عرف المغاربة-بعد دخول الإسلام والتأثر بقيمه_بقيمتين أخلاقيتين قلما تجتمع في شعب من الشعوب، وهما؛ التسامح مع الآخر، والشعور بالعزة والكرامة، في آن واحد. ونقصد بالتسامح مفهومين أساسيين؛مفهوم العفو والصفح عمن أخطأ في حقك أو تجاوز حده.ومفهوم/مبدأ، يتم بموجبه السماح للآخر بالتعبير عن آرائه ومصالحه التي تختلف وقد تتعارض مع آرائنا ومصالحنا. فالمعنيان يعبران عن حالة من الاحترام للآخر والقبول به، والتقدير للتنوع الثقافي، وللأشكال التعبيرية المتعددة والصفات الإنسانية المختلفة، كما يدلان على الإقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوقهم وحرياتهم الأساسية. خاصة في زمان وعصر وعالم يشهد تباينا وتوحدا، أما التباين فيتجلى في الكم الكبير من الأعراف والأجناس والأديان والقوميات التي تحمل قيما ومعتقدات تؤدي إلى ثقافات مختلفة. وأما التوحد فيظهر في سعي كل أفراد المجتمعات الإنسانية للعيش بكرامة وسلام، وتحقيق طموحاتهم وبلوغ مصالحهم الخاصة والعامة. مظاهر التسامح الحضاري و العزة والكرامة: لقد عرف الإسلام في تاريخه كله لقاء الحضارات وعرف تكامل وتواصل الأجيال، ولم يعرف الصراع في تاريخه كله، ومن المتواتر المشهور أن أصحاب الديانات من اليهودية والنصرانية والمجوس والصابئة عاشوا في ظل الحكم الإسلامي قرونا طويلة محفوظة كرامتهم، مرعية ذممهم، وعهودهم، ولو شاءت الحكومات الإسلامية عبر العصور لصنعت كما صنع(فرناندو) مع المسلمين في الأندلس حينما قام بطردهم وقتلهم خلال مجزرة بشعة سموها(محاكم التفتيش)، أو كما صنع البريطانيون الذين حرموا على اليهود دخول أرض بريطانيا لأكثر من ثلاثمائة وخمسين سنة. بينما المسلمون لم يستخدموا في تاريخهم هذه اللغة ولم يقوموا بمثل هذه التصفيات. لقد أعطى الإسلام المجتمعات الغربية كل ماعنده من العلوم والتجارب والمعارف وسمح لأهل الغرب بتحصيلها في معاهد وجامعات الأندلس العريقة، ولم يضع أي قيد عليها وذلك لإيمانه بأن العلوم والمعارف هي من حقوق البشرية، ولذلك نقل العلوم التجريبية والكمياء والطب والفلك وعلوم البحار والصناعة، بينما لم يفعل الغرب ذلك بعد أن أصبح نماء هذه العلوم في يده. إن التراث العلمي المخطوط والمطبوع هو تعبير عن حقيقة الأمة، وتجل لشخصيتها الفكرية والنفسية والحضارية، ولكن لم تتم العناية الكافية بهذا التراث، بل قامت محاولات للقضاء عليه بإعدام رجالاته، وإغراق مخطوطاته في الأنهار،وإقامة المحارق العامة له كما فعل التتار في بغداد، والصليبيون في الأندلس، فبعد سقوط غرناطة أمر القسيس المتعصب الكاردينال سيس نايروس، بإحراق كتب التراث الإسلامي باستثناء ثلاثمائة كتاب في الطب،وتمت قرصنة هذا التراث كما حصل لخزانة السلطان مولاي زيدان السعدي(1037ه)، التي كانت تشتمل على أربعة آلاف مجلد حملها سفينة فرنسية لنقلها للحفاظ عليها،فتعرض لها قراصنة إسبان فساقوها إلى الساحل الإسباني إلى قصر فيليب الثالث، لتستقر في خزانة الأسكوريال[1]. وحجبت عن المسلمين كتب التراث في خزائنه، ومايزال الغرب يحجب عن المسلمين المعلومات العلمية حتى يحول بينهم وبين الوصول إلى مرحلة الانتفاع الحقيقي، وإيمانا منه بأن يظل علم المسلمين مرتبطا به ارتباط تبعية ومغلوبية، بل إنه يقضي على الطاقات العلمية كي لاتخدم بلادها ولادينها، إما بالإغراء وإلحاقها بمؤسساته، أو بالقضاء عليها كما حصل في العراق حيث تم قتل 350عالما نوويا عراقيا، بالإضافة إلى أكثر من 300أستاذ جامعي في التخصصات العلمية المختلفة، وذلك لأن الغرب ينطلق من فكرة صراع الحضارات، تلك الفكرة التي نظر لها أحد الأكاديميين الغربيين هو صمويل هنتنجتون، والذي يعتبر الإسلام مصدر التهديد الجديد، وهذا تشويه للإسلام وتجاهل لحقائقه وتاريخه. والحضارة الإسلامية لا تعرف هذا النهج العدواني الإقصائي، لأن المرجعية الحضارية تقول: ﴿ قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ {الجاثية/14}﴾ ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ {الحجر/85}﴾ ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ {الزخرف/89}﴾ ﴿ وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {الشورى/40}﴾. ﴿وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ {الشورى/41}إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ {الشورى/42} وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى/43}﴾. وعن أنس،أن رسول الله قال:"أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟ قالوا : ومن أبوضمضم يارسول الله؟ قال: إذا أصبح قال: اللهم إني وهبت نفسي وعرضي لك، فلايشتم من شتمه، ولايظلم من ظلمه، ولايضرب من ضربه"[2]. وعن أبي هريرة أن رجلا شتم أبا بكر والنبيجالس،فجعل النبييعجب ويتبسم،فلما أكثر رد عليه بعض قوله،فغضب النبيوقام،فلحقه أبوبكر فقال:يارسول الله،إنه كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت!قال:"إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان".ثم قال:"ياأبا بكر،ثلاث كلهن حق، مامن عبد ظلم بمظلمة فيغضى عنها لله،إلا أعز الله بها نصره.ومافتح رجل باب عطية يريد بها صلة، إلا زاده الله كثرة.ومافتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة، إلا زاده الله بها قلة"([3]. إن سماحة الإسلام التي وسعت البشرية تكشف عن حقيقة جوهرية هي أن هذا الدين يسعى للقاء الحضارات وتواصل الثقافات، فقد اعترف بالديانتين(ماأنزل على موسى وعيسى)، واعترف بالكتابين المنزلين(التوراة والإنجيل)، ودعا المسلمين إلى الإحسان إلى أهل الذمة والمحافظة على معابدهم واحترام حريتهم. وكان رسول الإسلام يتعامل بالتسامح حتى مع المنافقين مع أنهم يمثلون أعداء الداخل، وانظر كيف عفا عن أبي بن أبي سلول مرارا، وزاره عند مرضه، وهو الذي بلغ أذاه عرض البيت النبوي في حادثة الإفك المروعة. ولما جاء رجل ورفع السيف على نبي الإسلام، وقال من يمنعك مني يامحمد ؟ ثم سقط السيف من يده، أخذه النبي وقال: من يمنعك مني؟ فتعهد للنبي الكريم أن لايحاربه. وقد استلهم الشعب المغربي هذه القيم من المرجعية الحضارية، والوحدة المعيارية/النبي القدوة، التي تشكل الإطار العام للهوية المغربية باختلاف ثقافات مكوناتها؛ وانظر إلى أهل مراكش وكيف احتضنوا الحدث العالمي كوب22،وحققوا صداقة كونية مع مختلف الأجناس والأعراق والقوميات والثقافات لأزيد من 195بلدا،واستضافوا في بيوتهم الضيوف الأجانب تلك الضيافة التي تميز المغاربة في العالم كله ولاتكاد تجد لها مثيلا، وأطعموا في مطاعمهم وجبات من الثقافة المغربية التي جمعت مافرقته السياسة"معان عظيمة تفيض من داخل هذه الفضاءات فيها نتذكر أن الإنسانية أسرة واحدة. وأن العمل لصالح الأرض والحياة يقتضي انتصار قيمة المحبة على الخصام، تحت سقف مطاعم مراكش كان للكوب22 وقع آخر، بدت كل الاختلافات أشبه بقطرة ماء اخترقتها أشعة الشمس واستكانت قلوب المتحاربين لفن تمجيد الأمل"[4]. إن التسامح خلق أصيل في الإسلام ، و ليس مظهرا من مظاهر الضعف والهوان ، وما يفسر ذلك هو كون هذا المسلم قد يتحرك بمقتضى التكليف الإلهي وبقرار الإمامة العظمى لأجل الجهاد إعلاء لكلمة الله، ودفاعا عن القضايا الكبرى للأمة، والثوابت الضرورية للوطن،حفاظا على موقع العز الحضاري والكرامة الإنسانية. لذلك وإلى جانب سماحة الإسلام، وتميزنموذجه الأعلى بالحلم والصفح، كان يغضب إذا انتهكت حرمات الله، وهي القضايا الكبرى وحقوق الإنسان العليا والثوابت الحضارية، وهي مقومات لايمكن لأي حضارة أن تتساهل بشأن كل مايهدد وجودها،قالت عائشة رضي الله عنها:"ماخير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه، وماانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها، وكان أبعد الناس غضبا، وأسرعهم رضا". وهذا مايفسر اللجوء إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه الجهاد، وهذا مالجأت إليه الأمة المغربية حين هددت في وطنها وعرضها ودينها وقيادتها، فكانت الحركة الوطنية، وكانت المقاومة، وكان الاستقلال. وكانت المعركة بشروطها ومقومات شرعيتها، أما