اعتنى الفكر الغربي بموضوع “الحرية” ابتداء من عصر الأنوار والثورات الأوربية، خصوصا الثورة الفرنسية، وظهرت آنئذ فكرة الحرية بتجلياتها الرئيسة التي تتلاءم مع تلك المرحلة، خصوصا حرية التعبير والتفكير، ثم استمرت العناية ب”الحرية” عبر العصور. كان الاستبداد السياسي متحالفا في الغرب مع الكنيسة ورجال الدين، ولما أولى رجال الفكر اهتمامهم ب”الحرية” لمناهضة الاستبداد، لم يكن ذلك ليتم لهم إلا برفض حليفه وسنده المتمثل في الدين ورجاله ومؤسساته، لذا نشأت “الحرية” في بيئة نابذة للدين رافضة له، واستمر الاهتمام بها في ظل هذه البيئة العلمانية إلى أن تفرعت “الحرية” إلى “حريات” لم يُتَطرّق إليها في بداية الأمر، ولم ينَظَّر لها، ومنها ما اصطلح عليه لاحقا ب”الحريات الفردية” المرتبطة بجسد الإنسان وشخصه، وقد أطلِق عليها هذا الوصف تمييزا لها عن الحريات الجماعية التي يعتني بها المجتمع/الجماعة. بناء على هذه النظرة للحرية/الحريات، ظهرت في المجتمع الغربي مجموعة من التصرفات، كالعلاقات الجنسية الرضائية بين راشدين؛ الزواج المثلي؛ زواج المحارم؛ الإجهاض؛ القتل الذاتي (الانتحار)؛ تغيير الجنس من ذكر إلى أنثى أو العكس؛ كشف الجسد؛ الوصية بحرق الجثة بعد الموت؛ وغير ذلك من التصرفات التي ليست سوى تجليات وفروع لأصل واحد هو (حرية التصرف في الجسد). حرية التصرف في الجسد: يحق لنا أن نتساءل ابتداء: هل الإنسان حر في التصرف في جسده؟ وإذا كان كذلك، فمن أين اكتسب هذه الحرية؟ للإجابة عن هذين السؤالين وغيرهما، لابد من الإشارة إلى المرجعية المؤطرة لكل فكر ورأي. بالنسبة لكثير من الغربيين، فإنهم يعلنون انتسابهم للفكر المادي العلماني الذي يقصي الدين وأدبياته عن تحليل كل القضايا العلمية والفكرية والوجودية، وانطلاقا من مرجعيتهم هذه، فإنهم عملوا على أجرأة هذه الحريات الفردية وتنزيلها على شكل قوانين، كقانون إباحة القتل الذاتي بسويسرا، وقانون مؤطِّر للزواج المثلي، وآخر مؤطر للمعاشرة الجنسية بين الجنسين خارج مؤسسة الزواج في كثير من البلدان الغربية، وقانون مؤطر لعملية حرق الجثت بعد الوفاة وإحداث أفران خاصة بذلك رغم عدم وجود هذا الفعل في تراثهم المسيحي، إلى غير ذلك من القوانين، والأصل في هذه الأفكار التي تبلورت في شكل نصوص ومدونات قانونية هو ابتناؤها على فكرة حرية الشخص في جسده، وبالتالي فهو حر في الامتناع عن الزواج، كما هو حر في معاشرة من شاء، متى شاء، والمرأة حرة في إبقاء الجنين واستمرار الحمل، ولها الحرية في إسقاطه، ولها الحرية في أن تقدم رحمها للغير تمكينا له من الإنجاب، ولا حق لأحد أن يقيد حرية هؤلاء بقوانين أو شرائع مدنية أو دينية. وفكرة الحرية في التصرف في الجسد لا تجد لها مسوغا إلا استنادا إلى فكرة أخرى تعدّ أصلا لها، وهي أن الإنسان يملك جسده، والتملك ذاك هو الذي أباح له التصرف. ولمناقشة الفكرة، لابد من مناقشة الأصل بدل الفرع، فإذا ثبت الأصل سلّمنا بالفرع، وإلا فلا، لذا وجب التساؤل: هل يملك الإنسان جسده؟ بدل: هل الإنسان حر في جسده؟. لتملّك الأشياء طرائق معروفة، وسبل معهودة، عرفتها البشرية منذ القدم، منها الشراء والإرث والصدقة والهبة والوصية وغيرها مما يندرج في أبواب المعاملات، أو يتم التملك بالاختراع والصناعة والإنشاء، فمن صنع آلة أو أنشأها فهي ملك له. وما يقال عن الآلات والأشياء يقال عن جسد الإنسان، فبأي حق يدعي الإنسان أن الجسدَ ملك له وهو لم يشتره ولم يرثه، كما أنه لم يصنعه ولم يخلقه؟ لذا كان منطقيا نسبة تملك الأجساد إلى خالقها دون سواه، وهذا الربط بين الخَلق والتملك هو ما قرره جون لوك بقوله في سياق الحديث عن الحرية: “لأن خالق البشر كافة صانعٌ واحدٌ قدير على كل شيء، لا تُحَدّ حكمته، وهم عبيدٌ لرَبّ واحد عظيم بثّهم في الأرض بإرادته لكي يقوموا على شؤونه لا شؤونهم، فهُم مِلكه وخليقته”1. إن فكرة الربط بين الخَالقية والمالكية فكرة منطقية، وكانت سائدة في الغرب المسيحي قبل انتشار الفكر الإلحادي وسيطرته في القرون الأخيرة الماضية، حيث أسهم في تشكيل العقل الغربي المعاصر، خصوصا مع إشاعة الفلسفة الوجودية لعقيدة موت الرب وإقصائه من الحياة نهائيا، قال برتراند رسل: “أما الرب فهو في رأي سارتر قد مات منذ عصر نيتشه، والواقع أن الشخص الذي لديه استعداد لمواجهة العالم على ما هو عليه يذَكّرنا بالبطل عند نيتشه، فمِن هذا المصدر استمد سارتر خروجه على الإيمان الديني”2، والسبب في إحالة سارتر على نيتشه واعتماده عليه في هذه الجزئية هو اعتقاد هذا الأخير “أن الإنسان الحر ينبغي أن يعترف بأن الرب قد مات”3، وإذا اعتقد الإنسان موت الرب الخالق، أو أنكر وجوده أصلا، لم يبق للجسد مالكٌ سوى الإنسان نفسه، لذلك منح لنفسه الحريةَ في التصرف فيه أثناء الحياة وبعد الممات، لأن الحرية فرعٌ عن المالكية. أما الإنسان المتدين – مسلما أو غير مسلم – الذي ينأى بنفسه عن الفكر الإلحادي، فإنه يؤمن بأن الله تعالى خالقُ ومالكُ الجسد بجميع أعضائه ومفاصله وكل مكوناته، “قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ” (سورة الملك، الآية: 23). والأجساد بناء على هذا التصور ليست سوى أمانات عند الإنسان، يجب عليه الحفاظ عليها كما يحافظ على سائر الودائع، وقد يرد المخالف على هذا الرأي بما ورد في نصوص الشرع من نسبة الأجسام إلى أصحابها مما يدل على تملكهم لها، مثل قوله تعالى: “وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ” (سورة المنافقون، الآية: 4). وقوله صلى الله عليه وسلم: “مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ، حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ”4، وقوله: “إن لجسدك عليك حقا”5. وهذه النصوص وأمثالها لا تفيد في دعواهم، لأنها عبارات مجازية مبنية على شدة الملازمة وطولها، ومن نظائرها في القرآن نسبةُ الأموال إلى الناس، مثل قوله تعالى: “مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ” (سورة البقرة، الآية: 261)، وقوله سبحانه: “لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ” (سورة آل عمران، الآية: 186)، ورغم هذه النسبة، فإن الأموال في الحقيقة هي أموال الله، وما الإنسان إلا مستخلف فيها، مستأمن عليها، بدليل قوله تعالى: “آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ” (سورة الحديد، الآية: 7)، وما يقال عن الأموال يقال عن الأجسام والأجساد، سواء بسواء. وإذا تقرر أن الإنسان ليس خالقا لجسده، انتفت عنه صفة المالكية، والتصقت به صفة الائتمانية، المترتبة عن الأمانة الأصلية التي تحمّلها الإنسان وأبْتها سائر الكائنات إشفاقا منها، وبمقتضاها يتم “إخراج الإنسان من الشعور بامتلاك الأشياء إلى الشعور بالائتمان عليها”6، فيصير ملزما باتباع تعليمات وتشريعات الخالق المالك