دراسة للناقد الناقد عبد الرحيم التدلاوي: صدرت للقاص المغربي محمد نور بنحساين مجموعة قصصية قصيرة جدا بعنوان: مرايا متكسرة؛ عن دار مكتبة سلمى الثقافية للنشر والتوزيع في طبعتها الأولى سنة 2017؛ وهي المجموعة الورقية الأولى بعد مجموعة إلكترونية سبقتها بعنوان: الشريد. جاء العمل في 75 صفحة. اختار القاص محمد بنحساين دخول الأدب من بوابة القصة القصيرة جدا من خلال مجموعته التي وسمها ب”مرايا متكسرة”. وهذا ملخصها: جاء الكتاب نتاج مجموعة من القصص القصيرة جدا التي استغرقت كتابتها مابين 2015 و 2016 لترى النور في غرة سنة 2017؛ قسمها لسبع مرايا هي كالآتي: المرآة الأولى:مع وقف التنفيذ(تضمنت رؤى لواقع غير مكتمل؛ واقع ينتظر الحكم الموقوف؛ إما للإفراج عنه؛ أو لإعدامه أمام الملأ) المرآة الثانية: حقائق صادمة(سلط الضوء على بعض الحقائق المزيفة لأقنعة الأفراد والجماعات والسياسات…). المرآة الثالثة: رياح التغيير(حاول أن يصور العالم كما تمنى تغيره) المرآة الرابعة: من وحي الواقع(نزل في هذه المرآة ليصور معيش الحياة كما هو؛ يعكس مظاهر الفساد والتجبر والقسوة…) المرآة الخامسة: من وحي التراث(حاول أن يتماهى مع الأدب التراثي من خلال المقامة أو المثل أو حتى الشعر) المرآة السادسة: الشريد(يمكن القول إن المقصود هاهنا بالشريد هو القاص أو كل من ألفى نفسه شريدا في عالم يفقد الإنسان البوصلة رغما عنه للتيه في غياهبه قسرا) المرآة السابعة: أحلام مؤجلة(تم ختم المرايا بأحلام القاص المؤجلة و بأحلام كل متطلع نحو غد أفضل هي أحلام مرجأة لأجل قد تسميه الأيام قريبا) يقوم القاص بنقل مشاهد الواقع في بناء معماري سمته الأساس التركيز الشديد والتقتير اللغوي القوي والتكثيف بغاية فتح كوى أمام القارئ لبناء النص من جديد وفق آليات التأويل التي تمنح النص رحابته المرجوة. ومن خلال الموجز أعلاه، نتبين حجم النقد الموجه للواقع العاج بالاختلالات؛ وتنبغي الإشارة إلى أن المجموعة لم يكن هدفها النقد من أجل النقد بل إبراز الاختلالات بغاية تجاوزها إلى عالم سليم، تريد الانتقال من عالم معتل إلى عالم سوي يعيش فيه الإنسان بكرامة. يوظف السارد لغته السردية في تقديم شخصيات مرتبطة بالواقع في قصص ذات حبكة سردية وحوارات عميقة ضمن فضاء حكائي واسع الدلالة. يوفر القاص لقصصه أدوات اتصال مع المتلقي بلغة بسيطة ذات عمق. تسمح له بالفهم والتفاعل البناء. وقد كتب قصص مجموعته بلغة عربية سلسة، إلا أنها تستدعي التركيز لفك شيفرة الكلمات التي تم اختيارها بعناية. عالج في مجموعته مواضيع واقعية تارة؛ كالخيانة والجشع والسرقة والاحتيال؛ كما هام بأفكاره في عوالم خيالية نأى بها عن الواقع الاجتماعي طورا آخر؛ ليرسم بقلمه لوحات قصصية تنتفض في وجه الأقنعة المزيفة التي تزين المجتمع؛ ليري المرآة الحقيقية له؛ جعلها مرايا متكسرة، هي مرايا مبعثرة، ترك للقارئ لم شملها عله يجمع