مَرق مَرق الأرنب يمكن الحديث في المغرب عن عدة أصناف من المثقفين. فهناك مثقفون كبار تعتبر مؤلفاتهم أساسية، ليس في المغرب وحده، وإنما في العالم العربي كله، بل أن منهم من يحظى بتقدير خاص حتى في الغرب. وهؤلاء هم وجهنا الثقافي في مرايا الآخرين. وهنالك مثقفون يطوفون حول قفص السلطة حتى إذا نجحوا في التسلل إليه صاروا في اليوم الموالي إلى ما صارت إليه النمور في اليوم العاشر. وهنالك مثقفون مصابون بعقدة الرئاسة، وهي عقدة عالمثالثية تمتد من رئيس ودادية سكنية حتى رئيس إحدى جمهوريات الموز، وهؤلاء يلجأون إلى كل الوسائل لتصدر المشهد الثقافي، فيستجيرون بأحزابهم ويسخرون بطانتهم ويقدمون رشاوي ثقافية، وكل ذلك من أجل أن يصبحوا رؤساء شيء ما. فإذا فشلوا (وهم قلما يفشلون) بعد كل هكذا سعي، فإنهم يؤسسون شيئاً آخر ويرأسونه، ولا يبرحون كرسي الرئاسة (وهو ليس من نوع طيفال) إلا بعد استنفاد الولايات المسموح بها، وهي مدة كافية لإعداد أولياء عهدهم. وهنالك مثقفوا الأحياء (على غرار فرق الأحياء) الذين يتنافسون في الانحناء وتقديم فروض الطاعة لأي كائن ثقافي قادم من خارج مدينتهم.. حتى لو كان بطول عقب سيجارة. لذلك تجدهم يتقلصون كلما ابتعدوا عن حاراتهم، فإذا وصل الواحد منهم إلى مدينة أخرى أصبح كائناً مجهرياً. إن أقصى طموح هذه "الخشيبات الثقافية" أن تصبح أدوات صالحة لعد الأصوات في مؤتمر ما. إن القطع الثمينة في الشطرنج الثقافي أصبحت تأنف من رقعته تاركة إياها لبقية القطع التي تتراوح بين بيدق الصف والبيدق الممتاز. تحضرني، في هذا السياق، قصة جحا وضيفه. فقد أطعمه في الوجبة الأولى أرنباً وفي التالية مرق الأرنب، ولأن الضيف لم يغادر، قدم له صحن ماء وخبز، فسأله الضيف: ماذا يكون هذا الطعام؟ أجابه جحا: إنه مرق مرق الأرنب.. فبالله.. أليس مضحكاً منظر هؤلاء المثقفين الذين يمرون أمامنا وهم يتجشأون مرق مرق مرق الأرنب؟!. آباء الأنابيب لقد كان الأفذاذ من أسلافنا يعملون من أجل إطالة أعمار آبائهم وأجدادهم. لذلك فإننا نجد مكتوباً في مؤلفاتهم وسيرهم: هو فلان بن فلان بن فلان.. حتى جدهم السادس عشر. عقدة الأب جاءتنا من ثقافات أخرى، ولأننا نتباهى بكل ما هو مستورد، فإن بعض مثقفينا يضعون أمراضهم وعقدهم المستوردة في كتاباتهم وسلوكهم مثلما يضعون علبة المارلبورو فوق طاولة المقهى، حتى أن منهم من يقتل أباه، رمزياً طبعاً، ولا يتورع عن أخذ مصروف الجيب من زوج أمه. في المغرب ظهرت منذ مدة غير قصيرة عقدة خلق الأب. فصرنا نجد بعض صغار الكتاب يصنعون لهم أباً مع أنهم ليسوا مقطوعين من شجرة. ففي هذه الحانة أو تلك تجدهم متحلقين حول مائدة الكاتب الأب ويغدقون عليه من بُنُوَّتهم متنافسين على مناداته، لنقل؛" بَّا علال " مثلاً. وبَّا علال يقيس برورهم بعدد القنينات التي يُرضعونه إياها. أعتقد أنه إذا استمرت هذه العقدة بالانتشار (وليس في المنشار)، فقريباً يصبح لكل حانة ولكل مقهى علالها المستنسخ من علال الأب الذي لا أدري أي نوع من اليتم سيعاني أبناؤه حين يعلمون بأنه كان عقيماً أصلاً.. مع أنه تصرف دائماً كما لو أنه البُضع الذي لا يُقرع أنفه. أفلم يكن حرياً بهؤلاء أن