من يتأمل بلاد الخليج ونهضتها وتحولها في زمن قياسي من أرض مقفرة إلى أرض مثمرة، ومن بلاد مهجورة إلى مدن معمورة يَعجب من هذا التحول الكبير، وهذه النهضة الشاملة، وهذا التطور العمراني السريع على كافة المستويات. غير أنه إذا بحث عن السبب ربما زاغ به الفكر، وحاد عن الصواب، وذلك إذا ربط تلك النهضةَ بخصوص ما تمتلكه هذه الدول من مخزون بترولي كمثل ماء البحر. وإنما يكون مخطئا لأن من شرط سلامة العلة واعتبارها اطرادَها وعدمَ تخلفها، وهذه العلة تنتقض بدول كثيرة في العالم تمتلك ثروة بترولية كبيرة، ومعها ثروات أخرى ليست في بلاد الخليج، ومع ذلك فهي غارقة في التخلف، ومتأخرة في سُلم التصنيفات على جميع الأصعدة وكافة المجالات، على أن شبابها يموتون في أعماق البحار، ويقدمون وجبات سائغة للحيتان، وتراهم طوابير على السفارات الأجنبية يخطبون ودها لعلهم يظفرون منها بتأشيرة تنجيهم من هذه الدول البئيسة. ومما يدل على فساد هذا التعليل: أن كثيرا من دول العالم تشهد نهضة عالية دونما أن يكون في أرضها بئر نفط واحدة، اليابان نموذج حي لذلك، ومثلها: دول أوروبا الغربية وسويسرا والسويد وكثير من دول آسيا مثل كوريا الجنوبية. والذي أراه سببا مباشرا لنهضة هذه الدول هو استيرادها للعقول البشرية، وتمكينها للطاقات الأجنبية، وإغراؤها المادي اللا محدود لاستقطاب الكفاءات العلمية، هذا هو السبب الحقيقي لتلك القفزة العالمية السريعة، صحيح أن هذه العقول يتم استئجارها بفضل عائدات النفط، لكن ذلك النفط ما كان له أن يوجد لولا العقل، وما كان له أن يُستثمر استثمارا صحيحا لولا العقل، وما كان لعائداته أن توجّه توجيها سليما لولا العقل، وما كان لها أن تُحمى من اللصوص وناهبي المال العام لولا العقل، فالثروة الحقيقية هي العقل البشري. ومن هنا تحرص الدول الذكية على استقطاب العقول، وتوطين الأجانب، وتلقيح الأذهان المقيمة بالأذهان الوافدة، ولا تجد حرجا في وضع هؤلاء الأجانب في مناصب راقية ولو كان منصب رئيس الدولة، ويحكي من يزور ويعيش في الأوطان الغربية عن وفرة الأجانب في المشافي والمدارس والجامعات. ولقد كان من أفدح الأخطاء التي وقع فيها المغرب والجزائر وكثير من بلاد العرب استغناؤها عن الكفاءات العربية، وسعيها الحثيث لتفعيل برنامج التوطين سيما في قطاعي التعليم والصحة. سعت هذه الدول لفتح باب التوظيف أمام (حاملي الشهادات) في مناصب يشترط فيها الكفاءة وليس حمل الشهادة، والكفاءة شيء نادر، فبالكاد يكون بين كل 100 خريج كفء واحد!، وفي الحديث الصحيح (الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة). على أن العقل الوافد يتميز بخصائص لا توجد عند من لزم مكانه، فهو أخلص في عمله، وأصبر على مشاقه، وأولى ببلوغ المراد من المواطن المشتت بين أقاربه وأرحامه، وهو مع ذلك ذو ثقافة محدودة لا تتجاوز بيئته! المدرس الأجنبي مثلا لا يعطيك المعلومة فقط، بل بالإضافة إلى كونه يقدم لك المعلومة على وجهها الصحيح، فهو أيضا: يعلمك الصبر والتواضع، وهما صفتان ملازمتان لكل غريب عن الوطن، وينقل إليك مع ذلك ثقافة بلده ومشاربه ويعرفك به تعريفا أدق وأشمل، حتى إذا زرت بلده كنت به بصيرا، ووجدت فيه من يرحب بك ضيفا عزيزا، وابنا كريما، فتخيل إذن لو أنك تتلمذت لعشرة أساتذة أكفاء من أصقاع شتى، النتيجة سوف تكون عظيمة يا صديقي، {ولا ينبئك مثل خبير}. وقد كان في كرة القدم أكبر العبر على ما نقول، فلا يوجد في الدنيا فريق كروي ناجح وجميع أعضائه وطنيون؟ بل لا بد أنه من مشارب شتى، حتى المنتخبات لا بد أن مدربها أجنبي، أو بعض اللعيبة أصولهم أجانب! وقد تأملت سر نبوغ كبار العلماء على مر التاريخ فإذا هو كامن في تنوع مشيخة هؤلاء العلماء، وانتقالهم من قطر إلى آخر، ولو استعرضتم اسانيد البخاري مثلا لوجدتم فيها بصريا الى جانب كوفي الى مصري الى حجازي الخ. فلماذا لا تكون مدارسنا وجامعاتنا ومشافينا على هذا النحو؟ ولماذا لا تتم اتفاقية بين الدول العربية على تبادل الخبرات واستقطاب الكفاءات فيكون عندنا أكفاء من كل قطر وفج؟