أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    الأزمي يتهم زميله في المعارضة لشكر بمحاولة دخول الحكومة "على ظهر العدالة والتنمية"        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    بيت الشعر في المغرب والمقهى الثقافي لسينما النهضة    الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة.
نشر في تازا سيتي يوم 19 - 11 - 2010


الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة .
[COLOR=red] ج.بول . سارتر[/COLOR] : [COLOR=darkblue]"المثقف عندي هو من يكون وفيا لمجموعة سياسية و اجتماعية، لكن من دون أن يكف عن مناهضتها. "[/COLOR]
في مقال سابق تحت عنوان [URL=http://tazacity.info/news/articles.php?action=show&id=501]" القول النفيس في تفلس المثيقف الإبليس "[/URL] سبق و أن توقفنا عند أبرز ملامح ظاهرة "المثيقف"، وهنا نتوقف في عجالة عند خاصية إدعاء الدور الرسولي من قبله ، وإن كان هذا الدور ملتصقا بمفهوم المثقف و مخالطا له بشكل ماهوي عموما ، فإنه لدى " المثيقف" تتضاعف مساحته ،كعرض مرضي ،أكثر من اللازم ،فمن الخواص الإبليسية ل"المثيقف" إلباس نفسه عباءة الطهر و تعلقه إدعاء بالوظيفة النبوية ،فتجده يحسب نفسه لا كغيره من البشر ،بل يعتقد في قرارة نفسه أنه من يحمل الخلاص لهم ،و ما عليهم إلا أداء فاتورة تكليف القدر له بأداء هذه المهمة من جيوبهم ، تلك المهمة التي يحسب واهما أنها فوق العادة ،فكم من أمثال هؤلاء ما أدوا للبقال ما في ذمتهم حتى نضب ريقه وكادت روحه تغادر محراب جسده ، أو لصاحب المنزل الذي يكترونه أو حتى لأصدقائهم الذين يعينونهم على الخروج من وضعيات لا يفعلون شيئا قبالتها ، إلا صنع جروحها بأيديهم و ترك الآخرين ينزفون بدلا عنهم........، و إلى هذا تضاف المفارقة التي تطبع العلاقة بين الشعارات التي يحملونها ولا يفتئون يتغنون بها ،وبين خرقها و نسفها على مستوى أبسط سلوكياتهم اليومية ، إذ نجد الاختلاف شعارا في مقابل إقصاء المخالف و تطويقه و الإجهاز عليه سلوكا ،التسامح كلاما و كتابة و التعصب و توسل المديح و الإطراء عملا ، الترغيب في العفاف و القناعة و النزاهة خطابا و الجشع و الطمع و الشبهة و الزحف و الوصولية سيرة وفعلا .
و لتأكيد التعلق الواهم ل" المثيقف " ب الطابع النبوي لوظيفته ، لا بأس من أن نأخذ عينة خطابية ممثلة لذلك ، حتى لا ننعت بإلباس الوقائع ما لا تنضح به ،و باتهامنا الآخرين ظلما و عدونا بتهم لا بينة لنا عليها ،و بعد طول تقص ، اقترحت في خاتمة المطاف ،إشراك القارئ في قراءة ورقة نشرت من طرف أحد النقاد على صفحات الملحق الثقافي لجريدة الإتحاد الاشتراكي ع 27نونبر 1998،(وقد اخترت هذا التاريخ لأنه مفصلي بنظري ،إن بالنسبة للمغرب السياسي أو للمغرب الثقافي كما يفصح عن وجهه من خلال ما يقع في أبرز المؤسسات المعبرة عن صورة المثقف و تطلعاته .) وذلك بمناسبة الحدث الثقافي الذي ميز الساحة الثقافية الوطنية آنذاك ، والذي أسال الكثير من المداد و أفرز زخما من المواقف ،وهذا الحدث كان هو انعقاد المؤتمر الرابع عشر لاتحاد كتاب المغرب ( يوم كان اتحاد كتاب المغرب كذلك بالقوة و الفعل ،و قبل أن يأزف موعد بداية سقوطه الذي بلغ اليوم منتهاه من التردي ،بعد الحروب الصغيرة ل"الكتاب" أو بالأحرى "الكتبة" و تعلقهم بالظرفي و بعدهم عما ينفع الناس و يمكث في الأرض و جريهم وراء الزبد و الزبد يذهب جفاء),
لقد جعل صاحب الورقة موضوعا لمساهمته وضع الكاتب في المغرب الراهن ، المغرب العالمثالثي المقبل على الألفية الثالثة في زمن " يرتهن إلى صناعة الأفكار ..." على حد تعبيره ،و هذا الوضع يستدعي من منظور صاحبنا " لفت الاهتمام إلى المكانة الاعتبارية للكاتب في المغرب ، باعتباره هو منتج الفكر (معرفة و إبداعا )"، هذا الكاتب الذي كان وضعه من منظور صاحبنا" وضع كائن شبه ملغى وموجود على الهامش ، مادام فكره و رأيه و موقفه لم يخلق السؤال الذي من شأنه تفعيل الحياة الاجتماعية و السياسية و الفكرية ".
