحداث الحقيقية و ممارسة الدعاية السياسية الفجة. و هذا ما يدفع بعض المهتمين إلى وصفه بالتلفزيون الرسمي و ليس العمومي. هكذا، تظهر الحاجة إلى إعادة النظر في النصوص التنظيمية و تدقيق دفاتر التحملات و التنصيص الواضح على الاستقلالية المهنية للعاملين في التلفزيون و عدم خضوعهم لضغوط و تعليمات السلطة/الحكومة القائمة أو إحدى أجهزتها المختلفة(إذا افترضنا أن السلطة التنفيذية ستشرف على جميع المؤسسات و الأجهزة..). خدمة المواطنين لا خدمة المعلنين :إن الاستراتيجيات الإعلامية التي قد ينهجها التلفزيون العمومي لابد أن تستجيب لمتطلبات المرفق العمومي، لا أن تكون في خدمة المعلنين و أصحاب شركات الإنتاج التي تبحث عن الربح لا تقديم خدمة تلفزيونية عمومية.من ثمة، ينبغي تقنين العلاقة مع الشركات الخاصة و ضمان شفافية العقود و دفاتر التحملات و الالتزام المهني بتنفيذها، بدل القفز عليها و تبذير المال العام من دون موجب حق.كما ينبغي أن تحدد السلطة السياسية القائمة (حكومة و برلمانا) نسب تمويل الإعلان/الإشهار للتلفزيون العمومي، و بالتالي حماية الخط التحريري و متطلبات أداء الخدمة العمومية السمعية البصرية. الرفع من نسب المشاهدة وسيلة لا غاية:لا يمكن الخروج من هيمنة السلطة إلى هيمنة المال و نسب المشاهدة، و إلا سنسقط في ديكتاتورية نسب المشاهدة المبنية على مغالطات تروم الربح و ركوب أمواج الإثارة، بدل أن تبحث عن تحقيق خدمة تلفزيونية حقيقية.ذلك أن التلفزيون العمومي أداة للارتقاء بأفق المشاهدة و تهذيب الأذواق و تحقيق أهداف إعلامية و ليس أداة لجلب المعلنين و الرفع من نسب المشاهدة كيفما اتفق. ضوابط ومبادئ موضوعية و شفافة: باعتبار ملكيته العمومية،يجب أن يكون التلفزيون في خدمة الشعب لا خدمة الحكام أو المسؤولين.من ثمة، ينبغي الاحتكام إلى ضوابط واضحة لأداء الخدمة العمومية السمعية البصرية في جميع الفقرات و البرامج، و في المبادئ المتحكمة في البرمجة التلفزيونية.كما تظهر أهمية إعطاء الأولوية للخدمة الإعلامية المهنية، بدل التيه في دواليب التدبير المالي و الإداري التي تصير غاية في حد ذاتها و ليس وسيلة لتيسير الأداء الإعلامي التلفزيوني. آليات للتتبع و المراقبة:لا ديمقراطية للتلفزيون العمومي من دون وضع آليات واضحة و شفافة للتتبع و المراقبة و التقييم من طرف ممثلي الشعب الذي يملك القناة/القنوات و يمولها.فعلى سبيل المثال، يجب ان يخضع التعيين في مناصب المسؤولية لضوابط مهنية داخلية، لا أن يخضع لمعايير الولاء و القرابة أو الطاعة و القدرة على التنفيذ من دون نقاش أو إبداء رأي أو تشبث بالقوانين و الضوابط المهنية الجاري بها العمل. كما أن الفشل في تحقيق الأهداف المسطرة و تحقيق رضا المشاهدين يستلزم تقديم الحساب و تصحيح الأخطاء و إعادة النظر في السياسات و الاستراتيجيات المتبعة.من ثمة، يمكن الخروج من منطق "شخصنة" التدبير (الإعلامي أو الإداري أو المالي..) إلى منطق أداء مهمة محددة و قابلة للتقييم و المحاسبة. هذه بعض المؤشرات و المرتكزات الأساسية لإقرار تلفزيون عمومي ديمقراطي يستجيب لمتطلبات الخدمة السمعية البصرية في دولة الحق و القانون، و يعمل على خدمة الشعب لا خدمة السلطة أو المال.