-1- في ظل الحملات العنصرية الممنهجة التي تنظمها أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية ضد المهاجرين الأجانب منذ ظهور البوادر الأولى للأزمة الاقتصادية/المالية العالمية، برزت بشكل لافت ظاهرة "هجرة العقول"، حيث أعلنت العديد من دول المهجر عن رغبتها في الاحتفاظ بالكفاءات العلمية والتكنولوجية، بعد طردها واستغنائها عن العمال والحرفيين العرب والأفارقة والأسيويين، وذلك وفقا لمخطط بعيد المدى يرمي إلى إعادة هيكلة أنظمتها في مختلف المجالات الاقتصادية والعلمية والحضارية عامة. في مطلع الألفية الثالثة أعلنت دول الغرب عن خصاصها للكفاءات العلمية والتقنية والفنية التي من شأنها إعطائها القدرة على مسايرة التطورات العلمية والتكنولوجية، وعن استعدادها فتح الباب على مصراعيه لاحتضان الكفاءات القادمة من بلدان العالم المتخلف/السائر في طريق النمو لإدماجها في أنسجتها العلمية والإدارية، لسد النقص الحاصل عندها في هذه الأنسجة. وحسب دراسة للعالم المستقبلي المغربي الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله، فإن هذا النقص يصل بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية إلى 350.000 إطار في مختلف التخصصات، وبالنسبة لأوروبا يتجاوز 940.000 إطار متخصص، وهو ما يجعل هذه الدول في الوقت الراهن تبذل قصارى الجهود من أجل استقطاب العقول والكفاءات بكل الوسائل، وبأي ثمن، من أجل أن لا يدفعها هذا النقص إلى التخلي عن دورها في قيادة المركب الحضاري العالمي، والتراجع خلف الدول الأسيوية، خاصة الصين واليابان والكوريتين. -2- هكذا، نرى في الوقت الذي يتم فيه طرد العمال المغاربة والأفارقة بالآلاف وبطرق وأساليب عنصرية لا إنسانية أحيانا، يتم الترحيب بشكل مبالغ فيه أحيانا بالأطباء والمهندسين والإعلاميين والرياضيين والفنانين والكتاب والمبدعين وأساتذة الجامعات وبكافة أطر التخصصات العلمية المهاجرة إلى أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية وكندا، بإغراءات كبيرة وتحفيزات وامتيازات مغرية. وهو ما جعل ظاهرة هجرة العقول تتسع سنة بعد أخرى، وتتخذ أبعادا مهولة ومقلقة، في ظل أوضاع البلاد التي تعاني من التخلف والفساد والرشوة والتهميش وانعدام استقلالية القضاء، وضعف الحريات العامة وخرق مواثيق حقوق الإنسان، ما يشكل خطرا محدقا على المديين المتوسط والبعيد على الاقتصاد والصناعة والصحة والثقافة والفنون والرياضة والتعليم والخدمات، وكل الأنسجة التي تقوم عليها مخططات التنمية البشرية والتنمية الشاملة. طبعا، ليست هناك إحصائيات رسمية بصدد الأطر والكفاءات المهاجرة، أو التي تهاجر، من البلدات التي كانت تسمى ببلدان العالم الثالث، ولكن هناك حالات للهجرة مستمرة ومنذ عدة سنوات. طلبة يغادرون سنويا لمتابعة دراستهم العليا بالجامعات الأوروبية والأمريكية، ولكنهم بعد الانتهاء من الدراسة لا يعودون إلى أوطانهم، بل يفضلون الإقامة بالبلدان التي تابعوا بها الدراسة وحصلوا فيها على شهاداتهم العليا. أساتذة وباحثون وأطباء وعلماء رياضيات وفيزياء وصحافيون ورياضيون وفنانون وغيرهم يغادرون بلدانهم العربية أو الإفريقية سنويا، بسبب الإغراءات التي تقدمها لهم الجامعات والمؤسسات الأوروبية والأمريكية والكندية من أجل استكمال التكوين، واكتساب الخبرات المعمقة التي لا تتوفر عليها الجامعات والمعاهد والمؤسسات العلمية المغربية... يتم بعد ذلك استقطابها لمصالحها الذاتية. أطر عليا في المؤسسات الاقتصادية والبنكية والصناعية، وفي الإدارة العمومية، تغادر أوطانها العربية والإفريقية سنويا نحو أوروبا وأمريكا