و هنا مربط الفرس يكشف عن نفسه في هيئة تساؤلية :ما سبب ذلك ؟ هل عدم خلق السؤال الثقافي الكفيل بتفعيل الحياة المغربية في مختلف مناحيها راجع إلى الكاتب و المثقف نفسه أم إلى اختيارات سياسية سابقة ؟
صاحب الورقة يرجح الاختيار الثاني في مقابل الأول ،و نحن من جهتنا نرى بأن تاريخ" اتحاد كتاب المغرب" كفيل بتكذيب ذلك ، فعندما كان تحت رئاسة كتاب و مثقفين لقنوا دروسا في نكران الذات و تنزهوا بتعال منقطع النظير عن كل هدف شخصي وضيع متحملين مهامهم كتكليف لا كتشريف ، حاملين بذلك اتحاد كتاب المغرب على أكتافهم برمزيتهم و فعلهم الجاد بدلا من أن يحملهم هو كصهوة لجواد المصالح الذي لا يشق له غبار ، وما جعلهم منخرطين في الفعل الثقافي الجاد هو إجادتهم الإنصات إلى نبض مجتمعهم و التزامهم بقضاياه ....
وهكذا تصبح تفاصيل المعادلة في غاية الجلاء ؛فكلما اعتلى مثقف محبط فاشل رئاسة اتحاد كتاب المغرب ، سرعان ما يستشري الشلل في جسد هذه المؤسسة ؛فيصبح " منصب الرئيس " بالنسبة له، وسيلة لتقديم الولاءات ، و زاوية تكسبه هيبة المخاطب الذي كان إلى وقت قريب مجردا منها ، لأنه ما استطاع فرض ذلك من خلال ثقل ووزن إنتاجه ، و العكس صحيح طبعا ؛ إذ عندما ينتخب مثقف بالقوة و الفعل ، مثقف جدي مبدع و خلاق ، منزه عن كل غرض شخصي الرئاسة ،فإن هذه المؤسسة تستعيد إشراقها و إشعاعها و قوتها ، هكذا نخلص إلى أن المثقف يتحمل قسطا كبيرا فيما يطرحه صاحب الورقة .
بعد هذا ينتقل صاحب الورقة إلى الحديث عن الوضع الاجتماعي للمثقف –وهنا بيت القصيد-هذا الوضع الذي يحلو لصاحب الورقة نعته ب"الوضع الذي يعامل فيه كأيها كائن "و يتبع ذلك بعد نقطتين للحذف بما يلي :"فليس ثمة مسالك اجتماعية يفيد منها هنا وهنالك ،سواء على مستوى وظيفته ذاتها- و الأغلب في قطاع التعليم- أو في جانب المرافق اليومية المتعامل معها بشكل يومي روتيني قاتل ..."
فما الذي يود ناقدنا المبجل أن يوصل إلى الأذهان؟و كيف يريد أن يعامله كل فرد أو إنسان ؟هل يريد أن تؤدى له التحية و الانحناءات على طول سبيله من قبل من كان ؟ حتى من قبل الجمادات ومن قبل الحمقى و الصبيان ؟ وهل علينا محاكمة الناس لأن لهم ما يحفلون به من أمور الدنيا وما يشغلهم،بعيدا عن الأوهام التي تخص منتجي "مصفوفات الكلام" و"مقاطع البيان"؟ و هل يريد صاحبنا أن توضع تحت تصرفه فيالق الحراس و الآلاف المؤلفة من الجواري الحسان ؟حتى يكتب و يبدع و يغذي الوجدان و يحشو الأذهان و يهدئ روع النفوس و يزرع في القلوب الإطمئنان و الآمان .