الذي استأمنه على الأشياء؛ ومنها جسده؛ مثل تحريم الانتحار، وتحريم زواج المحارم، وتحريم الزواج المثلي، وتحريم الزنى، وتحريم حرق الجثت، وغيرها من الأحكام التي لا يحق لأحد أن يقررها إلا الله تعالى بمقتضى الخالقية، وعلى الإنسان المخلوق أن تكون أفعاله وتصرفاته متوافقة مع تعاليم شرع الله الخالق وألا تكون متعارضة معها، وهذا ما أشار إليه توماس هوبز بقوله: “إن الله الذي يرى ويتصرف بجميع الأمور، يرى أيضا أن حرية الإنسان في القيام بما يريد، تتوافق مع ضرورة فعل ما يريده الله، ليس أقل أو أكثر”7. من مفاسد الحرية المطلقة: إذا كانت السلطة وجوداً وممارسةً من المصالح الأساس لانتظام حياة المجتمع؛ لأنه لا يوجد مجتمع سليم بدون سلطة تنظم أحواله وتدبر أموره وقضاياه؛ إلا أن هذه المصلحة/السلطة قد تصير مفسدة إذا كانت مطلقة لا رقابة فيها ولا محاسبة. والأمر كذلك بالنسبة للحرية، فهي من المصالح الضرورية للحياة، والمجتمعُ السواء متوقفٌ على وجودها، مختلٌّ في حالِ غيابها، ولا تتحقق التنمية دونها، ولا يسمق الإبداع في حالة فَقْدها …، ورغم أهميتها وضرورتها وجماليتها وبهائها، إلا أنها تنقلب مفسدةً إذا كانت مطلقة بدون ضوابط وحدود. ومن أمثلة ذلك، ممارسة الحرية المطلقة في اقتلاع الأشجار، ورمي النفايات في البحار والأنهار، واستعمال المحروقات، وإفرازات المصانع والمطاحن ومعامل الزيوت ومحطات تكرير المحروقات، وغير ذلك من التصرفات، فإنها لا محالة تؤدي إلى تخريب البيئة، مما يترتب عنه إيذاء الإنسان، وهو ما يطلق عليه حرب الإنسان ضد الإنسان. كذلك الحرية المطلقة في الجسد، لها مضار متعددة: لها مضار على الإنسان ذاته، كتجويز الانتحار، أو التسبب في أمراض خطيرة أو تيسير نقلها جنسيا من إنسان إلى إنسان8. لها مضار على المجتمع ومؤسساته الأصيلة، خصوصا مؤسسة الأسرة، حيث الإقبال على الجنس خارج الزواج يؤدي إلى تراجع الأسرة حتما9، وهو ما كانت تطمح إليه رائدة الفيمينيست سيمون دي بوفوار حين قالت: “ستظل المرأة مستعبدة حتى يتم القضاء على خرافة الأسرة، وخرافة الأمومة، والغريزة الأبوية”10. لها مضار على مستوى منظومة أخلاقية بكاملها، حيث يصير الحديث عن العفة والحشمة مجرد أساطير أو كلاما من الماضي أو –ربما- تخلفا11. الحرية المسؤولة: وقد يفهم البعض أن تحريم بعض التصرفات وسنّ القوانين لمنعها يحُدّ من حرية الإنسان ويقيدها، وقد انتبه كثير من المفكرين إلى هذه الجزئية لتبديد الغبش حولها، لتوضيح الفرق بين الحرية المسؤولة والحرية المتسيبة، أو الفرق بين “الحرية” و”الإباحية” حسب عبارة جون لوك الذي يقول: “ومع أن هذا الطور الطبيعي طور من الحرية، فهو ليس طورا من الإباحية، فالإنسان في هذا الطور يتمتع بحرية التصرف بشخصه وممتلكاته، إلا أنه لا يتمتع بحرية القضاء على حياته”12. وقد تفرّس كبار النهضويين العرب لهذا التسيب الذي يمارَس اليوم باسم الحرية ونسبةً إليها، فنبّهوا إليه وحذروا منه، قال أحمد فارس الشدياق: “لا جرم أن الحرية أمر حسن يتمناه جميع الناس، إلا أنها متى آلت انتهاك الأدب وجب منعها”13، وقال فريد وجدي: “هل هذه الحرية هي الانفراط الكلي من كل قيد؟ والانخلاع المطلق من كل رابط؟ كلا، فتلك حرية الحيوانات التي لا نحسدهم عليها، بل الحرية التي يتوق إليها فلاسفة الأمم هي الحرية المعتدلة التي تسمح للإنسان باستعمال سائر خصائصه بدون أن يخشى مسيطرا عليه إلا إذا تعدى حدوده المحددة له بواسطة الشريعة العادلة، وكان تعديه ذلك مضرا ببعض أعضاء الجمعية التي هو فرد منها”14، وقال الشيخ محمد عبده: “وليست سعادة الإنسان في حرية البهائم، بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه”15، وقد وُفّقَ الأديب مصطفى صادق الرافعي في نحت عبارتي “حرية القيد” و”حرية الحرية” للتمييز بين “الحيوانية” و”الإنسانية” حين قال: “والدين حريةُ القيد لا حرية الحرية، فأنت بعد أن تقيد رذائلك وضراوتَك وشرَّك وحيوانيتك، أنت من بعد هذا حرٌّ ما وسعتك الأرض والسماء والفكر، لأنك من بعد هذا مكمل للإنسانية، مستقيم على طريقتها”16. وميّز طه حسين بين خير الحرية وشرّها17، وجعل الانفلات الواقع باسمها مندرجا ضمن النوع الثاني، لذا طالبَ بوضع حدّ -بطريقة ناعمة- لحرية الصحافة والسينما والراديو، لأن استعمال الحرية بدون ضوابط في هذه المجالات قد يجعلها فوضى18. إذا تأملنا هذه التحذيرات التي أطلقها هؤلاء المثقفون الكبار، فإننا لا نلمس خوفهم من الحرية، بقدر ما نلمس خوفهم على الحرية، لأن الحرية اللامسؤولة قد يتخذها البعض ذريعة للانقضاض على الحرية ذاتها لرفضها ونبذها، وهذا ما وقع فعلا، حيث اتخذ البعض جملةً من التصرفات ذريعة ليبني عليها أحكاما عامة حول (أضرار الحرية ومفاسدها). ولعل لغةَ التحذير هي التي جعلت النهضويين الأوائل يستعملون عبارات مثل “الحيوانات” و”البهائم” و”الحيوانية” وغيرها، وهم في ذلك متوافقون مع كثير من المفكرين الغربيين، مثل جون لوك الذي استعمل عبارة “الإباحية”. والحديث عن الحرية المنضبطة أو المسؤولة، يلزمنا أن نتساءل عما تنضبط به تلك الحرية، ولعل أهم تلك الضوابط هو القانون المنظم للمجتمع، بحيث لا يجوز خرقه بدعوى ممارسة الحرية، لأن “حرية الناس في ظل الحكومة معناها الحياةُ بحسب قاعدةٍ منصوص عليها، تنطبق على جميع أفراد تلك الجماعة، سنَّتها السلطة التشريعية التي نصبت فيها”19، وهذه “القاعدة المنصوص عليها” قد تكون قانونا وضعيا متوافقا عليه في المجتمع، وقد تكون شرعا إلهيا مطبقا في المجتمع ومنصوصا عليه في القوانين الحديثة20. لا مناص للإنسان المسلم من الخضوع للأحكام الإلهية القطعية والالتزام بها، ومنها تحريم الزنا، وتحريم الشذوذ الجنسي بأنواعه وأشكاله، وتحريم الانتحار، وتحريم حرق الجثت بعد الوفاة، وغيرها من التصرفات المندرجة تحت مسمى الحريات الفردية. وعدمُ الخضوع لمثل هذه الأحكام القطعية يتعارضُ مع المفهوم الأصلي لكلمة “الإسلام”، وهو الاستسلام لله تعالى ولأحكامه وتشريعاته. المسؤولية عن الجسد في الشريعة الإسلامية إن وجود الجسد أمانة عند الإنسان ووديعة يجعله ملزما بالحفاظ عليه، ومسؤولا عنه مسؤولية كاملة، ومحاسبا عن كل صغيرة وكبيرة قام بها تجاه الجسد، إنْ حفظا وصيانةً، أو اعتداءً وتضييعا، ويمكن أن ننظر إلى ذلك من خلال بعض النصوص الشرعية: أولا: قال الله تعالى: “ولتسألن يومئذ عن النعيم”. وجسم الإنسان وما فيه من أعضاء كله من أفضل نعم الله الخالق على الإنسان المخلوق، وبما أنه كذلك، فإنه مندرج ضمن النعم التي سيسأل عنها يوم القيامة، وهذا ما نجده تصريحا في النص الموالي. ثانيا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه”21، ولو كان الإنسان مالكا جسدَه وله كامل الحرية فيه لما تعرّض للمساءلة عنه، والمحاسبة عليه. من خلال مناقشة مسألة