ثناياها؛ دون أن تجرحه حوافها؛ كما جاء في تقديمه وهو يخاطب قارئه. يقول عن الخيانة في قصة تحمل العنوان ذاته: ترك أحد الركاب وليدا ملففا بإزار داخل سيارته… بحسن نية أخذه للمنزل لتربيته، استنكرت الزوجة الأمر، فقد يكون طفله من امرأة أخرى. طالبته بالتحاليل لإبعاد الشبهة… أسفرت النتيجة عن عقم الزوج، بالرغم من أن له ثلاثة أطفال من زوجته. وتحضر الخيانة؛ خيانة الأمانة، وتشويه الصدق في قصة “تواطؤ”، يقول السارد: كل يوم يذوق مرارة اختفاء حمل من قطيعه… يثق بشراسة كلبه ووفائه، لقد رباه مذ كان جروا. لم ينم ليلته بعد أن أخذته غصة مريرة، حينما رأى كلبه يسوق حملا من القطيع إلى ربوة قريبة ليتقاسمه مع ذئب منتظر. وفي باب نقده للفكر الذكوري، نجد نصين اثنين، يتحدثان عن صورة المرأة في ذهن الرجل الشرقي؛ الأول: رجل شرقي حدثته برغبة محمومة عن طموحاتها، عن فكرها وآمالها، عن الريشة التي تود أن ترسم بها لوحة عالم جديد، عن دفاعها عن قضايا المرأة وإبراز مكانتها… بابتسامة ساخرة، أجابها كم كان معجبا بجمال عينيها، وسحر أنوثتها. فما كان همه الوقوف إلى جانبها لتحقيق طموحاتها، والتعبير عن أفكارها، بل كان همه مصوبا تجاه جمالها وسحر أنوثتتها؛ فهو لا يرى فيها سوى الأنثى ذات الجسد الغاوي، وما فكر بالمطلق أنها كائن له حرمته وطوحه وتطلعاته؛ وهو ما سيطرحه النص الموالي. والثاني: أنباء ردد الابن: أبي هل رأيت الخبر على الشاشة؟ ما كل هذا الخراب: اغتصاب، اغتيال، تدمير، قنابل، ضحايا، معطوبين، دماء… كان الأب يهمس في خلده: ما أفتن شفاه تلك المذيعة. الأب، في هذا النص، متصاب، مشغول بالشبق، وغير مهتم بسؤال ابنه، وما احترم مقام الأبوة، ولا بمقام انشغالات الابن بالرد عليها عن طريق تجسير الحوار بينهما. همه كله منصب على الجسد؛ جسد المذيعة، ضاربا عرض الحائط بضرورة الرد على حيرة ابنه، ومد حبل التواصل بينهما. كما يتناول مسألة الاستغلال، والرغبة في تطويع العمال وإذلالهم، كما في قصة “همة مجهضة” التي يقول فيها: حرثوا الأرض بكد منقطع النظير… تصببت جباههم عرقا، تصفدت عنها بلورات مائية، سقت الأرض حولهم… حضر مالك الأرض، دهس جهدهم باستهزاء… ذكرهم أن ظهورهم لا زالت مستقيمة.. لم يكن هم المجموعة تبئير السلبيات، ورصد الاختلالات والوقوف عندها، وإنما سعت إلى ترسيخ مبادئ وقيم سامية وجميلة من مثل العفو عند المقدرة وتجنب الانتقام لأنه سبب في الكثير من الكوارث كما في قصة “عفو” التي يقول فيها: عاد بعد أن دفن ولده الوحيد كئيبا حائرا… عانق ملابسه، وعلا نواحه… توقدت نار الثأر في فؤاده… وإذا بورقة مدسوسة في جيبه، رسالة قديمة: إياك أن تنتقم، تجاهل دون تفكير جاءت النصوص جميعها مرسومة في وسط الصفحة محاطة بالبياض من كل الجهات، مقيمة حوارا بين الصمت والكلام، بين البياض والسواد، علما أن البياض كان هو الغالب، بيد أن النص قد ينمو بالقراءات ليحتل المكان