إن مثل هذه الأقوال و الدعاوي ، إن كان لها مثل هذه المعاني ،و أتضرع لله أن أكون مؤولا سيئا للأقوال ،إن كان ذاك هو المراد فإني أنحاز كلية إلى الرأي الذي يجعل من "المثقف " منبعا لأزمته الأبدية نتيجة اعتناقه لتراجيدا تفوقه المؤسطر التي يؤلفها و يتقمص بطولتها بنرجسية منقطعة النظير . ....
إن كان صاحبنا يريد ألا يعامل "كأيها كائن " و أن يعرفه الجميع في زمن دقة التخصصات و تناسلها ، و أن يبجله الكل ، فما عليه إلا أن يضع صدرية مرصعة باسمه و بعناوين كتبه التي لا يبلغ عددها أصابع اليد الواحدة وأن يتفرغ للمشي في الأسواق حتى يطلع عليها القاصي و الداني ممن يعرفون فك شفرة الكتابة .
وفي آخر ورقته يحلو لصاحبنا إطلاق العنان للبعد المستقبلي في تفكيره ،واضعا جملة اقتراحات للمؤتمر بصيغة الوجوب ، إذ يقول في اقتراحه الثالث :"من حق الكاتب أن يعيش حياته لا أن يلبث في الظل (و الأنبياء ) في مقدمة الصفوف".
في هذا الزمن زمن التواصل الذي لا يعرف حدودا و زمن المعرفة للكل، زمن التغيرات الجذرية الكاسحة و الانقلابات الوجودية التي لا تزداد إلا تعمقا ،لا زال" المثقف"أو بالأحرى " المثيقف"يريد أن يتبوأ درجة النبوة ، أو على الأقل النيابة على الآخرين في التفكير ،لقد فطن الفيلسوف الوجودي سارتر إلى ذلك منذ زمن بعيد مثله في ذلك مثل مشيل فوكو الذي يرى أن الزمن الذي كان فيه المثقف يقول الحقيقة للناس قد ولى ، لأنه لم يعد يعرفها أكثر منهم .
ذاك هو رأي إثينين من " المعلمين الكبار في الزمن المعاصر " كانا بفعلهما النضالي يلهبان الآخرين ويقدمان القدوة و المثال في الالتزام ،في حين نجد " مثقفينا " ،خاصة أولئك الذين لا تكاد تسمع لهم أثرا في الالتزام بالمبادئ القيمية الكونية و لا في مضمار النضال من أجل استنباتها و تبيئتها و تأصيلها ، نجدهم رافلين في أحلام اليقظة المشوبة بسحابة فصامية ، في حلكة ظلماتها ينعمون باسترجاع فتات رأسمالهم الرمزي على ندرته التي تداني العدم ، رافضين فتح أعينهم المغمضة و تقوية بصرهم الحسير، وجلا من أن يعميهم النور الساطع من حقائق الراهن .
أما أن يحيى "المثقف" حياته فما أظن أن لل"المثقف" حياة خاصة ، تتعالى على معنى الخصوصية التي تسم حياة كل فرد وتفارقها، اللهم على سبيل المجاز و المبالغة المفرطة . أما الخروج من الظل، إلى وهج النور الكفيل بإزاحة الظلمة فيصنع بالفعل الثقافي الجاد و الإبداع الخلاق لا بترديد مقولة الفرادة و التميزالوهمية و الركون إليها ...،مع الكف عن ركوب الشخصي الضيق و التعلق بالمصلحي المبتذل و ما تتعالى عليه نفوس النزهاء و العقلاء ،و الإمعان في تأسيس الإطارات الخاوية التي لا يأتي ميلادها عاكسا لضرورة نابعة من إشكالات يعيشها المشهد الثقافي أو صيغة لتعيين و تحديد مفاصل هذه الإشكالات و العمل على حلحلتها ،بقدرما يأتي تعبيرا عن "الإخوانيات" و عن التقاء المصالح الظرفية لذلك تجدها لا تعمر طويلا ، و غالبا ما لا يسمع عنها إلا ضجيج التأسيس ؛لأن ما أوجدها هو نفس العلة التي تسرع بتقويضها و انتفائها.
