للمغرب تقاليد دولة راسخة وهو ما تفتقده، للأسف، النخبة الحاكمة في الجزائر منذ الاستقلال. قبل أيام خاطب الملك محمد السادس الشعب المغربي لمناسبة ذكرى عيد العرش. ركّز الخطاب الملكي في طبيعة المناسبة على ما حقّقه المغرب من تراكمات ونجاحات على مستويات مختلفة، كما ذكّر بالطموحات والتحدّيات التي يجب مواجهتها بكثير من الجدّية والحزم، لكنه في خضم ذلك تحدث إلى الجزائر والشعب الجزائري، مجدّداً التأكيد على عمق الروابط وضرورة فتح الحدود ومواجهة التحدّيات المشتركة بشكل مشترك، على عكس اللغة التحريضية التي يوظفها أقطاب النظام في الجزائر. اختار الملك عبارات دقيقة فيها الكثير من النَفَس الإيجابي والحرص على عدم شتم المستقبل، فعند الحديث عن العلاقات بين البلدين، والتي يعرف الجميع أنّها تعاني من الجمود، فضّل الملك بشكل راقٍ استعمال عبارة "مستقرة"، هذا الاختيار الذي يمثل رهان المغرب على اليد الممدودة، يكرّس حقيقة أنّ المغرب تاريخياً، سعى دائماً إلى تسوية كل الخلافات مع الجزائر حتى لا يُسمح للنظام هناك بتوظيفها لتبرير ارتكاب أي حماقة تجاهه، وجرّ المنطقة إلى أتون حرب سيخسر فيها الجميع. وهذا الأمر ممتد منذ زمن الراحل الحسن الثاني. يجب أن نتذكّر هنا كيف أمر الملك الراحل، في حرب الرمال، الجيش بالعودة وهو على بعد خطوات من وهران، وكيف قبل ترسيم الحدود بما في ذلك التخلّي عن مطالب المغرب المشروعة في الصحراء الشرقية وذلك عبر اتفاقية إفران سنة 1972. نتذكّر أيضاً كيف أنّ المغرب لم يصدر عنه ردّ فعل مماثل لما قام به هواري بومدين من ترحيل قسري لآلاف المغاربة ومصادرة أملاكهم يوم عيد الأضحى في ما عُرف ب"المسيرة الكحلة/السواد" سنة 1975 رداً على المسيرة الخضراء التي دعا إليها الراحل الملك الحسن الثاني إلى الصحراء المغربية، فقد أمر بومدين قوات الشرطة والجيش بتفكيك الأسر المختلطة بين الجزائريين والمغاربة، حيث تمّ فصل الأباء والأمهات عن أبنائهم في مأساة إنسانية، ومصادرة أملاكهم وحملهم في الشاحنات ورميهم على الحدود مع المغرب، في صورة مؤلمة توضح حجم السقوط الأخلاقي للنظام في الجزائر، لذلك كان المغرب ولا يزال، يدير علاقاته مع جارته الشرقية بمنطق "قدر الجغرافيا" فلا الجزائر ستغيّر موقعها ولا المغرب سيفعل ذلك، هذا هو قدر البلدين. والمغرب يحرص دائماً على توجيه رسائل، هي في الحقيقة للشعب الجزائري ونخبه المتنورة التي يمكن أن تقود بلادها في المستقبل. الرسالة السياسية هي أنّه ليس للمغرب موقف عدائي من الجزائر وأنّ المغرب يؤمن بالمستقبل المشترك. قبل سنة، تعمّد النظام الجزائري جعل تاريخ الإعلان عن الشروع في التهيؤ المنفرد لمنجم الحديد بغارة الجبيلات المشمول باتفاقية ترسيم الحدود بين البلدين والاستغلال المشترك لجزء من احتياطاته، ويصادف ذكرى عيد العرش في المغرب، وهو ما يوضح حجم الغل الذي يسكن صنّاع القرار في الجارة الشرقية، علماً أنّ المغرب كان دائماً يتجنّب ردود الفعل أو