هوية بريس – الخميس 16 يناير 2014م حتى لا نتهم بالاستلاب الفكري ونتهم بأنكى التهم، فإننا نبدأ مقالنا المتواضع هذا من المغرب، وبالضبط من شيخ مشايخ السلفية الحديثة بالمغرب الذي نهل المنهج الصافي بعيدا عن التكتلات والأحزاب الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله. غادر المغرب نحو المشرق ليستزيد من العلم الشرعي بعد أن أخذ ما يكفي من مشايخ المغرب الذين كان جلهم محاصرين بالاستعمار من جهة وبأغلال الصوفية الطرقية والعقيدة الأشعرية من جهة أخرى، ذهب إلى مصر والعراق والحجاز وتعلم هناك العلوم الشرعية ثم إلى ألمانيا ليتعلم المزيد من العلوم العقلية والفلسفية واللغوية أيضا. فقد كان رحمة الله عليه إماما في اللغة العربية ومتمكنا من اللغات الأوربية أغلبها، حتى أنه ترجم صحيح البخاري إلى الانجليزية، أثنى عليه غير واحد من علماء عصره واعتبروه مرجعا لهم وحجة العصر في اللغة والحديث، وانتدبه الشيخ بن باز رحمه الله للتدريس بجامعة المدينة بعد أن كان بجامعة محمد الخامس، ولم يكن منغلقا على فهم واحد بل كان رحمه الله موسوعيا قابلا للاختلاف وإن تبنى السلفية النقية مرجعا لا حزبا أو إطارا. الإخوان المسلمون بطبيعة الحال كان الشيخ رحمه الله يختلف اختلافا كبيرا مع الإخوان نظرا لاختلاف المدرستين، لكن كان يدعوا إلى الإنصاف في الاختلاف وجعل الاختلاف فكريا بالأساس، وهذا نهجه ليس فقط مع الإخوان بل مع بقية التيارات الفكرية الناشئة في الوطن العربي والإسلامي عموما، فما كان مكفرا ولا مبدعا ولا مخرِّجا وإنما محاججا بفصل القول بالدليل العقلي والنقلي حسب منطق من يحاجج. راسله البنا رحمه الله يوما طالبا منه انتداب كاتب مغربي لجريدة الإخوان الواسعة الانتشار، فقرر الشيخ رحمه الله أن يكون هو نفسه الكاتب باسم مستعار، وانظر هنا إلى الثقة المتبادلة بين رجلين فرقهما المنهج وجمعهما علو الفكر وسمر العلم. بالمقابل بعض متأسلفي اليوم ممن يدعون إتباع منهج الهلالي وأساتذته، يكيلون التكفير والتبديع والتخريج لكل من اختلف معهم، ويا ليت هذا فقط، فهم بالمقابل يرفعون شأن كل ديكتاتور حاكم بالحديد والنار، ويدعون إلى الصبر عليه إن جار وظلم، وبالشكر والحمد إن قدم بعض العدل والإنصاف، فما هذا الزمان الذي بلينا به بالإقصاء ومناصرة الظلمة باعتبار عدو عدوي صديقي. إذا ما أردنا الحديث عن السلفية في القرون الثلاثة الأخيرة فإن نجمها قد صعد بقوة بعد أن ظهرت كتيار حداثي متنور وقف بقوة في وجه الصوفيين المحتضنين من طرف السلطة الحاكمة في العالم الإسلامي والتي غالبا ما كانت أشعرية العقيدة، والذين حولوا الفكر الصوفي إلى فكر طرقي وثني تحول معه المسلم العامي إلى زائر ومعتقد في الأولياء والصالحين من القبور التي غزت قرى ومدن العالم الإسلامي، فأصبح الاستشفاء بهم والتعويل عليهم في صغير الأمور وكبيرها، وترك العلم الشرعي والدنيوي ، وتحول العالم الإسلامي إلى مستنقع للجهل والأمية والاعتقاد الباطل، وهنا تصدت الحركات السلفية وحركات أخرى دينية ومدنية لهذا، فكانت القوة العظمى للحركات السلفية التي نزعت الغطاء الديني عن الجهل السائد باسم الدين، ثم انتقلت الحركة السلفية إلى أول مواجه للاستعمار الذي غزا العالم الإسلامي بعد تحالف قوى مدنية كثيرة معه، وتحالف العديد من شخصيات الطبقة الحاكمة مع القوى الامبريالية الكبرى، فكانت الحركة السلفية أحد أكبر الممولين بالشباب الجهادي الذي ساهم مع شرائح أخرى من المجتمع الإسلامي لطرد الاستعمار وتصفية عملائه. هكذا إذن ظهرت الحركة السلفية بمختلف مشاربها الفكرية كتيار تنويري حداثي مقاوم "ثوري" وقف أمام التجهيل والتسلط باسم الدين، لكن هذا التيار سيواجه بالحديد والنار بعد الاستقلال، في أغلب الدول الإسلامية وسيهمش بشدة، وسيفقد دوره المحوري في الحراك الفكري والاجتماعي، اللهم ما تفرق هنا وهناك من علماء هذا المنهج، وقد أحدث هذا تفككا في التيار نفسه خاصة بعد احتضان دول بعينها لجزء من هذا التيار ومحاربة الجزء الآخر الذي لم تستطع أن تجعله في حضنها، فخرج من هذا التيار تيارات تدعي السلفية ولكنها تبتعد بدرجات متفاوتة عن روح السلفية التي أشعت قبل الاستقلال، تيارات تحالفت بقوة مع السلطة الحاكمة وأصبحت تعطيها الشرعية الدينية التي لم تستطع أن تبنيها بالإنجازات، فتحول هذا التيار عن منهج أسلافه الذين حاربوا الاستعمار فوقفوا مع وكلائه، رافضين النبس ببنت شفة في حق الحكام بمبررات دينية شرعية، وتحول جزء آخر من هذا التيار إلى القتل والذبح باسم الدين وكان هذا نتاج لإبعاد الشباب السلفي عن العلم الشرعي ومتابعتهم من طرف المخابرات والأجهزة القمعية في مختلف الدول، فتحالفوا مع تجار السلاح وشكلوا عصابات تبيد البلاد والعباد باسم السلفية، وتقودهم أجهزة مخابراتية وتجار أسلحة دوليين يلبسون عليهم دينهم، وبعد أن كان السلفيون يعادون الطرقيين وفكر "الشيخ والمريد" اتخذوا لأنفسهم شيوخا تفتي لهم ويرددون كلامهم أكثر مما يرددون القرآن أو الحديث النبوي، فتجدهم يقدسون فهم هذا الشيخ كأنه منزه، ولن نستغرب إذا وجدنا كثيرا من شيوخهم هؤلاء صناعة مخابراتية صرفة توجههم حيث شاءت وأنى شاءت. إن ما يحدث بمصر اليوم عرى القناع عن كثير من مدعي النضال بمختلف تياراتهم وأيديولوجياتهم فبمجرد أنهم يختلفون مع الإخوان قبلوا أن يضربوا عرض الحائط كل المبادئ التي نادوا بها وهنا لا فرق بين القوى المدنية ونظيرتها الدينية، ووافقوا طواغيت العصر أن يقتلوا ويذبحوا ويشردوا ويغتصبوا دون أن يحرك ذلك شيئا من إنسانيتهم بل حرك فقط رغبتهم الدفينة في الانتقام من خصم إيديولوجي وفكري وسياسي لا يقتل وحيدا في الشارع المصري بل معه كل الشرفاء من وطن الكنانة الذبيح.