هوية بريس – الأربعاء 30 أبريل 2014 الإنسان مخلوق ومكلف مأمور: فهو مأمور ومحكوم، لكنه كريم ومفضل شريف، فهو مخلوق وجد في الكون من غير إرادة منه ولا اختيار. أوجده خالق كل جماد وحيوان، والذي لا تدرك كنهه العقول ولا الابصار، لكن العقول السليمة توجبه والدلائل الكونية إليه ترشد وعليه تشهد. وقد أمر الخالق الكريم هذا الإنسان بما أرسل به الرسل في سائر الأعصار، من معرفته والخضوع لأوامره واجتناب نواهيه وفق ما تقتضيه طبيعته وصفته، من بين سائر المخلوقات، وسخر له كل ما في الكون من الأجرام السماوية والمخلوقات الأرضية قصد إعمار الأرض بالعبادة والتسبيح والتقديس وإصلاحها باستغلال ثرواتها وتنميتها، وفق المنهج الذي أرسل به الرسل. فكان بذلك الإنسان سيد الكون بلا منازع، وسائر المخلوقات من حيوان وجماد في خذمته وطوع أمره، فهو خليفة الخالق المختار في أرضه، لأنه هو المفضل على جميع المخلوقات. خليفة الله مكرم ومفضل على سائر المخلوقات بالعقل: قال الحق سبحانه: "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِوَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍمِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا" سورة الأسراء/70. قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "وَهَذِهِ الْكَرَامَة يَدْخُل فِيهَا خَلْقهمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَة فِي اِمْتِدَاد الْقَامَة وَحُسْن الصُّورَة. و(يدخل فيها) حَمْلهمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْر مِمَّا لَا يَصِحّ لِحَيَوَانٍ سِوَى بَنِي آدَم أَنْ يَكُون يَتَحَمَّل بِإِرَادَتِهِ وَقَصْده وَتَدْبِيره. و(يدخل فيها) تَخْصِيصهمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ الْمَطَاعِم وَالْمَشَارِب وَالْمَلَابِس، وَهَذَا لَا يَتَّسِع فِيهِ حَيَوَان اِتِّسَاع بَنِي آدَم ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْسِبُونَ الْمَال خَاصَّة دُون الْحَيَوَان، وَيَلْبَسُونَ الثِّيَاب وَيَأْكُلُونَ الْمُرَكَّبَات مِنْ الْأَطْعِمَة، وَغَايَة كُلّ حَيَوَان يَأْكُل لَحْمًا نِيئًا أَوْ طَعَامًا غَيْر مُرَكَّب. والخليفة مفضل على سائر المخلوقات بالعقل الذي هو عمدة التكليف، وَبِهِ يعرف اللَّه ويفهم كَلَامه، وَيُوصَل إِلَى نَعِيمه وَتَصْدِيق رُسُله. إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْهَض (العقل) بِكُلِّ الْمُرَاد مِنْ الْعَبْد بُعِثَتْ الرُّسُل وَأُنْزِلَتْ الْكُتُب. فَمِثَال الشَّرْع الشَّمْس، وَمِثَال الْعَقْل الْعَيْن ؛ فَإِذَا فُتِحَتْ وَكَانَتْ سَلِيمَة رَأَتْ الشَّمْس وَأَدْرَكَتْ تَفَاصِيل الْأَشْيَاء" إنتهى كلام القرطبي(1). فالعقل خاصية الإنسان الذي فضل به على سائر المخلوقات من الحيوان، لأن به تتضح حقائق الأشياء لكل عاقل، كما تتضح ظواهرها بالعين لكل ناظر. لكن غاية اتضاح الحقائق والرؤى منوطة بسلامة العقل والعين، فكلما سلم العقل من العلل والأهواء وتخلص من الجهالات والخرافات وذكي بنور العلم والإيمان كلما سلمت فطرته ونضح بالحكمة وسداد الرأي وتخلص من الجهل والغباوة والخرافات، وكلما كان به خلل أو ابتعد عن منهج الإيمان أو اعتراه جهل كلما فسدت فطرته ونضح بالسفه وفساد الرأي. فهذا مثل العين، فكلما تفتحت على الأشياء كلما تجلت لها أشكالها وألوانها واتضحت لها أنواعها وأجناسها فميزت بين الضار والنافع منها، وكلما كان بالعين خلل أو رمد أو كل بصرها كلما عسرت