الحرية في التصرف في الجسد، يظهر أن الاختلاف بين الفرقاء يصعب تجسيره وإيجاد حل توفيقي بينهم، لأن الاختلاف ليس منحصرا في بعض الفروع والأفهام، وإنما هو اختلاف في المرجعيات التي يَصدرون عنها وينطلقون منها، لذا آثرت الإشارة إليها والتأسيس عليها في هذا المقام. والاختلاف بين الفرقاء المجتمعيين لا يقتصر على حرية الجسد باعتبارها نتيجةً فحسب، وإنما يقع الخلاف بينهم في مصطلح “الحرية” ذاته، فمن يبني تصوره على الأسس المادية المحضة، يعتبر تلبية رغباته الجسدية من الحرية، ومن ينطلق من المذهبية الإسلامية يرى ذلك مناقضا للحرية، وأنه ليس سوى تجلّ من تجليات “العبودية”، التي تعني -فيما تحمله من معاني- الخضوع للشهوات وللغرائز وللموضة وغيرها من المؤثرات التي يخضع لسيطرتها هوى الإنسان ومزاجه، والإسلام جاء ليخلص الإنسان من الخضوع لهذه المؤثرات، والتوحيدُ الخالصُ لا يتحقق إلا حين يكون هوى الإنسان تبعا لما جاء به الشرع، وهو المقصد الأهم من الشريعة الذي صاغه الإمام الشاطبي بقوله: “إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا”22، وأشار أثناء شرح هذا المقصد إلى ضرورة “الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حال”23، و”أن قصْد الشارع الخروج عن اتباع الهوى، والدخول تحت التعبد للمولى”24. إن الدعوة إلى التحرر عن كل القيود من دين وأخلاق ومُثل، قد تجد لها صدى في المجتمع، وقد يكون لها بريق يجذب الأنصار والأتباع، وقد تحدث الجلبة والضجيج، لكن لن تجد لها مكانا في المجتمع إلا على أنقاض الإنسان، أو -بعبارة أدق- على أنقاض إنسانية الإنسان. ما العمل؟ وبعد هذا يجدر بي أن أتساءل ضمن النقاش المجتمعي المحيط بنا من كل جانب، ما العمل؟ هنا مربط الفرس، حيث يجب علينا أن نلامس الموضوع في شقه العملي، كما قاربناه في شقه التنظيري، فهل يجب علينا تفعيل القانون ومساطره الزجرية في ضبط أفعال الناس؟ وهل هناك فرق بين التحريم الشرعي وإنزال العقاب القانوني؟ من الصعب جدا ضبط إيقاع المجتمع وفق المعزوفة الجنائية، لذا لابد من مقاربات متعددة، مع ضرورة استحضار السياق العام، دون إغفال الواقع السياسي التي ترزح تحته الأمة، وأقصد به واقع الاستبداد بنوعيه، الجلي والخفي، مع مراعاة المقاصد في بعدها الكلي. لنقارب المسألة من خلال مثال واضح، وهو الزنا وفق لغة القرآن، أو ما اصطلح عليه بالعلاقات الجنسية الرضائية بين راشدين خارج نطاق الزوجية. لا بد من التمييز بين ممارستين اثنتين: الأولى: ممارسة الزنا في الفضاء الخاص، دون إثارة أحد. وهذه الحالة محرمة قطعا، ويستحق مرتكباها العذاب والغضب الإلهيين، إلا أنها لا تستوجب عقابا جنائيا ما دامت لم تمارس في المجال العام، ولم يترتب عليها إخلال علني بالحياء، أو إثارة انتباه أحد، وفي مثل هذه المسألة يقول الأستاذ مصطفى الرميد في ندوة حزب الحركة الشعبية يوم 29 نونبر 2019: “ليس للدولة نهائيا الحق في اقتحام الفضاء الخاص والتجسس والتلصص وكسر الأبواب على الراشدَيْن الراغبين في ممارسة حميمياتهما”. الثانية: ممارسة الزنا أمام الملأ، أو في فضاء عام أو شبه عمومي. في هذه الحالة يمكننا استخدام الزجر القانوني ليس لممارسة الزنا، بل لانتهاك حرمة الفضاء العام، وهذا متوافق مع الإثبات الشرعي الذي يشترط إثبات الجريمة بأربعة شهود، لأن وجود الشهداء الأربعة ومشاهدتهم للممارسة دليل على خروج