وكندا، بدعوى تطوير مهاراتها العلمية والاستفادة من الامتيازات التي تمنحها هذه الدول لأصحاب التخصصات العلمية، وأيضا بدعوى أن أوطانهم لم تول البحث العلمي أي اهتمام من شأنه إرضاء طموحات هذه الأطر في عهد العولمة والانفتاح العلمي. ولا شك أن الفوارق القائمة بين اهتمام الغرب وجامعاته ومقاولاته ومؤسساته العلمية والاقتصادية والسياسية والإدارية بالعلم والعلماء، وبالكفاءات الفنية في المجالات المختلفة، وبين واقع الحال ببلدان العالم الثالث، ستجعل هجرة العقول والمهارات هجرة متواصلة، بل لربما ستجعل منها كارثة علمية إذا ما استمر الحال على ما هو عليه. إن هذا النزيف أمام الإغراءات الممنوحة سوف لن يتوقف عند هذا الحد، بل لربما سيتجاوزه ليأخذ بعدا أخطر إن لم تتخذ في شأنه القرارات الشجاعة من طرف أصحاب القرارات، ذلك لأن النزيف الحاصل اليوم سيصيب حتى الأطر العاملة بالمؤسسات الاقتصادية والمالية والخدماتية والعلمية التي لها تجربة وخبرة، ومن ثمة ستصبح الكارثة أكبر، خاصة وأن إشكالية هجرة العقول والكفاءات أصبحت في الزمن الراهن، تندرج في إطار ظاهرة تهم مجموع العالم السائر في طريق النمو، ذلك أن الخصاص في الكفاءات العلمية والتقنية والفنية الذي يعاني منه الغرب/أوروبا وأمريكا مهول وخطير. -3- حتى هذه الحظة تكون ظاهرة هجرة العقول قد تسببت للعالم السائر في طريق النمو في خسارتين: الأولى مادية، حيث يَصرِف على الأطر المهاجرة ملايين الدراهم من أموال دافعي الضرائب من أجل تعليمها وتأهيلها وتكوينها دون أن يستفيد الوطن من خدماتها. والثانية معنوية، حيث يُقدِّم هذه الأطر على طبق من فضة وبدون مقابل للدول الصناعية/المتقدمة/الغنية، لتزداد قوة ومناعة، وهو في أشد الحاجة إليها لإقلاعه وتقدمه وتحديث هياكله وإخراجه من أوضاعه المتأزمة مع الفقر والتخلف والفساد. أمام هذه الظاهرة الملفتة التي تزيد من تعميق الهوة بين العالم المتخلف والغرب/بين الشمال والجنوب، والتي تزيد من تبعيته، يمكن التساؤل عن الأسباب والدوافع التي تدفع هذه الطاقات إلى الهجرة بدل المساهمة في تطوير موطنها. هل هي البنية العلمية التي مازالت غير فعالة ومنفصلة عن إطارها التربوي آم هي هزالة الاعتمادات المالية المخصصة لها؟ هل هي البيروقراطية القائمة في الأجهزة الإدارية التي تقف عائقا كبيرا أمام الكفاءات الوطنية، والتي تشتت جهودها العلمية وأبحاثها واختراعاتها، وتساهم في دفعها إلى الهجرة، حيث يكون المعيار الوحيد هو الكفاءة العلمية ووجود المناخات التي تساعد على بلورتها؟ هل هو انعدام التخطيط الصحيح لإحداث طفرات في المجالات الحيوية التي من شأنها استقطاب الكفاءات العلمية والتقنية وتشغيلها لصالح النهضة الوطنية في مجالات تخصصها؟ هل هو عدم قدرة المقاولات الصناعية والتجارية والخدماتية بالعالم الثالث مجاراة المقاولات العالمية ومنافستها على اجتذاب الموارد البشرية المتخصصة؟ هل هو عدم توفير الشروط الاجتماعية للعلماء والمتخصصين والمهندسين للطمأنينة النفسية والارتياح والحرية والمنافسة العلمية الشريفة في المقاولات وغيرها من محيطات العمل والإنتاج؟ هل هو غياب الوسائل والبنيات لتطبيق ما تعلمته الكفاءات في المعاهد والجامعات، وضعف ميزانيات البحث العلمي، وهو ما يتحول إلى تلاشي المعارف؟ أم هو الحد من حرية التعبير التي من شأنها تشجيع الخلق والابداع والمبادرات العلمية والفنية وغيرها؟ -4- في واقع الأمر، هي سلسلة مترابطة من الإشكالات العالقة بموضوع الهجرة تواجه العالم المتخلف/السائر في طريق النمو، من هجرة اليد العاملة إلى الهجرة السرية، إلى هجرة الأدمغة العلمية والتقنية، وتجعل العالم الفقير يعاني من النزيف دون أن يبحث بجدية عن حلول وعلاجات. ولأن الهجرة أخذت شكل الغول على كافة المستويات، وتجاوزت في شكلها وموضوعها كل الأحجام، وأصبحت قضية تمتد إلى أسواق المال والاقتصاد وإلى العلم والسياسة، فقد بات على هذا العالم أن يتأمل بالكثير من التأني والتمعن في إشكالاتها المتداخلة مع واقعه الآني والمستقبلي، وإيجاد العلاجات الناجعة لها قبل فوات الأوان. إن الهجرة من موقعها هذا أصبحت ترتبط بإشكالات النمو الديموغرافي، وبإشكالات الوضعية الاقتصادية السياسية المتأزمة لبلدان العالم الثالث كمصدر للطاقة البشرية، وهي إشكالات، كما تتحكم بقوة في الأنظمة الإدارية والاقتصادية والثقافية، أصبحت تتحكم في الأنظمة التربوية والعلمية بعدما تحولت إلى نزيف للكفاءات والعقول، وهو ما يجعلها في حجم الغول الذي يهدد حاضرها ومستقبلها بصمت وهدوء. وبالنظر إلى الأوضاع الاقتصادية الراهنة لأوروبا وكندا والولايات المتحدةالأمريكية، وهي تعاني من التأزم والإفلاس والتراجع بفعل الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية، نجد هذه الدول تنفض يدها بعنف وقوة وبكل الوسائل الممكنة والمستحيلة من الأيادي العاملة، تطرد يوميا الآلاف خارج حدودها، ولكنها في الوقت ذاته تفتح ذراعيها للأطر العلمية، للأدمغة النشيطة في كل المجالات والميادين، تواصل امتصاصها لأدمغة العالم الثالث بكل الإغراءات وبأي ثمن، لتزيد هذه البلدان تخلفا، ولتزيد من تكريس الفوارق القائمة في عالم اليوم بين الشمال والجنوب. من هذا المنطلق، تجد الهجرة نفسها اليوم تتحول على خريطة دول الجنوب/العالم الثالث من قضية إنمائية مريحة تدر بعض الأرباح على الخزائن العامة، إلى قضية تستنزف هذه الخزائن وتفرغ الجسد الوطني من عقوله المستنيرة. السؤال الذي تطرحه هذه الإشكالية اليوم بقوة على ساحة البحث العلمي، وعلى ساحة البحث السياسي، وعلى مجتمع العالم المتخلف/السائر في طريق النمو: متى تتحول الهجرة إلى موضوع للتأمل والبحث والدراسة العلمية الموضوعية لاستخلاص الأرباح والخسائر لحماية هذا العالم من الانهيار؟ -5- حتى هذه اللحظة لم يحدث اتفاق بين فقهاء اللغة عن المصطلح الأنسب للتعبير عن ظاهرة "هجرة العقول" نحو أوروبا والولايات المتحدةالأمريكية وكندا واستراليا التي تفجرت في العقود الأخيرة بإفريقيا وكل دول الجنوب، هل هي نزيف للعقول أم هجرة العقول أم اصطياد العقول أم تفريغ الأدمغة أم سرقتها؟ الإعلام بالعالم المتخلف/الجنوبي استعمل كل هذه المصطلحات في قراءاته وتحليلاته لهذه الظاهرة الملفتة للنظر والمثيرة للجدل، لكن الإعلام الغربي، وفي مقدمته الإعلام الأمريكي، يستعمل مصطلحات أقل أثارة وأكثر تضليلا: النقل العكسي للتكنولوجيا/تدفق الموارد البشرية/التبادل الدولي للمهارات. وفي واقع الأمر، فإن عمق هذه الظاهرة التي تصب أساسا في هجرة الكفاءات المدربة، والمهارات العلمية والتكنولوجية من بلدانها الأصلية بالعالم المتخلف/الفقير/السائر في طريق النمو إلى بلدان أخرى نامية ومتقدمة، يشكل في الوقت ذاته قيمة مضافة وربحا زائدا للبلد الذي تتم إليه الهجرة. إن إفراغ بلدان العالم الفقير والمتخلف من كفاءاته العلمية والثقافية والتكنولوجية هو بالأساس إبعاد هذه الكفاءات عن قيادة أوراش التحديث والنهضة والتقدم في بلدانها الأصلية وتكريس مظاهر الفقر والتخلف بها، وبالتالي هو تكريس للفجوة العلمية بين الشمال والجنوب، وإخضاع للدول الفقيرة والمتخلفة وإجبارها على البقاء تحت رحمة الخبرات الأجنبية. والسؤال المحوري هو: من يحدد موقعنا من هذا النزيف؟ ومتى يحدث ذلك؟