الرؤية أمامها أو استحالت. الإيمان نور العقل ودليله فسلامة العقل لا تتحقق إلا بسلوك مسالك الإيمان والاهتداء بنوره، فهذا النور وهذا السبيل هو الذي يفتح أمام العقل جميع المغالق التي يقف عاجزا دونها، فهو الذي يهديه للوصول إلى إبصار الحقائق التي لا طاقة له لبلوغها، من تفاصيل أمور الغيبيات وغايات الوجود وحتمية المصير. فبواسطة الإيمان بما جاء به الوحي، من جميع الغيبيات التي لا تدرك بالحواس، يهتدي العقل إلى إدراك ما وراء العالم المشاهد المحسوس. فيربط المسببات، التي هي من الأمور المحسوسة والملموسة في هذا الوجود، بالأسباب الخفية التي تكمن من ورائها، بل يتوصل إلى أن من وراء هذه الأسباب قوة حكيمة مدبرة هي التي أنشأتها ووضعت لها قوانين في طبيعة الأشياء، تتحرك وتتفاعل بموجبها وفق ما اقتضته حكمتها وإرادتها. فلا يقف العقل المشبع بالإيمان عند تلك الأسباب المادية الطبيعية، بل يتجاوزها إلى الإرادة التي أوجدتها واليد التي تحركها. فيرد كل حركة في الكون إلى خالق الوجود، الذي أحسن كل شيء خلقه، فما من شيء حادث إلا ويحدث بإرادته وحكمته ومشيئته التي تتجلى في رعاية مصالح الخلق من الناس. هذا الخالق سبحانه الذي اقتضت إرادته وحكمته تسخير كل ما في الوجود لمصلحة الإنسان، فهيأ الكون كله ليكون صالحا لفائدته، وأوجد فيه النواميس الطبيعية المنضبطة التي يدركها العقل حتى تتوافق حركته مع حياة الإنسان. فينطلق هذا العقل في رحاب المعرفة الحقة، التي تعترف للخالق بفضله وإنعامه على خلقه بما يسر لهم وسخر لهم من سائر المخلوقات. فيقر بحكمة صنعه وحسن تدبيره، ويراعي حرمته فيما تفضل به عليه وأنعم، فيتعامل مع الظواهر الكونية بكل احترام وتقدير، يستنطقها بكل إجلال، تعظيما لصانعها وتقديرا لجميل فضله، وهو يقصد إرضاءه بعلمه وعمله متوخيا تحقيق المصلحة العامة للعباد، فينتج بذلك معرفة تصلح و لا تفسد، مستحضرا التوجيه الرباني في ذلك إذ يقول الحق سبحانه: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» (سورة الأعراف:56). ولنا في السلف الصالح لهذه الأمة خير مثال في ذلك، فقد أبدع المسلمون في القرون الزاهية المشهود لها بالخيرية وأنتجوا معرفة إنسانية ربانية وضعوا بها أسس الحضارة الإنسانية التي أخرجت الناس من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة، فقد عملوا بهذا النهج فأبدعوا وأحسنوا، فكانوا علماء ربانيين فتحوا عقولهم لنور الإيمان فسلك بهم مختلف مسالك العلم وأنار لهم رحاب المعرفة الواسعة، فكان لهم فضل السبق في البناء الحضاري الإنساني. مفهوم الحرية في ميزان العقل المجرد عن الإيمان فإذا تجرد العقل عن الإيمان وقف بعلمه عند تلك الأسباب المادية الطبيعية ولم يتجاوزها إلى الٍارادة التي أوجدتها والقدرة الي تسيرها، فيحصر معرفته العلمية في تلك الظواهر المادية ويفسرها تفسيرا ماديا طبيعيا محضا مجردا عن الحكمة الإلهية التي يسير الكون بموجبها وعلى مقتضاها. فلا يرى مثلا في تعاقب الليل والنهار إلا نتيجة طبيعية لدوران الأرض حول نفسها، فالليل والنهار كمسبب، يفسره ويربطه بهذا السبب الطبيعي، أي دوران الأرض حول نفسها، ولا يرده إلى خالق هذا السبب الذي هو الله سبحانه، الذي خلق الإنسان وكرمه وسخر له الكون كله فجعل الحياة في الأرض منضبطة بهذا الناموس الطبيعي الذي لا تستقيم إلا به، كي يسعى بالنهار ويستريح بالليل ويعرف عدد السنين والحساب. وبهذا التجرد يكون العقل مطية للأهواء والنزعات المادية، فينتج تفكيرا ماديا مرتبطا