إن المتتبع و هو يفتح عينيه على هول الفداحة الثقافية التي نعيشها و التي يتركز محتوى تنويعاتها بأفضل ما يكون التركيز فيما ينتجه " المثقف" حول نفسه من خطابات ،هي أقرب إلى الخطاب الاستهامي منها إلى الخطاب الواقعي ، لا يملك إلى أن يعود بذاكرته إلى الماضي حيث كان المعلمون الموسوعيون الكبار قمة في التعطش إلى الاختفاء و العطاء الأصيل بعيدا عن وهج الشهرة الزائف و قد أصاب أحدهم كبد الصواب ،و هو الفيلسوف المفتتح للحداثة ديكارت ،حين نطق بحكمته الخالدة :" عاش سعيدا من أحسن الاختفاء " يضاف إليه سبينوزا الذي رفض حتى المنصب الذي أسند إليه للتدريس في جامعة هايدلبرغ سنة 1673 ، زاهدا في كل شيء ضامنا قوته من صقل البلورات ، دون أن يحيد قيد أنملة عن الهدف الأسمى أي صقل العقل و التأمل الإنسانيين من خلال كل كتبه ككتاب الأخلاق و رسالة في إصلاح العقل و رسالة في اللاهوت و السياسة ، مؤثرا بذلك الخلود البعدي لا السير خيلاء في مسارات اللحظي السريعة الزوال ، ثم كانط فيما بعد ، هذا الفيلسوف الطهري الذي ترك معينا فلسفيا لا ينضب نظريا و أخلاقيا على وجه الخصوص، و هو المعين الذي لا زالت عقول الإنسانية تنهل منه وقودا لتأملاتها فيما يستجد من إشكالات إثيقية في راهنها ، وقد صدق حين قال بعمق حكمة و نافذ تبصر : "أن يتعاطى الملوك الفلسفة ، أو أن يصبح الفلاسفة ملوكا ، هذا أمر غير متوقع ، لكنه أيضا غير مرغوب فيه :لأن امتلاك السلطة يفسد لا محالة حكم العقل الحر "، قبل أن يصبح امتهان الثقافة مجرد مطية ليس لامتلاك السلطة ، بل فقط لاستجداء رضاها في هذا الزمن المغربي الرديء.
و إذا كانت قبيلة " المثيقفين " لا تحسن إلا الاستعلاء عن من يتحددون في عرفها كغوغاء و دهماء و تتفنن في تسويد الخطابات حول تفوقها عن عموم الشعب أو ما كان يسمى منذ القديم في ألفاظ لغتنا البارعة في شرعنة التراتبية ب"السوقة و الرعاع"، فإن كانط في شق فلسفته الأخلاقي الذي لا زالت قيمته دائمة التجدد ، قد انطلق من أخلاق الرجل البسيط " أخلاق الاسكافي "؛ وهو ما يؤكده في كتابه " نقد العقل العملي" في الصفحة 52 (من الترجمة العربية التي أنجزها غانم هنا عن الأصل الألماني و الصادرة عن المنظمة العربية للترجمة سنة 2008)بقوله :"لا يقلقني بشيء (..)الاعتراض القائل بأنني أريد إدخال لغة جديدة ، ذاك أن نوعية المعرفة هنا تقترب هي ذاتها من الشعبية .........إن اختلاق كلمات جديدة حيث لا تفتقر اللغة إلى هذا الحد من التعابير لمفاهيم معطاة هو سعي سخيف وراء التميز عن الجمهور ،إن لم يكن بأفكار جديدة و صحيحة ،فعلى الأقل بخرقة جديدة تلصق على ثوب عتيق ."
