حتى لا نتهم بالاستلاب الفكري و نتهم بأنكى التهم، فإننا نبدأ مقالنا المتواضع هذا من المغرب، و بالضبط من شيخ مشايخ السلفية الحديثة بالمغرب الذي نهل المنهج الصافي بعيدا عن التكتلات و الأحزاب الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله، غادر المغرب نحو المشرق ليستزيد من العلم الشرعي بعد أن أخذ ما يكفي من مشايخ المغرب الذين كان جلهم محاصرين بالاستعمار من جهة و بأغلال الصوفية الطرقية و العقيدة الاشعرية من جهة أخرى، ذهب إلى مصر و العراق و الحجاز و تعلم هناك العلوم الشرعية ثم إلى ألمانيا ليتعلم المزيد من العلوم العقلية و الفلسفية و اللغوية أيضا فقد كان رحمة الله عليه إماما في اللغة العربية و متمكنا من اللغات الأوربية اغلبها حتى انه ترجم صحيح البخاري إلى الانجليزية، أثنى عليه غير واحد من علماء عصره و اعتبروه مرجعا لهم و حجة العصر في اللغة و الحديث و انتدبه الشيخ بن باز رحمه الله للتدريس بجامعة المدينة بعد أن كان بجامعة محمد الخامس، و لم يكن منغلقا على فهم واحد بل كان رحمه الله موسوعيا قابلا للاختلاف و إن تبنى السلفية النقية مرجعا لا حزبا أو إطارا. الإخوان المسلمون بطبيعة الحال كان الشيخ رحمه الله يختلف اختلافا كبيرا مع الإخوان نظرا لاختلاف المدرستين، لكن كان يدعوا إلى الإنصاف في الاختلاف و جعل الاختلاف فكريا بالأساس، و هذا نهجه ليس فقط مع الإخوان بل مع بقية التيارات الفكرية الناشئة في الوطن العربي و الإسلامي عموما، فما كان مكفرا و لا مبدعا و لا مخرِّجا و إنما محاججا بفصل القول بالدليل العقلي و النقلي حسب منطق من يحاجج. راسله البنا رحمه الله يوما طالبا منه انتداب كاتب مغربي لجريدة الإخوان الواسعة الانتشار، فقرر الشيخ رحمه الله أن يكون هو نفسه الكاتب باسم مستعار، و انظر هنا إلى الثقة المتبادلة بين رجلين فرقهما المنهج و جمعهما علو الفكر و سمر العلم. بالمقابل بعض متأسلفي اليوم ممن يدعون إتباع منهج الهلالي و أساتذته، يكيلون التكفير و التبديع و التخريج لكل من اختلف معهم، و يا ليت هذا فقط، فهم بالمقابل يرفعون شأن كل ديكتاتور حاكم بالحديد و النار ، و يدعون إلى الصبر عليه إن جار و ظلم و بالشكر و الحمد إن قدم بعض العدل و الإنصاف ، فما هذا الزمان الذي بلينا به بالإقصاء و مناصرة الظلمة باعتبار عدو عدوي صديقي. إذا ما أردنا الحديث عن السلفية في القرون الثلاثة الأخيرة فإن نجمها قد صعد بقوة بعد أن ظهرت كتيار حداثي متنور وقف بقوة في وجه الصوفيين المحتضنين من طرف السلطة الحاكمة في العالم الإسلامي و التي غالبا ما كانت أشعرية العقيدة، و الذين حولوا الفكر الصوفي إلى فكر طرقي وتني تحول معه المسلم العامي إلى زائر و معتقد في الأولياء و الصالحين من القبور التي غزت قرى و مدن العالم الإسلامي، فأصبح الاستشفاء بهم و التعويل عليهم في صغير الأمور و كبيرها، و ترك العلم الشرعي و الدنيوي ، و تحول العالم الإسلامي إلى مستنقع للجهل و الأمية و الاعتقاد الباطل، و هنا تصدت الحركات السلفية و حركات أخرى دينية و مدنية لهذا، فكانت القوة العظمى للحركات السلفية التي نزعت الغطاء الديني عن الجهل السائد باسم الدين، ثم انتقلت الحركة السلفية إلى أول مواجه للاستعمار الذي غزا العالم الإسلامي بعد تحالف قوى مدنية كثيرة معه، و تحالف العديد من شخصيات الطبقة الحاكمة مع القوى الامبريالية الكبرى، فكانت الحركة السلفية احد اكبر الممولين بالشباب الجهادي الذي ساهم مع شرائح أخرى من المجتمع الإسلامي لطرد الاستعمار و تصفية عملائه. هكذا إذن ظهرت الحركة السلفية بمختلف مشاربها الفكرية كتيار تنويري حداثي مقاوم ”ثوري” و قف أمام التجهيل و التسلط باسم الدين، لكن هذا التيار سيواجه بالحديد و النار بعد الاستقلال، في اغلب الدول الإسلامية و سيهمش بشدة، و سيفقد دوره المحوري في الحراك الفكري و الاجتماعي ، اللهم ما تفرق هنا و هناك من علماء هذا المنهج، و قد احدث هذا تفككا في التيار نفسه خاصة بعد احتضان دول بعينها لجزء من هذا التيار و محاربة الجزء الآخر الذي لم تستطع أن تجعله في حضنها، فخرج من هذا التيار تيارات تدعي السلفية و لكنها تبتعد بدرجات متفاوتة عن روح السلفية التي أشعت قبل الاستقلال، تيارات تحالفت بقوة مع السلطة الحاكمة و أصبحت تعطيها الشرعية الدينية التي لم تستطع أن تبنيها بالانجازات، فتحول هذا التيار عن منهج أسلافه الذين حاربوا الاستعمار فوقفوا مع وكلائه، رافضين النبس ببنت شفة في حق الحكام بمبررات دينية شرعية، و تحول جزء آخر من هذا التيار إلى القتل و الذبح باسم الدين و كان هذا نتاج لإبعاد الشباب السلفي عن العلم الشرعي و متابعتهم من طرف المخابرات و الأجهزة القمعية في مختلف الدول، فتحالفوا مع تجار السلاح و شكلوا عصابات تبيد البلاد و العباد باسم السلفية، و تقودهم أجهزة مخابراتية و تجار أسلحة دوليين يلبسون عليهم دينهم، و بعد أن كان السلفيون يعادون الطرقيين و فكر “الشيخ و المريد” اتخذوا لأنفسهم شيوخا تفتي لهم و يرددون كلامهم أكثر مما يرددون القرآن أو الحديث النبوي ، فتجدهم يقدسون فهم هذا الشيخ كأنه منزه، و لن نستغرب إذا وجدنا كثيرا من شيوخهم هؤلاء صناعة مخابراتية صرفة توجههم حيث شاءت و أنى شاءت.
إن ما يحدث بمصر اليوم عرى القناع عن كثير من مدعي النضال بمختلف تياراتهم و إيديولوجياتهم فبمجرد أنهم يختلفون مع الإخوان قبلوا أن يضربوا عرض الحائط كل المبادئ التي نادوا بها و هنا لا فرق بين القوى المدنية و نظيرتها الدينية، و وافقوا طواغيت العصر أن يقتلوا و يذبحوا و يشردوا و يغتصبوا دون ان يحرك ذلك شيئا من إنسانيتهم بل حرك فقط رغبتهم الدفينة في الانتقام من خصم إيديولوجي و فكري و سياسي لا يقتل وحيدا في الشارع المصري بل معه كل الشرفاء من وطن الكنانة الذبيح.