الفاعلَين عن الفضاء الخاص، وعدم احترازهما عن الفضاء العام. وبالنظر في الفصل 490 من القانون الجنائي المغربي: “كل علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية تكون جريمة فساد”، فإننا نرى المشرع قد فتح الباب على مصراعيه لمعاقبة الناس، وكان حريا به أن يضيف عبارة “بصفة ظاهرة” إلى النص حتى يجعل العقاب منصبا على الممارسة العلنية فقط. ونظير ذلك ما نصّ عليه في الفصل 491 الخاص بالخيانة الزوجية: “يمكن للنيابة العامة أن تقوم تلقائيا بمتابعة الزوج الآخر الذي يتعاطى الخيانة الزوجية بصفة ظاهرة”. بمعنى أن النيابة العامة لا تقوم تلقائيا بذلك إن مورست الخيانة الزوجية بصفة غير ظاهرة. أما إثبات هذه المخالفات الأخلاقية، فنصّ عليها الفصل 493، وهي التلبس المضمّن في محضر رسمي، أو اعتراف المتهم، أو اعتراف قضائي. هنا أرى أن التلبس يجب تقييده بأن يكون في الفضاء العام، أما إطلاق عبارة التلبس، فقد يُفهم منها إثبات التلبس بطريقة التنصت أو التجسس على الفضاءات الخاصة، وهذا يتنافى مع قواعد المجتمعات السوية وأعرافها في القديم والحديث. هذه التقييدات التي يستحسن بالفاعل السياسي الانتباه إليها، أذكرها هنا مع استحضار بُعد آخر لا يقل أهمية، وهو أننا في الفضاء العربي نعاني من أنظمة غير ديمقراطية، أو أنظمة دخلت في طور الانتقال الديمقراطي اللامنتهي، وبالتالي فإنها في أحيان متعددة تتوسل بمثل هذه الممارسات اللاأخلاقية لتصفية الحساب مع بعض المعارضين لإسكاتهم أو إرهابهم، مثل ما وقع مع زعيم نقابي استُدرج إلى فيلا بمدينة آسفي في الخمسينيات أو بداية الستينيات، ومارس الجنس مع إحدى المستخدَمات لهذا الغرض الدنيء، وبعد عرض صوره عليه توارى إلى الخلف. ومثل ما وقع للفنان رشيد غلام الذي عوقب بمثل هذه الطريقة، ومثل ما يقع الآن لتوفيق بوعشرين الذي إن صحت تلك الصور المعروضة على الرأي العام فإنها ليست سوى زنا بين طرفين راشدين في مكان خاص، لا يمكن أن يُستعمل وسيلة لإسكات قلم مناهض لجزء من منظومة الاستبداد. إن استحضار هذا البعد يجعل العقلاء يفكرون مليا في إدخال تعديلات أساس على القانون الجنائي تهُمّ الفصول الخاصة بالزنا وغيره مما يندرج ضمن الحريات الفردية، دون أن يعني ذلك أننا ندعو إلى الإباحية أو التطبيع مع الفاحشة. إن الدعوة إلى تقليص المقاربة القانونية الزجرية، تفرض علينا في المقابل التضخيم من المقاربة التربوية التوعوية، وهو نفس المنهج القرآني والنبوي. نهى الله تعالى في كتابه الكريم عن الزنا بعبارات قوية، “وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا”. ووصف الله تعالى عباد الرحمن بصفات النقاء والصفاء، ومن جملتها ابتعادهم عن الزنا ونفورهم منه: “ولا يزنون”، واشترط النبي صلى الله عليه وسلم على النساء في بيعتهم شروطا هي أساس التعاقد الإيماني: “يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ …”، وهذه آيات ذات بعد تربوي، وليست نصّا في عقاب جنائي زجري، ثم سمى القرآن الزنا فاحشةً لبيان خطرها وتنفير الناس منها، وهذا بعد تربوي آخر. وشدد النبي صلى الله عليه وسلم على الممارسة الجنسية المحرمة في نصوص متعددة للتحذير منها، واستعمل فيها عبارات يفيد ظاهرها حالة التنافي بين الإيمان والزنا: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”، وقال أيضا: “ثلاثة لا يدخلون الجنة: الشيخ الزاني: …”، ولا يوجد أبلغ من هذه العبارات في التنفير من هذه الآفة، وهي عبارات لتربية المسلم وتهذيب طبعه، كما لم يأذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بالزنا، ولم يخاطبه بعبارات الجفاء والقسوة، وإنما لامس أوتار فطرته بأن قال له: أتحبه لأمك؟ أتحبه لأختك؟ …، وهي عبارات النبي المربي وليست عبارات الرسول القاضي صلى الله عليه وسلم، وكان بإمكانه أن يقول له: “إن زنيت قتلتك” أو: “إن زنيت أقمت عليك الحد”. وللتخويف من الزنا وخطورته قال صلى الله عليه وسلم: “إن أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية”. ومن جماليات الفقه الإسلامي أنه لم يفرض على الناس التبليغ بحالة الزنا وإن رأوها رأي العين، بل شجعهم على الستر وحضهم عليه، واستدلوا بحديث النبي المربي الرحيم: “لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة”. إن التأمل في هذه النصوص وغيرها نجدها كلها تتضمن بعدا تربويا تثقيفيا بمخاطر الزنا على عقيدة الإنسان وسلامته في الآخرة، ولا نجد في الجانب الزجري العقابي سوى آية: “الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ”، وبمقارنة إحصائية بين النصوص، نجد الجانب العقابي قليلا جدا مقارنة مع الجانب التربوي، وإذا استحضرنا مناقشاتنا المعاصرة، فإننا نكتشف بلا شك بُعدَنا عن المنهج القرآني والنبوي، لأننا لا نكاد نتحدث في الزنا إلا على الجانب العقابي وحده، فانقلبت الموازين عندنا، وكأن الدين لا يحميه إلا القانون الجنائي. من هذا الملحظ، أرى أن المجتمع يجب أن يتحمل مسؤوليته مرتين: مرةً حين يقْدِمُ على تعديلات في القانون الجنائي وفق فلسفة إرجاع الجانب الزجري إلى مكانته الطبيعية، خصوصا ما أشرت إليه من واقعنا البعيد عن الديمقراطية. ومرةً حين يقوم بدوره التوعوي والتربوي من خلال تأطير المواطنين عبر كل الوسائل المتاحة. وللأمة من الوسائل ما لا يحصى، سواء الوسائل المعاصرة أو التقليدية، ويكفي أن في مِلك الأمة منابر الجمعة التي يتوافد عليها الملايين أسبوعيا، وأحيانا لا يسمعون سوى كلاما فارغا يعمل على إفراغ قلوبهم من الخشية بدل ملئها بها، ويمكن للخطباء أن يتعاهدوا المصلين بمثل هذه المواضيع التربوية التي تبني العقول والقلوب، ويكفي أن يُذَكروا الناس بأسلوب رفيق شفيق كما كان يُذَكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لم يكلف الناس بتتبع عورات الآخرين في بيوتهم، ويكفي أن يُذكروا الناس بالمعاني السامية لقوله جل وعز: “إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ”، وهي آية عظيمة جدا، تبين أن الله تعالى لا يعذب بعذابه الأليم ممارسي الفاحشة فقط، أو ناشريها، بل يعذب حتى من لا يستطيع القانون الجنائي إليه سبيلا، وهم الذي يحبون – فقط – بقلوبهم ومشاعرهم شيوع الفاحشة وانتشارها في المجتمع. وهذه آية أبلغ من القانون الجنائي كله، أما “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، فلا تطَبّق إلا حين لا ينفع البعد التربوي، وتمارس الفاحشة علنا جهارا استفزازا للناس. إذا استحضرنا هذه المعاني، فإننا سنجد نقاط تلاقي متعددة بين من يظهرون في الساحة مدافعين عن الحريات الفردية، وبين من يظهرون مناهضين لها، هذه النقاط المشتركة لا يمكن ملامستها إلا إذا استبعدنا البعد الإيديولوجي في النقاش، واستدعينا البعد العلمي مستحضرين سياقات الواقع. والله تعالى أعلم.