إن هؤلاء العظام الذين ذكرناهم لا زالت الألسن تردد أسماءهم في كل جامعات العالم وخارجها ،وما انفكت التأويلات تتناسل قبالة ما أنتجوه ، يوم كان الإنتاج الفكري إنتاجا فعلا وقوة في ظروف قاسية على أكثر من صعيد ، ومع ذلك حين ينعم عليك القدر بتصفح كتبهم فإنك تتذوق بالفعل ملح العناء في الإنتاج الفكري ،مما يدفعك كقارئ إلى بذل الجهد و يرغمك على التحمل و الصبر كي تكون جديرا بعناء القراءة ، فكتبهم هي فعلا كتب لهم من ألفها إلى يائها ،إذ لا يشوب صفاءها اقتطاعات لأقوال الغير ، و ما يكون من هوامش ،إنما يأتي لمزيد توضيح ، أو إظهارا و تصريحا بما ورد في المتن رمزا وما كان في نسيجه مضمرا ، قبل أن ينقلب التأليف في هذا الزمن الرديء إلى مجرد"قص" و " إلصاق" إلى الدرجة التي غاب فيها البعد التركيبي ووحدة الرؤية عن من يحسبون أنفسهم مؤ لفين و هم في ذلك واهمون ، فقد تجد في المؤلف الواحد ، بل حتى في الصفحة الواحدة منه ،أكثر من استشهادين متناقضين كليا ، لأن "القاص "و "اللاصق" و ليس المؤلف ينفر من العناء و يستلذ اليسر ، و يستعذب اقتراب ظهور " مؤلفه الأرخبيل " حتى ينعم بالظهور و يوزع الابتسامات و يحبر، في كامل الاعتداد بالنفس، التوقيعات على مادة أكثر من ثلثيها ليس له ،بل حتى في هذين الثلثين ، لم يأخذ وقته الكافي في تمثل وفهم مضمون محتواهما قبل أن "يقصه" و" يلصقه"،ومن استبد ت به الأشواق للمفارقات المستعصية على الحل ،و سكنت جنبات رأسه الصبابة لتجديد الوصال مع الصداع النصفي ،فما عليه إلا اقتناء ما يسميه كتاب(ه) تجاوزا، دون أن يرف له جفن أو يغمره قليل حياء .
و الأنكى من كل هذا أن تحمل سفينة "عملية القص و اللصق" نفرا من غير المسكونين بهم السؤال و هوى البحث عن الحقيقة و لا بالرغبة في إفادة الآخرين كي تحط بهم أخيرا ، وقد ألصقت بأسمائهم صفة "دكتور" ، في ميناء الجامعات المغربية ،ليتفرغوا بعدها ليس للبحث عن الجديد و تعميق مسارات الإضافة الكمية و الكيفية في ميدانهم العلمي و حقلهم المعرفي بما يعود بالنفع على طلبتهم و مجتمعهم ،بل لأشياء أخرى ، ليستحيل بذلك منصب الأستاذ الجامعي إلى عصا موسى ، بها يوجد أصحابنا في موقع حملة الخطاب العلمي و منتجيه عرضا و شكلا لا جوهرا و مضمونا ،و لهم فيها مآرب أخرى منها التفتيش عن اللذة بالنسبة لمن في قلوب مرض منهم .
إن الحديث في هذا الموضوع و عنه لهو حديث ذو شجون ،مما يظهر أن الإفادة الوحيدة التي يقدمها أغلب "المثيقفين "في هذا البلد العزيز ، ليست هي الإفصاح عما يلم بذاتنا الجمعية من الآلام و ما يحركها من آمال و أحلام ، عاملين على التشخيص الواقعي للأولى ، و إضفاء القابلية للعقلنة و السترجة و من ثم الأجرأة في الأفق المنظور بالنسبة للثانية ، بقدرما هي تلك الإفادة المتعلقة بالتقديم التكثيفي و التركيزي الراشح الفاضح لكل الأدواء و الأعطاب التي يعانيها " النحن المغربي " و العمل على عرضها في مساحة مكتنزة بالمرض .
مع هؤلاء و أمثالهم أصبحنا في و ضع لا تحسن التعبير عنه إلا عبارات للفيلسوف السياسي ليو ستروس حين قال : نصبح "حكماء فيما يتعلق بكل الشؤون ذات الأهمية الثانوية " "لكننا يجب أن نسلم أنفسنا للجهل الكامل فيما يتعلق بكل الشؤون الأكثر أهمية " مما يفضي إلى نتيجة متناقضة بذاتها وهي أننا"أصبحنا في موقع العقلاء و الحكماء حين ننشغل بأمور تافهة ،لكننا نقامر كالمجانين إذا واجهتنا قضايا جادة :الحكمة بالتقسيط و الجنون بالجملة.........."
---------
[COLOR=red]بقلم: يحيى بوافي [/COLOR]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.