بصوته التأويلي، وأبعاده الدلالية. لكن البياض ليس صمتا بل هو لغة صامتة ينطقها القارئ الفطن، ويمكن أن يكون السواد كلاما صامتا، أي أنه لا يقول كل ما يريده، بل يصمت عن الكثير من خلال ما يخترقه من بياض ويعج به من فجوات تدعو القارئ إلى ملئها أو إعادة الصوت لها. هناك إذا، حوار خلاق بين الصمت والكلام، وفي كثير من الأحيان يكون الصمت كلاما معبرا، ويكون الكلام صمتا دالا. إن اختيار القاص للقصة القصيرة جدا هو اختيار لقواعدها البانية ومنها التركيز الشديد، والتقتير القوي، والتكثيف المعبر عن الدلالة بأقل عدد من الكلمات. فالقصة القصيرة جدا، جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر؛ إلى ما هو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي. ومن أهم العناصر التي تجعل القصص تنتسب إلى القص الوجيز وجود الحكاية، إذ لولاها لكانت مجرد خواطر، أو بوح. لقد أدركت أن انتسابها ينبغي أن يكون باعتماد الحكاية لكون القصة القصيرة جدا هي في البداية قصة، تتضمن حكاية. وسأقف عند ملمحين اثنين، برزا بشكل لافت، هما: المفارقة والقفلة المفاجئة، دون أن يعني ذلك ضعف باقي المكونات، بل بالعكس، هي رغبة لتلمس اشتغال هاتين التقنيتين تاركين الباقي لقراء آخرين. مع الإشارة إلى ملمح استدعاء التراث كما تم توظيفه في المرآة الخامسة “من وحي التراث”. المفارقة: هي شكل من أشكال القول يكون المعنى المقصود منه عكس المعنى الذي تعبر عنه الكلمات المستخدمة، ويأخذ – عادة – شكل السخرية حيث تستخدم تعبيرات المدح، وهي تحمل في باطنها الذم والهجاء. كما أنها نتاج متناقض لأحداث. وتوظف للتخفي تحت مظهر مخادع أو الادعاء والتظاهر، هى كلام يبدو على غير مقصده الحقيقي،أو أّنها كلام يستخلص منه المعنى الثاني الخفى من المعنى الأول السطحي، إذن المفارقة لعبة لغوية ماهرة وذكية بين طرفين: صانع المفارقة وقارئها، على نحو يقدم فيه صانع المفارقة الّنص بطريقة تستثير القارئ، وتدعوه إلى رفضه بمعناه الحرفي، لصالح المعنى الخفي، الذي غالبا ما يكون المعنى الضد. وهو في أثناء ذلك يجعل الّلغة يرتطم بعضها ببعض، بحيث لا يهدأ للقارئ بال إ لا بعد أن يصل إلى المعنى الذي يرتضيه ليستقر عنده،فالمفارقة إًذا "لغة اتصال سري بين الكاتب والقارئ أو بين المرسل والمستقبل. ففي نص “طريدة” تحضر المفارقة من خلال التعارض بين الطريدة كأنثى من خلال مجموعة من المؤشرات التي رسمت في ذهن المتلقي، وبين الورقة الزرقاء كنهاية ساخرة ومخيبة للتوقع، إنها مفارقة بين المتصور والمرجو وبين الحاضر النصي كما أراده السارد الذي يقول: لمحها صباحا يسار طريقه، أدهشه جمالها، فرك عينيه ليستوعب الموقف. حث الخطا نحوها، حاول اصطيادها، هربت منه، لهث وراءها، تجنبته حافلة مسرعة. على الطرف الآخر اقتنصها شاب متيقظ، وحده من حظي بدفئها… تلك الفئة الورقية الزرقاء 200 درهم. وفي قصة “رسائل العشق” تحضر