السقوط في منهجية تعاطي النظام الجزائري نفسه مع مصالحه، فالنظام الجزائري لم يُبق أي سوء لم يوجّهه إلى المغرب، لذلك كانت الممارسات السلبية لقادة النظام الجزائري، تقريباً بلا قيمة ولا تساهم سوى في تعقيد الوضع المأزوم والشاذ بين البلدين. فالعلاقات الثنائية حتى قبل الاعلان الجزائري عن قطع العلاقات الدبيلوماسية وإغلاق الأجواء، كانت عملياً متوقفة كلياً منذ أكثر من ثلاثة عقود، إذ لا يجب أن ننسى أنّ على تراب الجزائر توجد ميليشيات مسلّحة توجّه أسلحتها ضدّ المغرب منذ نحو أربعة عقود، ومقدّرات الشعب الجزائري تمّ صرف جزء كبير منها ولا تزال تُصرف على جمهورية الوهم في كل المحافل الدولية، لذلك فما هو الأمر السيئ أو الأكثر سوءاً الذي يمكن توقّعه من مثل هذا النظام… بسبب العداء الممنهج للنظام الجزائري للمغرب، تبدو منطقة المغرب الكبير وكأنّها خارج التاريخ، ففي الوقت الذي تتطور الاتحادات الإقليمية بجوارها وقريباً منها، ما زالت هذه المنطقة تغط في سبات الحرب الباردة، وتلعب بعض دولها أدواراً على خشبة مسرح هجره الجميع. لا متفرجون هنا، لكن من يتوهمون أنّهم يلعبون أدوار البطولة يرفضون النزول عنها، تماماً كما يرفضون النزول عن كراسي السلطة. المفارقة هي أنّ منطقة المغرب الكبير في العقد الأخير، كانت محط أنظار العالم عقب التحوّلات التي عرفتها كل من تونس وليبيا في إطار ما يُسمّى ب"الربيع العربي"، ورغم أنّ التجربتين تختلفان معاً في طريقة إحداث التغيير ومساره، فإنّهما معاً يواجهان صعوبات كبيرة، تظهر بالغة التعقيد في الحالة الليبيبة رغم التوافقات الأخيرة في بوزنيقة، وذلك بفعل كثافة العامل الخارجي. أما في الحالة التونسية، فإنّ عدم الاستقرار يبقى العنوان الأبرز، بحيث يصعب توقّع المسارات التي ستأخذها البلاد مستقبلاً أمام شبه انهيار للاقتصاد ولقدرة الدولة على القيام بالتزاماتها. الاتحاد المغاربي كان حلماً، وأصرّ جزء من النخب السياسية الحاكمة المتعاقبة على حكم البلدان الخمسة منذ موجة الاستقلال منتصف القرن الماضي، على أن يستمر كذلك… المؤسف اليوم، هو أنّ هذا المشروع المفتوح على التاريخ والجغرافيا، أحجم حتى على أن يكون حلماً، فالنزعة الوطنية الضيّقة، قتلت هذا الأفق، بل لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ أنّ هناك ممارسات تعمل بصورة جادّة بوعي أو من دونه، على إدامة هذا الوضع وتعميق جوانب الخلاف، بدل تعزيز مساحة المشترك بين شعوب المنطقة والتي تميّز منطقة المغرب الكبير عن باقي مناطق شمال إفريقيا والشرق الأوسط. فالدول الخمس تتوحّد في اللغة والدين والمذهب، وهي العناصر بالضبط التي تشكّل اليوم وقود الصراعات في منطقة الشرق الأوسط. يبقى السؤال، هو ما الذي يجعل منطقة المغرب الكبير عصية على الوحدة والتكامل الاقتصادي؟ ليس الوحدة بالمعنى الناصري الحالم أي الدولة الواحدة كما عاشته مصر وسوريا في لحظة من لحظات الرومانسية السياسية، بل بمنطق التعاون والتضامن والتكامل العقلاني على أرضية المصالح المشتركة، فبينما تتفاوض بلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعة عبر مؤسساتها في بروكسل، نرى بلدان المنطقة تتفاوض كل واحدة بمفردها مع مجموع بلدان الاتحاد الأوروبي، فكيف يمكن لهذه المفاوضات أن تكون عادلة وذات قيمة بالنسبة لشعوب المنطقة؟ الغريب أنّ المفاوضات الجماعية الوحيدة التي تجري في إطار جماعي وبخاصة تلك التي تجمع البلدان الخمسة جنوب أوروبا مع بلدان المغرب الكبير الخمسة، هي تلك المتعلقة بالأمن والهجرة غير الشرعية، أما باقي المفاوضات المتعلقة بالتبادل التجاري، فإنّ بلدان الاتحاد المغاربي تخسر فيها بشكل مستمر لأنّها كما قلنا، تذهب إليها منفردة، علماً أنّ العديد من الخبراء الاقتصاديين يؤكّدون أنّ كلفة غياب الاتحاد المغاربي، تصل في الأدنى إلى خسارة نقطة من معدل النمو سنوياً بالنسبة لبلدان المنطقة، وإذا علمنا أنّ نقطة في معدل النمو تعادل خلق 35 ألف فرصة عمل سنوياً، فهذا معناه خسارة 175 ألف فرصة في مجموع البلدان الخمسة التي تنام على ثروات هائلة يتمّ استغلالها بشكل عشوائي يرهن مستقبل الأجيال المقبلة. فرغم أنّ اقتصادات البلدان الخمسة، هي اقتصاديات متوسطة، فإنّ قوتها لو اتحّدت، تتمثل في كونها تعتمد على نشاطات متكاملة. فالطاقة موجودة في كل من ليبيا والجزائر والزراعة والفوسفات في كل من المغرب وتونس، والحديد والثروة البحرية في موريتانيا والمغرب، وما يسعى المغرب إلى تحقيقه في إطار برنامج " إقلاع" الصناعي الذي يبدو واعداً في قطاع السيارات والطائرات، إضافة الى ما تزخر به دول المنطقة مجتمعة من قوة للشباب وملايين المهاجرين ممن اكتسبوا خبرات في العلوم والاقتصاد الحديث في بلدان المهجر، ولهم كامل القدرة على دفع المنطقة الى آفاق رحبة بخصوص التنمية في مختلف مستوياتها. المتتبع ل"متلازمة العداء للمغرب" التي تطغى على الجزائر الرسمية، يخلص إلى استبعاد أي تطور ممكن في موقف القيادة الجزائرية، بالشكل الذي يمكن أن يساهم في إيجاد حل حقيقي للنزاع المفتعل في الصحراء المغربية، والذي يُراد له أن يكون شمّاعة يُعلّق عليها غياب الاتحاد المغاربي، ذلك لأنّ طيفاً واسعاً من القيادات السياسية والعسكرية في قمّة هرم السلطة في الجزائر لا يفتقدون فقط للصدقية بسبب هزالة شرعيتهم ومشروعيتهم، بل أيضاً لهامشيتهم في عالم متحوّل… لذلك تواجه الجزائر اليوم واحدة من أخطر مراحل تطورها التاريخي، وهي مقبلة على جملة من التحدّيات، كل ذلك في ظل جوار شرقي غير مستقر وغربي تستثمر في عدم استقراره، وكلما تأخّر التحوّل الديموقراطي بها، كلما ارتفعت المخاطر التي تواجهها بلدان المنطقة التي لم تنجو إلى هذه اللحظة من مكر التاريخ… ويبقى الملك محمد السادس رجل دولة يقدّم الدروس ويسجّل مواقف للتاريخ ستنصف المغرب بلا شك، لأنّها تتوافق ومنطق التاريخ والمصير المشترك للدول المغاربية، وأساساً القبول بقدر الجغرافيا والصمود أمام مكر التاريخ.