بالظواهر المادية، مجردا عن معاني الإيمان. و يصبح صاحبه أقرب إلى البهيمة منه إلى الإنسان، فيرى هذه الحياة الدنيا غاية وجوده، لأنه قد حصر تفكيره في مظاهرها فاغتر بها واستهوته أشكالها وألوانها وأنخدع ببريقها الزائف، فانساق وراء شهواتها وملذاتها، فتراه يستغرق زمانه في سبيلها، غايته إشباع رغباته وشهواته كيفما كانت الوسيلة، من غير مراعاة للحدود ولا للحرمات، ولو على حساب حقوق الغير. فلا يعرف معنى للطاعة ولا للمعصية، ولا تأثيم عنده بغصب أو نهب أو سرقة مال أو سلب حق، ولا ذنب كذلك عنده في هتك عرض أو ربما في سفك دم حرام، ما دام ذلك يحقق له المصلحة الشخصية ويدفع عنه البأس والحرج خاصة، إذ لا يعرف معنى الإساءة والإحسان. فهو لا يستشعر مراقبة الخالق على أقوله وأفعاله، فلا حظر عنده على قول أو فعل، ولا معنى للحياء والخجل ما دام يمارس حياة طبيعية بهذه الطريقة التي يرى أنها من أوجب حقوقه. ولا معنى عنده لفواحش الأقوال كالكذب والغيبة والنميمة وما شابهها، ولا لفواحش الأفعال كالزنا وغيرها، إلا ما يدخل تحت طائلة القانون، فيتقيه لذلك، ولا عبرة عنده بمكارم الأخلاق ولا بالمروءة. وهو بهذا لا يرى العمل عبادة، فالعمل عنده مجرد عن الإخلاص لله عز وجل، إلا إذا كان ذلك بمقابل مادي فيخلص فيه بقدر ذلك المقابل، فيكون عرضة لمصايد الشيطان فيمكن أن يغش في عمله أو يستغل نفوذه لأغراض دنيئة وغير مشروعة أو يرتشى أو غير ذلك مما يتنافى مع الإخلاص الواجب. وبفقده للإخلاص أو الإحسان، الذي هو من أهم صفات الإيمان، يكون الفساد أهم صفة من صفات أفعاله، فلا يسلم من فساده إنس ولا حيوان ولا جماد. فالحياة الطبيعية في ميزان العقل المجرد عن الإيمان هي التي تكتمل بتناسق تام مع طبيعة الأشياء في أصل خلقتها، من غير مراعاة لضابط أخلاقي رباني، وكل توجيه لتقويمها بالأخلاق الربانية إنما هو تصرف شاذ وتغيير للطبيعة التي خلقت عليها الأشياء، في ميزان هذا العقل. ووفقا لذلك وتماشيا مع هذه الطبيعة على الإنسان أن يستمتع بحياته الطبيعية من غير عائق يحد من رغبته أو يتصدى لشهوته، ما دام ذلك يستجيب للرغبة والإرادة الطبيعية التي جبل عليها، فذلك أمر طبيعي يتناسب و يتناسق مع طبيعة الاشياء في هذه الحياة، عند هذا النوع من العقل. فلا حدود عنده لحرية الإنسان، مادام إنما يمارس حقه في الحياة. فلا تراه إلا وهو يسلك مسالك الأهواء والنزوات، متقلبا بين دروبها وأصنافها، متمردا على الأعراف والعادات، قد نزع عنه ستر الحياء وتخطى حواجز الأخلاق وداس المروءة والكرامة والشرف ولم يقف عند أي شبهة أو حرمة. فيصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فأصنع ما شئت». وبسلوك هذا النهج ينطلق هذا العقل بالإنسان في متاهات الأهواء التي لا تنتهي به عند غاية، بل تتجاذبه مختلف النزوات والأهواء فيلهث ورائها من غير توقف، غايته إما تلبية رغبة عابرة أو إتباع هوى جامح، من غير تمييز بين المباح والمحظور والطيب والخبيث والنافع والضار. فلا يميز في اللباس بين الساتر والكاشف للعورات، ولا يميز في المطعم والمشرب بين الطيب والخبيث، ولا يميز في كسب المال ولا في إشباع الرغبة بين الحلال والحرام، ولسان حاله يقول أنا حر في نفسي! عاقبة التحرر من قيود الإيمان وتجاوز حدوده وبفقدان التمييز يكون الإنسان قد فقد أهم الخصائص التي خصه الخالق سبحانه بها وميزه وكرمه وفضله على سائر المخلوقات من الحيوان، التي من فطرتها إشباع الغرائز الحيوانية من أكل وشرب وجماع، من غير مراعاة لحد أو