رواية "المعطف" القصيرة أو قصة طويلة، اليوم يمر على كتابتها واحد وثمانين عاما بعد المائة (1842)، وكأن صاحبها نيكولاي غوغول يعيش بين ظهرانينا يصف حالنا، و يعكس آلامنا، ويترجم أحلام بسطائنا، ويسلط الضوء على الكثير من ممارسات بعض مسؤولينا؛ مدرسين حيال تلاميذهم أو آباء مع أولادهم أو غيرهم في أي قطاع أو إداريين، ممن لا يقدرون عواقب تصرفاتهم وأقوالهم. فكم من كلمة ساخرة أو جارحة لا نلقي لها بال، أو فعل لا نحسب له حسابا يكون سببا في الدمار والشنار، قد يصل ببعض الضحايا إلى قتل النفس لا قدر الله. كم من كلمة طائشة من مدرس طوحت بطموحات طفل في عمر الزهور دمرت مستقبله الدراسي، والعكس كم منهم حقق الكثير لا يزال يدين لتشجيعات معلمه. وكم من أب أم لجهلهم بقواعد التربية في حدودها الدنيا جنوا على أولادهم بكلمات نابية ساخرة، وقس على ذلك أرباب العمل مع مستخدميهم. فمن ينسى شرارة الثورة في تونس، ألم تكن بسبب صفعة الشرطية الشهيرة وانتحار الشاب البوعزيزي حرقا احتجاجا على "الحكرة"؟ فيكون الوزر على من تسبب فيها ولم لا المتابعة القانونية، كما حدث في الأخير لأكاكي بطل هذه القصة. فبعد موته إثر احتقاره وانتهاك كرامته، ظل شبحه في المدينة يلاحق محتقريه والمستخفين به، ينغص عليهم حياتهم. إنه موظف بسيط للغاية لا يعرف غير نسخ الأوراق، لم يكن يبالي بسخرية من معه وهزئهم اللاذع. وحتى إذا امتدت يد أحدهم إليه، لا يزيد أن يقول له "دعني وشأني، لماذا تسيء إلي". لم يكن يملك غير معطف واحد، لاهترائه رفض الخياط مسه بالترميم، ناصحا إياه بشراء معطف جديد. أمام قساوة برد سانت بطرسبورغ، لم يكن له من خيار غير الالتزام بسياسة تقشف صارمة لمدة سنة، ليوفر ثمنه. ف"العين بصيرة واليد قصيرة". توقف عن شرب الشاي مساء، والعيش بدون شمعة، "وكان عليه أن يطأ الأرض بخفة كل ما أمكن … كأن يمشي على أطراف أصابعه ليوفر نعلي حذائه"، فضلا عن تجنب أخذ ملابسه المتسخة للغسالة كل ما أمكنه ذلك. "وأن يجعل ملابسه الداخلية تدوم أطول، يخلعهما فور عودته إلى المنزل مساء"33. فكان له ما أراد. إلا أن فرحته بمعطفه الجديد لم تعمر أكثر من يوم، إذ اعترض سبيله لصان ليلا فسرقاه منه ، لكن صدمته الكبرى كانت لما قوبلت شكواه لدى الشرطة بالإهمال، وبقدرة قادر اتخذت منحى آخر بعدما أبدى بعض الاحتجاج، ليصبح من مشتك إلى مشكوك في أمره حول دواعي خروجه في تلك الساعة المتأخرة من الليل. التهمة جاهزة كانت "البحث عن بنات الليل". فما كان منه إلا أن يعمل بنصيحة أحدهم التوسل بأحد الناس المهمين، لكنه لم يجد غير الصدود والاحتقار بكلمات تصك مسامعه بقول الرجل المهم "كيف تجرؤ؟ هل تعرف من تخاطب؟ هل تدرك من المخاطب أمامك؟، إني أسألك هل تفهم؟ إني أوجه لك سؤالا؟" 56 أرعبه أكثر لما خاطبه قائلا "ماذا تريد؟" قالها له "بصوت آمر فظ كان يتمرن عليه مرددا، عندما يكون بمفرده أمام المرآة" 54. كانت آخر عهده بالحياة، إذ لم يتذكر شيئا عن نزوله السلم إلى الشارع، فأطرافه قد فارقت الحياة، من هول الصدمة. "فلم يحصل في حياته مطلقا أن تلقى مثل هذا التوبيخ". للأسف وكأن الزمن متوقف عن التحول والتطور. نتساءل اليوم، ما إن تم القطع مع مثل هذه الممارسات المشينة الحاطة من كرامة الإنسان. فكم منهم لا يزال يردد هذه السمفونية المقيتة ضاربا عرض الحائط كل ما تحقق على أرض الواقع من تطورات في شتى المجالات وفي مختلف الإدارات. فالتسلط والاحتقار و القهر وعدم الاكتراث وتقدير مشاعر البسطاء، لا يزال يعشش و يبيض ويفرخ في رؤوس عدد من المسؤولين، صغر شأنهم أو كبر. كم منهم يستغل منصبه أو جاهه أو ما في حوزته من ثروات، ليعتبر نفسه فوق القانون، يعبث بمن دونه، غير عابئ بمشاعرهم وكرامتهم. فعادة ما يفجرون ما يتعرضون له من ظلم في بيوتهم، و مع التراكم قد يرتكبون ما لا يحمد عقباه، أو يكون مصيرهم الهلاك كما الحال بخصوص بطل قصة "المعطف".