ينادوا القزم قزماً، فهم بذلك لا يهينونه، وإنما يهينون قاماتهم إذ يسمونه عملاقاً. فقط، لو يتخيل هؤلاء الذين يقتلون آباءهم، ليستجدوا لهم آخرين في الحانات.. أيّ أبٍ كان ل جرير وقد هجى وفاخر به الكثير من الشعراء. أما الآباء الرمزيون فأمرهم موكول للنقد (وأقصد هنا النقد طبعاً)، فتحليل الأحماض النووية (A .D.N ) للنصوص كفيل بالكشف عن هوياتهم جميعاً. صناعة العمالقة لقد عرفت بداية العهد الجديد بالمغرب ازدهاراً للكلام لم يسبق له مثيل، فاغتنى المعجم السياسي بكلمات جديدة، وانضافت جرائم كثيرة إلى لغة القضاء، أما الصحافة التي يشكل الكلام عمودها الفقري، فقد انتصبت بعد الانحناء العضال الذي كان قد ألم بها قبل سنوات طويلة. وهكذا، فما من مجال حيوي إلا وله نصيب من ثروة الكلام التي تم اكتشافها.. كما لو بشكل مفاجئ. ولئن كان وقت المرء يضيق عن إحصاء هذه الثرثرة، فإن احتمال أن يكون الكثير منها مزيفاً يجعله يعدل عن مجرد التفكير بالأمر. ومع ذلك، فإن العهد الثقافي الجديد وما أفرزه يغري بالوقوف قليلاً عند بعض الكلمات التي بدأت تتكرر في انتظار أن تتقرر. وأهمها ما يندرج في خانة الألقاب التي جعل البعض يغدقها على نفسه وعلى آل بيته أحياناً من دون وجه حق. فقبل سنوات ضبطتُ أحدهم متلبساً في إحدى المجلات المشرقية بلقب دكتور، مع أن الجامعة لم تكن أصلاً من بين محطاته الدراسية. فبدأت أعير بعض الانتباه إلى مسألة الألقاب حصتها، فإذا الكثير من الكتاب يفعلون الشيء نفسه لمجرد أنهم ينوون فعلاً أو قولاً تحضير الدكتوراه.. فكما لو أن الألقاب بالنيات. أفليس من قبيل العنَّة الإفراط في التظاهر بالفحولة؟. ثم ألا يضاعف صنيع هؤلاء احترامنا لبعض المثقفين الذين شاخت شواهد الدكتوراه في أدراجهم دون أن يستعملوا منها دالاً واحدة على أغلفة مؤلفاتهم العديدة؟. إن "انتحال شخصية" الذي يطوله التسامح الثقافي هو ما جعل الكثيرين يقدمون أنفسهم كدكاترة وأساتذة باحثين وشعراء ونقاد.. على صفحات العديد من المطبوعات، مع أن الكثير منهم بالكاد يعرف القراءة والكتابة. ومن لم يجد في نفسه الجرأة على ذلك، فإن من بين عشيرته من يتكلف بالأمر. هكذا إذن ستطفو فقاعات كبيرة على سطح المستنقع الثقافي.. من بينها الشاعر الرائد (لكأن كل من استطاع الصعود إلى سطح منزله فهو رائد فضاء)، والفنان المبدع وهو كل ضلالة حقيقية، والكاتب الكبير وهو ذلك الذي أوسع الأدب ركاكة والحياة قلة أدب على مدى أربعين عاماً، حتى إذا خرج من عرينه المفترض إلى الهواء الطلق بدا أغبر كما لو أنه من أهل الجُحر. إن بعض هؤلاء الكبار يستحق دكتوراه فخرية في العقم، ومع ذلك فمن بني جلدته السياسية من يصر على تقديمه على أنه "البُضع الذي لا يُقرع أنفه".. بل منهم من يذهب إلى حد المطالبة بطبع أعماله الخاملة تعميماً للغثيان... إنني أخشى أن يعتقد القراء الأجانب؛ أنه إذا كان هؤلاء هم دكاترتنا وكتابنا الكبار، فإن باقي الكتاب لم يسبق لهم أن دخلوا المدارس.. فإذا كان أقزامنا عمالقة، فلا بد أن ذوي القامات العادية لا يُرون بالعين المجردة. إن بعض الكتاب والحفيين يقدمون صورة فظيعة عن واقعنا الثقافي، فيما يتصورون أنهم يقدمون