حرمة. وإذا فقد الإنسان خصائص التمييز هذه التي أناط الله سبحانه تكليفه بها، بمقتضى العقل الذي هو مظنة التمييز، نزل بذلك عن مرتبة الإنسان المكلف العاقل المميز إلى منزلة البهيمة العجماء التي لا تفهم ولا تعقل ولا تميز، فصدق عليه وصفها سواس بسواء، وإن كان يمشي على اثنين وهي على أربع، فهما سواء في نقص في الفهم والتمييز. قال الحق سبحانه في سورة الأنفال: «إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ» (الآية:22). وقد توعد الحق سبحانه هذا النوع من الناس، الذين يعطلون حواسهم التي تؤهلهم إلي التمييز، بنار جهنم حيث غفلوا عن حقيقة إنسانيتهم ومكانتهم ورضوا بالانحطاط بأنفسهم إلى مرتبة الأنعام من البهائم، قال الله عز وجل: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (سورة الأعراف:179). فلَهُمْ قُلُوب لَا يَفْقُهُونَ بِهَا الْحَقّ، وَلَهُمْ أَعْيُن لَا يُبْصِرُونَ بِهَا دَلَائِل قُدْرَة اللَّه بَصَر اعْتِبَار، وَلَهُمْ آذَان لَا يَسْمَعُونَ بِهَا الْآيَات وَالْمَوَاعِظ سَمَاع تَدَبُّر وَاتِّعَاظ. فأُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ فِي عَدَم الْفِقْه وَالْبَصَر وَالِاسْتِمَاع، "بَلْ هُمْ أَضَلّ" مِنْ الْأَنْعَام لِأَنَّهَا تَطْلُب مَنَافِعهَا وَتَهْرُب مِنْ مَضَارّهَا وَهَؤُلَاءِ يَقْدَمُونَ عَلَى النَّار مُعَانَدَة(2). الإنسان مقيد في حريته وإرادته بإتباع المنهج الرباني: فهو ملزم باتباع المنهج الرباني الذي أرسل الله به الرسل، حتى تتحقق إنسانيته ويتميز عن الحيوان الذي سخر لخذمته، فيكون بذلك أهلا للخلافة. وكل تمرد عن هذا المنهج الرباني وتحرر من قيوده هو انحطاط بإنسانية الإنسان إلى مرتبة الحيوان، وخروج عن نهج الأسوياء إلى عربدة السفهاء، الذين لا يميزون بين ما يصلح أحوالهم وما يفسدها، والذين يفسدون في الأرض أكثر مما يصلحون، مهما ادعوا من الصلاح والسداد، ومهما أظهروه من الإحسان وحسن التدبير. وذلك أن السداد عندهم تابع لهوى النفس الأمارة بالسوء، فيأتون ما ترغب فيه وتحبه وتهواه، ويستحسنون ما تستحسنه ويستقبحون ما تستقبحه، وينفرون مما لا تريده ولا تحبه ولا تهواه، فتكون إرادتهم وحريتهم رهينة برغباتهم وشهوات أنفسهم، حيث تنطلق بهم إرادتهم وحريتهم في آفاق تلك الرغبات والشهوات، التي تتجدد في كل وقت وحين. فيتمادون في الآثام ويرون الحق حقا ويتجنبونه لأنه يخالف رغباتهم وما تميل إليه انفسهم، ويرون الباطل باطلا ويأتونه لأنه يوافق أهوائهم وما تشتهيه أنفسهم، فإن جاءتهم موعظة ترشدهم إلى الحق وتذكرهم به وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه، أخذتهم العزة بالإثم، نظرا لحبهم الشديد له وانغماسهم فيه، فيدافعون عنه بكل قوة وجرأة كلما تصدى لهم متصد أو نهاهم عنه واعظ، لأنهم يرون أن ذلك هو عين الحق والصواب. وقد قال الحق سبحانه وتعالى في هذا الصنف من الناس في سورة البقرة (الأيات:204-207): «ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام (204) وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد (205) وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد (206) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد (207)». فهذا الصنف من أبعد الناس عن السداد والصلاح، بل هم إلى الاعتباط والسفه أقرب وعن الاستقامة والرشد أبعد. وإن أهل الرأي والسداد والذين يكون الصلاح والاستقامة الأغلب من صفاتهم، هم الذين يقفون بعقلوهم عند أوامر الشرع وتوجيهاته، حيث