المفارقة بين قول الكاتب وبين فعله؛ فالرجل يكتب عن الحب ما يؤثر في نفوس قرائه الذين يسارعون إلى الاستفادة منه في مكاتبة محبوباتهم بينما واقعه يخلو من أنفاس الحب إذ مات عازبا، يقول السارد: ذلك الكاتب الأنيق الذي أسبغ علينا من قطرات مداده العاطفي، ودونها في كتب عديدة، جعلنا نرسل سطوره الرومانسية المفعمة بمشاعر الحب والود على لساننا لمحبوباتنا. سرعان ما أعلنت وسائل الإعلام عن وفاته عازبا البارحة عن سن الخمسين. أما نص “وصية” فتأتي المفارقة من خلال معاني الفعل المتضادة لفعل الفتح؛ أي من خلال التضاد بين لا تفعل وأفعل، بين منع الفتح وإباحته، فالتحذير في الصغر لم ينبت مراده في الكبر إذ تحقق عكسه، فكانت الكارثة المتخوف منها. لو عملت الأم على تربية ابنتها تربية متفتحة وعقلانية لما كان مصيرها البغاء، لكن التشدد والعزلة أديا إلى النتيجة غير المرغوب فيها تقول الساردة على لسانها: عندما كنت صغيرة، كانت أمي تتركني وحيدة بالبيت، وتحذرني أن لا أفتح الباب أبدا لأي كان. الآن بعد أن كبرت، وامتهنت البغاء صرت أفتحه كثيرا. القفلة: ترتبط القفلة بالمفارقة في هذه المجموعة ارتباطا قويا، فالثانية تقود إلى الأولى بيسر وتحمل كثيرا من المراوغة، إذ ينتهي النص بغير المتوقع، فتخييب أفق الانتظار غاية فنية تهدف إلى جعل القارئ محترسا، وحين بلوغه النهاية عليه أن يعاود القراءة لإعادة بناء القصة بعد أن أدرك سيره المخالف لمقصدية القصة. وإذ تعبر القصص السابقة عن هذا المنحى، فإننا نعثر على نصوص أخرى قامت بالدور نفسه، على اعتبار أن القفلة المخيبة لأفق الانتظار تعد من أركان المجموعة ككل. من ذلك مثلا، قصة “بائع خضار”، وإن كان العنوان يفضح القصة ويمنع القارئ من التلذذ بالنهاية، يقول السارد: تحقق حلمه؛ سيصير أستاذا بعد سنوات طويلة من المعاناة في الأسواق. همة؛ نشاط؛ حيوية؛ كل الظروف مواتية. إنها أول حصة دراسية. الجو ملائم والمؤسسة جميلة، وتلاميذ يبدو عليهم الذكاء، وإدارة محترمة. شوهد بعد شهر في أحد الأسواق الأسبوعية يبيع الخضر. كما تحضر القفلة المراوغة في قصة “احتراس” التي يقول فيها: يجذبه بريق عينيها الزرقاوين، ونعومة همسها، وظاهر لطفها… لكن، كلما حاول الدنو منها، تذكر تلك القطة الأليفة التي ندبت جسده بخربشاتها. فالقارئ لن يدرك أن الحديث عن القطة إلا في النهاية، فقد انسحب ذهنه وانصرف إلى المرأة لمجموع الصفات الموحية بذلك، والموجودة حتى لدى القطط، فيخيب توقعه، ويعاود القراءة من جديد ليظفر بالدلالة من وراء هذا التحايل الفني والجمالي. مجموعة “مرايا متكسرة” كتبت بعناية ودراية لخصائص القص الوجيز بلغة بسيطة لكنها عميقة وماكرة خاصة في قفلها المراوغة؛ قصص المجموعة مشبعة بالهم الاجتماعي والثقافي والسياسي، تروم النقد من أجل الإصلاح والتجاوز، تروم بناء عالم بديل يعيش فيه الإنسان بكرامة من دون استغلال أو خيانة أو غدر…