من قديم كان منطق الأنبياء والدعاة مع بني قومهم هو تصحيح التصورات وتقويم السلوكات، التي تأتي من جهة الغفلة عن أننا خلق ممن خلق الله ولم نخلق أنفسنا ولسنا خالقين، ونسيان أننا مكلفون بمهام ومسؤوليات، ولنا حريات ولكن مع ضوابط وشروط ، قال تعالى في شأن شعيب عليه السلام مع قومه:" وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) إلى أن قال:" قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) (سورة هود) إنهم استغربوا أن يتدخل الدين في شأنهم الاقتصادي وأن يقلص من أرباحهم غير المشروعة الناتجة عن التلاعب في المكايل والموازين، وكذلك الشأن في العديد من الشهوات يستغرب الذين لا يقيمون للدين وزنا كيف يتدخل الدين لضبطها وتوجيهها، فللأكل والشرب ضوابط، وللباس ضوابط، وللسياسة ضوابط ولاكتساب المال وإنفاقه ضوابط وفي العلاقات الاجتماعية ضوابط وفي العلاقات الجنسية ضوابط وغيرها، ولا شك أنهم في واقع أمرهم وعبر التجربة الإنسانية لا يرفضون أمر الضوابط بإطلاق، فكل ما حولنا من حياة غير المسلمين مثلا - وهم غالبية البشر- قوانين وأعراف وضوابط في مختلف مجالات الحياة، وحتى اعتراف بعض البلدان بالشواذ وأهل العري الكامل قيدوه بتخصيص شواطئ وأماكن خاصة بهم، وعموما فهم لا يرفضون الضوابط إنما يرفضون فقط أن تأتي باسم الله أو باسم الدين أو تأتي على لسان الأنبياء وورثتهم عبر الزمان. فأصحاب "الحرية الجنسية" ممن يرفع حالهم شعار: أصلواتك تامرك أن نترك الزنا أو نفعل في فروجنا ما نشاء؟ ليسوا مع حرية الجنس بلا قيود ولا ضوابط، إنهم ضد الجنس إذا مورس في إطار "زواج القاصرات" ولا إشكال عندهم في ممارسة المراهقين والمراهقات والقاصرين والقاصرات للجنس بحرية ومن غير إكراه أو اغتصاب خارج دائرة الزواج إنه شكل من أشكال الحرية ولون من ألوان لعب الصبايا الذي يحتاج فقط إلى توجيه وتوعية من باب "استهلك بلا ما اتهلك" باستعمال العازل والاحتياط من الحمل ونحو ذلك، وهم أيضا ضد الجنس إذا مورس في إطار "تعدد الزوجات" ولكن لا إشكال في ممارسة الجنس في إطار تعدد الأخلاء والخليلات و"الشركاء الجنسيين" ودائما مع توفر الرضا وغياب الإكراه والاغتصاب، إنه عندهم مستوى متقدم من حرية الإنسان في جسده يمنحه لمن يحب ويعطيه لمن يريد. والناظر في منطق القوم يتأكد من نزعة المخالفة لديهم لما جاء به الشرع، ونحوهم منحى الاتجاه المعاكس، فإذا سد الشرع الأبواب في العلاقات الجنسية إلا ما كان من باب الزواج وشدد العقوبة على المخالفين، وقال تعالى في شأن المومنين:" وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)(سورة المومنون) قالوا بفتح الباب على مصراعيه ونادوا بالحرية الجنسية مع الزواج وبغيره وقبل الزواج وبعده، وإذا قال الله تعالى:" الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) (سورة النور) وسمعوا ما جاء في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"قال عمر بن الخطاب: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان، حتى يقول قائل: ما أجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة من فرائض الله. ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل وقامت البينة أو كان حمل أو اعتراف، وقد قرأتها: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده" قالوا هذا من الماضي ونجحوا في إبطال الحكم في الدنيا تقريبا، ونفروا من مجرد مصطلح الزنى والزاني والزانية واخترعوا عبارة "الشركاء الجنسيين" و"الأمهات العازبات" ونحو ذلك ورفضوا تجريم الفعل، وحتى مع الأحكام المخففة في القوانين الوضعية أسقطوا العقوبة بمجرد تنازل الطرف الآخر أي الزوج والزوجة. وها هم اليوم يثورون على تلك القوانين التي وضعوها أو وضعها سلفهم ممن كان قريبا من منطقهم فتنادوا بإلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي الذي ينص على معاقبة جريمة الفساد وإقامة علاقة جنسية بين رجل وامرأة لا تربط بينهما علاقة الزوجية، وطالبوا بضمان ممارسة الحرية الجنسية بين رجل وامرأة بلغا سن الرشد القانوني، شرط أن يكون من خلال التراضي بينهما ودون إكراه أو إجبار على ذلك. وإذا قال ربنا :" وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32)(سورة الإسراء) قالوا بل هو خير سبيل، ونادوا بتقريب الفاحشة من كل راغب فيها وبإزالة كل العوائق والحواجز النفسية والاجتماعية والقانونية وحملوا على كل عرف جميل أو تقليد أصيل وسفهوا منطق الحياء والحشمة، وأعلنوا أنهم مختصون في تحطيم "الطابوهات" وتكسير الحدود والانفتاح في العلاقات بين الجنسين أو حتى بين نفس الجنس وأوجدوا لهم واجهات من مثل "كيف كيف" وجاءوهم بمثل "إلتون جون" وأتحفوهم بمثل مسرحية "ديالي" حيث يرفع التبان فوق الرؤوس، ويعلو صوت الفروج على الخشبة لتملأ النتانة المكان، ويردد المعجبون " أصلواتك تامرك أن نترك الزنا أو نفعل في فروجنا ما نشاء؟ هكذا تريد هذه الشرذمة القليلة أن نميل ميلا عظيما كما قال تعالى:" وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا (27) (النساء) فنبتعد باستمرار عن الأصول والثوابت والأخلاق والحياء، ونخرب بيوتنا وأسرنا وعلاقاتنا بأيدينا، إنهم يتجرأون ويستفزون ويلحون في إثارة الأعصاب، ومعظمهم يؤدون خدمة مؤدى عنها بأضعاف أضعاف ما يبذلون، فلا يسأمون بذلك ولا يملون، وتراهم يندسون ويظهرون ويختفون في مختلف الواجهات الرسمية والمدنية والحقوقية والفنية..، إنهم يتدرجون بنا في دركات القاع شيئا فشيئا، كلما سلمنا لهم بخطوة رمونا بخطوة موالية، يقولون: عقوبات الشرع قوية وشديدة وغير مناسبة للزمان، وما إن يحدث التطبيع مع التخفيف في القوانين الوضعية حتى ينادوا بإلغاء تلك القوانين وعدم تجريم تلك الأفعال وربما سينتقلون بنا إلى تجريم استنكار الفاحشة وحتى إخراج "المتطهرين" على مذهب أسلافهم الذين " قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ". وإذا كان من شيء مباح في الشرع لا يناسب أهواءهم ضيقوه شيئا فشيئا حتى يمنعوه أو يكادون كما فعلوا مع تعدد الزوجات بحجة سوء التطبيق وسلبيات الآثار، وإذا كان من شيء ممنوع قانونا كالإجهاض تنادوا في البداية بمجرد التقنين في أفق الإباحة المطلقة، وهم في عمومهم وإن تمرسوا طويلا مع هذه الأساليب "البيداغوجية" لا يحققون مرادهم وغاياتهم إلا في غفلة من أهل الصلاح وتفرق في صفهم وضعف في فاعليتهم، وإلا فالقوم يسبحون ضد التيار العام، فالغالبية العظمى لا تزال تقيم في قلوبها للدين وزنا، كما وأن القوم يسبحون ضد التأويل السليم للدستور ويعملون في كثير من الأحيان ضد القوانين الجارية، وكيد الشيطان في أصله ضعيف لا يعمل إلا في غفلة أهل الحق والخير، وهو مستمر في الوسوسة والتشويش وإذا ذكر الله وذكر دينه وشرعه وعاد الناس إلى أصولهم وهويتهم خنس واندحر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ؛ فإذا ذكر الله خنس وإذا غفل وسوس" وهكذا مصير جنده وأتباعه وأوليائه إذا استيقظ أولياء الرحمن ومحبو دينه وشرعه وقاموا بواجب الدعوة والبيان وتمكن المخلصون من تطبيق ما تيسر من الهدي ونشر ما استطاعوا من النور حتى تندحر خفافيش الظلام.