يجعلون أهواءهم تبعا له، ويقفون بحريتهم عند حدوده فلا يتجاوزونها، وهم الذين يبتغون بعلمهم وأقوالهم وأفعالهم مرضاة الله تعالى، إذ قد اهتدوا بهديه وساروا على نهجه واستناروا بنوره، الذي أخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الهدى والعلم وارتقى بهم من السفه إلى سداد الرأي ورجحان العقل، وقوم سلوكهم فانضبطت أخلاقهم وسمت أنفسهم عن سفاسف الأمور، وتحرروا من العبودية لغير الله تعالى فتخلصوا من أسر الشهوات والملذات والأهواء، فعرفوا معنى الحرية وحدودها، فوقفوا عند الحدود فلم يتجاوزوها، وصانوا الحرمات فلم ينتهكوها، وأدوا الحقوق فلم يضيعوها، وقاموا بالواجب على أكمل وجه، وفرقوا بين الحق والباطل وميزوا بين الحلال والحرام، لأنهم أحرار بحق غير مأسورين بالأهواء والشهوات، وشرفاء غير أنذال، فنفعوا أنفسهم وتعدى نفعهم إلى غيرهم، فنفع الله بهم البلاد والعباد. فقد اهتدوا بنور الإسلام الذي جاء به محمد خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، الذي أخرج الناس لأول مرة في تاريخ الإنسانية من أحوال الجاهلية ومختلف أشكال العبودية والاسترقاق إلى نور الحضارة وحقوق الإنسان، حيث حقق إنسانية الإنسان وأعطى لكل ذي حق حقه. فلا اهتداء إلا بهديه ولا استقامة إلا بسلوك نهجه، فهو النور المبين الذي ينير حياة الإنسان، ويسمو به من عربدة السفه إلى رصانة العقل والرشاد، ويفكه من أسر الشهوات والملذات، ويرشده إلى سلوك طريق الحرية المستقيم، الذي يحفظ له العزة والكرامة في الحياة الدنيا ويحقق له السلامة في الآخرة. الحرية الراشدة فالحرية الراشدة، تلك الحرية التي تحقق إنسانية الإنسان وتحفظ كرامته وتتوافق مع الفطرة التي خلقه الله سبحانه وتعالى عليها، هي التي تهتدي بالعقل الرصين، والعقل الرصين الثابت والكامل هو الذي يستنير بالنور الرباني الذي سطع على الأرض وأنار الكون منذ أربعة عشر قرنا فأخرج الناس من ظلمات الجهل والظلم إلى نور العلم والمعرفة والعدل، ومن العبودية إلى رحاب الحرية، لكنها حرية على الطريق المستقيم، تلك التي تتوافق مع فطرة الإنسان والكون، وتراعي الحقوق وتقف عند الحدود والحرمات. فهي تلك الحرية التي تحترم الثوابت والمقدسات فلا تتجرأ على انتهاكها، وهي تلك التي تستشعر مراقبة الخالق عز وجل على جميع الأقوال والافعال وعلى جميع الحركات والسكنات، فلا تزيغ بها الأهواء ولا تميل بها الشهوات، ولا تعيث في الارض فسادا، إذ هي التي يكون الحياء ردائها، فتستحي من الخوض في الفواحش ما ظهر منها وما بطن. وهي تلك الحرية التي لا تمتد بها الأطماع إلى تجاوز حدود المباح والحلال، بل إنها تلك التي تحيد عن الشبهات تجنبا للجنوح إلى الحرام، فتقف دون ذلك في العادات كما في الشهوات والرغبات، إذ القناعة زادها والطاعة ديدنها، والسماحة والحلم سجيتها، وتمجيد الخالق طبيعتها واحترام المخلوق ميزتها. فهي تلك الحرية التي تمتطي جواد العفة وتمسك بزمام الرزانة والثبات والوقار، وتسلك دروب التقوى ومدارج السالكين من الصالحين من أهل الورع، وتستنير بسراج الإيمان، فلا تتزحزح عن لزوم الطريق المستقيم. قال الله سبحانه وتعالى في سورة المائدة (الآييتان:15-16): «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» صدق الله العظيم. والله ولي التوفيق وهو المستعان على كل حال. ______________________________________ هامش: (1) تفسير القرطبي؛ الآية:70 سورة الأسراء، بشيء من التصرف. (2) تفسير الجلالين؛ الآية:179 سورة الأعراف.