له خدمات جليلة. فبدل أن يعالجوا الجسد من أمراضه، فإنهم يطلقون على تلك الأمراض أسماءً في منتهى الصحة والعافية. إن الكبار كبار بأعمالهم رغم أنوف الصغار، والصغار صغار بضآلتهم وضحالتهم ولن تشفع لهم أنوفهم الكبيرة التي يحشرونها في كل صغيرة وكبيرة، ولا ألبوماتهم الكاملة من الصور جنب أعلام الفكر والثقافة. لذلك، فإن الخارطة الثقافية تحتاج إلى مسح طوبوغرافي لتحديد مياهها الجوفية طالما أن الكثير من الحياة السطحية مصدرها قِرب مثقوبة ما أن تجف حتى تنبعث منها تلك الرائحة. إذا كان لمجتمع ما أن يوقع على وثيقة وجوده التاريخية، فلن يجد أصدق من الثقافة بصمة، ومع ذلك هنالك من يعمل على تزوير البصمة تلك، غير عابئ بما يسفر عنه صنيعه الفظ هذا.. إنني أستهجن أن تتحول الثقافة إلى مجرد حكاية يدافع فيها الشاطر حسن ببسالة (وللبسالة هنا أكثر من معنى) عن دوره ودور أصدقائه في حبكتها، ضارباً عرض النسيان أدوار الآخرين.. إنني أغبط أولئك الذين يسمون القط نمراً، ليس على جرأتهم هل هي جرأة؟ فحسب، وإنما لكونهم لا يحمرون خجلاً حين يُكذب المواء ادعائهم. فبعض أذيال تهتز مزهوة بانتمائها للجسد نفسه الذي يحمل في الطرف الآخر منه رأساً لا يحتاج لأكثر من مرآة حقيقية ليعرف رصيده الكامل من الذل. تكاد ظاهرة الألقاب هذه أن تكون قاسماً مشتركاً بين معظم الدول العربية، والذين يروجونها يعتقدون أن بإمكان المرء أن يكبر بالقول بسرعة أكبر مما لو بالفعل. كما يعتقدون أن الوقوف أمام الكبار ورفع الكلفة معهم، قد يجعل منهم قامات محترمة.. فكما لو أن الحصاة ليست أخت الجبل... قبل أكثر من عشر سنوات قرأت خبراً يتعلق ب الصين، وقبل شهرين تقريباً قرأت خبراً مماثلاً عن اليابان. وفي كلا البلدين شعب عملاق بإنجازاته، والتي لا يكاد يخلو منها منزل في العالم. ففي الصين كما في اليابان ارتفع متوسط طول الفرد بأكثر من عشرة سنتمترات. وهو أمر لا دخل ل الكتاب الأحمر فيه، كما جاء في الخبر، وإنما يعود الفضل فيه إلى تغييرات جذرية في نظام التغذية.. الشيء الذي استفاد منه كل من كان في طور النمو. نستطيع نحن أن نفعل الشيء نفسه في مجالنا الثقافي فنضيف فعلاً بعض السنتيمترات إلى قامة الكاتب ووضعه الاعتباري، وذلك بترجمة نتاجنا إلى لغات أجنبية بنفس الهمة التي نترجم بها إلى العربية أعمالاً لكتاب صغار في بلدانهم، وبالانفتاح على أشكال جديدة للنشر مما أصبحت تتيحه وسائل الاتصال الحديثة، جعل النشر بصيغته القديمة متناسباً مع التوزيع، حتى لا يظل وضعنا الثقافي أشبه ما يكون برأس برناردشو الذي علق مرة على صلعته ولحيته الكثة بالقول: وفرة في الإنتاج وسوء في التوزيع. فبسبب معضلة التوزيع يظل الكثير من الكتاب غير معروفين لدى كتاب آخرين، ليس في البلدان المجاورة فحسب، وإنما في نفس البلد أحياناً. فكما أن القطار لا يحتاج إلى قاطرة فقط، بل إلى شبكة من السكك الحديد، فإن الكِتاب، وهو كائن ذو أجنحة طبعاً، يحتاج إلى فضاء صالح للتحليق.. هي دعوة إذن إلى من يهمهم الأمر ومن بينهم طبعاً من ارتأوا، ولو بحسن نية، أن يضاعفوا من شأننا، فأضافوا أصفاراً كبيرة على يسار الثقافة. *سعد سرحان: شاعر من المغرب.