دعاوى الجهاد التي ترفعها جماعات وفرق في هذا الزمان فتفتقد للمشروعية الدينية والحضارية والقانونية، وقد أكدت دراسة للرابطة المحمدية للعلماء أن 80%،من الأسر المغربية كانت العامل الأساسي في منع أبنائها من الالتحاق بالجماعات المتطرفة، مما يعكس وعي العقل الجمعي المغربي بالحق والباطل، وقدرته على التفريق بين المتشابهات المرتبطة بمكونات الواقع والتي تلتبس على كثير من الناس، فيحسبون الحق باطلا والباطل حقا. إن هذه الثنائية؛التسامح والكرامة، منبعها المذهبية الإسلامية، التي تحدد القواعد المعيارية للإنسان في هذا الوجود، وتؤسس القواعد التفسيرية والنماذج الشارحة لكل الظواهر الحضارية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مما يحقق وضوح الرؤية، وصفاء مرآة القلب مما يحقق صدق بصر البصيرة. أين المشكلة اليوم! ماهي مشكلة الأمة التي تحتاج للتأمل؟ وماهي الإشكالية المهددة لبناء المجتمع واستقراره؟ يبدو أن المشكلة كامنة في عجز الأمة عن تحقيق الانسجام الثقافي على مستوى المصالح العامة والقضايا المشتركة، ومنكبة على التفاصيل والجزئيات تضخمها تضخيما، وتوالي وتعادي بناء عليها، مثل الانتماء القبلي، والانتماء اللهجي اللغوي، والانتماء الطائفي، والانتماء الحزبي وغيرها من المفرقات للشمل، والناسفات لكل أشكال التجميع والتوحيد. يكفي أن يذهب الواحد منا إلى أوروبا أو أمريكا، فينظر هل يمثل أمة من الأمم في هذا الزمان، أم هو فرد من شتات وشعوب وقبائل ونحل لاجامع لها ولاجامعة لها، إن لم نقل إنه يمثل –ما تروج له وسائل الإعلام الغربية- في العقل الغربي إيحاءات العنف والإجرام والإرهاب. ويأتي إلينا الأوروبي؛ فنعرف من أي هوية وحضارة يصدر، ويأتي الياباني وبسرعة نستحضر إيحاءات العلم والتكنولوجيا والتقدم، ونرى في الأمريكي القوة العسكرية والاقتصادية، والقرار السياسي الحاكم. أما أنا وأنت في أوروبا وأمريكا ماذا نمثل؟ هل يمكن أن نتحدث عن انتمائنا لمشروع مجتمعي موحد؟ هل يمكن أن نمثل انعكاسا لرؤية استراتيجية تتبناها بنيات المجتمع المدني والمجتمع الرسمي؟ انظر إلى حالة الوضع السياسي بالمغرب! والمشاورات بشأن تشكيل الحكومة "والبلوكاج"أوالعرقلة الحاصلة والتي من آثارها توقف حوالي 16مؤسسة من المؤسسات الدستورية منها المنتخبة مثل الحكومة ومجلس النواب،ومجلس المستشارين ومنها غير المنتخبة التي أحدثها دستور2011 مثل هيئة المناصفة ومكافحة التمييز،والمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي،ومنها التي كانت موجودة مع تعديلات في الصلاحيات وتغيير في الإسم مثل مؤسسات الحكامة:المجلس الوطني لحقوق الإنسان،ومؤسسة الوسيط،والهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة ومحاربتها وغيرها،والقضية استبعاد هذا الحزب أو ذاك والدوران في فلك الانتماءات الحزبية الضيقة خلافا لروح الخطاب الملكي الأخير، وتبادل الاتهامات من تهمة محاولة القضاء على الأحزاب الوطنية إلى تهمة الانقلاب على الديمقراطية ونتائج الانتخابات. ويحضرني قول أحد منظري السياسة الأفارقة عندما قال إن بنية البناء القبلي الإفريقي لاتصلح معه التعددية الحزبية لأنها ستعيد إنتاج الصراع القبلي الضيق.هذا رأيه وهي كلمة تدعونا للتأمل!و تجعلنا نتساءل : هل نحن كأفارقة ومغاربة نتمتع بالنضج الكافي لتدبير الشأن الحزبي؟!؟ ألا نقول إن ديننا الإسلام!؟ ونعتبرالإسلام جامعةَ الدين وأنه "الجامعة الحق للمسلمين"، وأنه"أبقى ماعداها من الجوامع جوامع فرعية تعتبر صالحة مالم تعد على الجامعة الكبرى بالانحلال"[5]؟!؟ [email protected] [1] – هذه الوقائع التاريخية أخذت من مقال الخزانة الملكية في المغرب بمجلة الأمة شوال 1402ه،ص:52-59.وهو حوار مع مدير الخزانة ذ محمد العربي الخطابي. [2] -عمل اليوم والليلة لابن السني:23. [3] -عمدة التفسير:3/230. -المراكشيون يودعون الكوب22 ويتمسكون بروحها، ملف أسبوعي بجريدة الاتحاد الإشتراكي عدد11476،ص4-6.[4] أصول النظام الاجتماعي في الإسلام للإمام محمد الطاهر بن عاشور:101.-[5]