خرج إبليس صاغراً ذليلاً من الجنة بعدما استكبر عن أمر الله تعالى وأبى أن يسجد مع الملائكة لآدم بأمر الله وحكمه العادل، ثم عاد إلى ربه يطلب منه أن يبقيه حياً إلى يوم القيامة وهذه أيضاً جهلة أخرى من جهالته الخبيثة، سأل ربه ما قد علم أنه لا سبيل لأحد من خلق الله إليه وذلك أنه سأله النظرة إلى قيام الساعة وذلك هو يوم يبعث فيه الخلق، ولو أُعطي ما سأل من النظرة كان قد أعطي الخلود، وبقاء لا فناء معه، وذلك أنه لا موت بعد البعث. [آدم عليه السلام بين اليهودية والنصرانية والإسلام، ص69]. وجاء إنظار إبليس في القرآن الكريم على النحو التالي: في سورة الأعراف قال تعالى: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾ [الأعراف:15،14]. وفي سورة الحجر قال تعالى: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر:36- 38]. وفي سورة الإسراء قال تعالى: ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 62]. وفي سورة ص قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [ص:81،80]. ومن خلال الآيات السابقة، نجد أن إبليس قد طلب من ربه أن ينظره إلى يوم الدين، فكانت أقواله على النحو التالي: ﴿قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ ﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ ومن خلال ما سبق نجد أن قوله: ﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ لفظ واحد تكرر ثلاث مرات لفظاً ومعنى، أما الصورة الرابعة فجاءت على صورة مشابهة في المعنى، مختلفة في اللفظ، وهذا التصوير الرباني لموقف إبليس يكشف لنا مدى اللهفة والحرص على أن يتحقق لإبليس ما طلب من الله، فقد ضاع منه كل شيء وهذا هو الأمل الأخير الذي تعلق به إبليس، فإن أجيب له ما أراد تنفست نفسه الصعداء ليبث حقده وسمومه على آدم وذريته من بعده. [آدم بين اليهودية والنصرانية والإسلام، العمصي، ص 70]. كان طلب إبليس من الله عزّ وجل دليلاً على خبثه ومكره وخِداعه فهو يريد أن يكون مخلداً في هذا الوجود ولا يموت كما يموت باقي المخلوقين، معنى أن يبقى حياً إلى يوم البعث أن يشهد موت الناس وأن يشهد نفخة الصعق التي يصعق كل الأحياء عند حدوثها ويموتون، وأن يشهد موت الملائكة جميعاً وأن يبقى حياً يتفرج على جميع المخلوقين الموتى وأن يبقى حياً يشهد نفخة البعث ويرى الموتى وهم يبعثون أحياء، وهذا معناه أن لا يموت، بل يكون مخلداً، وأن الله العليم يعلم معنى طلبه:﴿رَبِّ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾، ويعلم هدفه من ذلك الطلب ولكن هذا يتعارض مع سنة الله في المخلوقين من الإنس والجن والملائكة وغيرهم والتي تقرر أنهم لا بُد أن يموتوا كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران:185]. [سيرة آدم، الخالدي، ص90]. وإذا كان جميع الجن والإنس والملائكة سيموتون فإن إبليس لا بُد أن يموت ثم يبعث للحساب ولذلك ردّ الله على طلبه قائلاً: ﴿إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾ [الحجر: 37،38]، أنظره الله وأمهله وأطال عمره وأخّر موته وقبض روحه ليس إلى يوم يبعثون، ولكن ﴿إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾، وهو اليوم الذي حدّد الله فيه موت إبليس، وهو معلوم محدد مقدر لا يتقدم ولا يتأخر وهذا سيكون قبيل قيام الساعة أي أن إبليس لا بد أن يموت قبيل قيام الساعة. [سيرة آدم، الخالدي، مرجع سابق، ص 90]. والمشهور أن يوم النفخة الأولى هو يوم الوقت المعلوم، وفي سورة ص والحجر تم التقيد لطلب إبليس بيوم الوقت المعلوم، كما أن جواب الله لإبليس إخبار عن أمر تحقق قد قضاه الله وقدره من قبل سؤاله وليس إجابة لطلبة إبليس، لأنه أهون على الله من أن يجيب له طلباً، وهذه هي النكتة في العدول على أن يكون الجواب: أنظرتك أو أجبت لك، مما يدل على تكرمه باستجابة طلبه ولكنه أعلمه أن ما سأله أمر حاصل فسؤاله تحصيل حاصل [التحرير والتنوير، ابن عاشور، ص 8/46]. ولكن إلى ﴿يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾، وهذا ابتلاء للإنسان واختبار لحركة عقله وإرادته في الطاعة الإرادية القائمة على وقوفه أمام خياري الخير والشر. [تفسير من وحي القرآن، محمد حسين فضل الله، ص 7/41]. سماع قول الظالم: وفي الآيات التي مر ذكرها: عدل الله سبحانه وتعالى بسماع قول الظالم وطلبه قبل عقابه وهو أعلم سبحانه بظلمه وعناده وسوء قصده، وذلك أن الله لا يُنزل عقوبة بظالم حتى يقيم الحجة عليه، ليقطع عذره عند نفسه قبل غيره ومن ذلك: أن يقيم الحجج المادية على العباد في الآخرة بالبينات عليهم وهو أعلم بهم بالكتابة عليهم وإشهاد الملائكة وإشهاد جوارحهم عليهم ليقطع بذلك أعذارهم وهذا من كمال عدله، فجعله سبحانه على نفسه ولم يجعله عليه أحد، وفي هذه الآية: أنه وجب على السلطان والقاضي أن يسمع قول الظالم والجاني ولو قامت البيّنات عليه من غير إقراره لأن من مقاصد الحكم إقامة العدل في الظالم عند نفسه حتى لا تسوِّل له نفسه وشيطانه أنه ظلم وبغي عليه ولم يسمع قوله أو يدعي أحد من أهله وذويه أن له حجة لم تسمع فيقع ذلك في بعض النفوس الجاهلة، فإن وقع فهو ظلم تسبَّب فيه السلطان بتقصيره بعدم سماع قول الظالم وإزالة شبهته وعناده عند نفسه ولو لم يقرّ بذلك عند غيره. وهذا إذا كان من سماع الظالم المعاند، فإنه من حق المظلوم وصاحب الحق أولى وأوجب. وإذا كانت خصومة بين اثنين أو جماعة وجب على القاضي السماع منهما جميعاً في مجلس واحد، حتى يستوفي الردود بينهما، ولا يجوز له أن يسمع من كل واحد في مجلس، حتى لا يقول في خصمه شيئاً وهو غائب وعنده حجة تدفعه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عليُّ إذا جلس إليك الخصمان فلا تقضي بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول؛ فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء. [أخرجه أحمد، 1/111. وانظر: سنن أبي داود، رقم 3582]. وعن عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحكم. [سنن أبي داود، رقم 3588. وانظر: مسند أحمد، 4/4]. ومن مقاصد الشرع في سماع أطراف الخصومة ولو تبيّن الظالم منهما: إقناع الباغي ببغيه، وقطع حجته عند نفسه حتى تنزل العقوبة بتسليم لا بعناد، فتجد نفسه مدخلاً لاتهام الشريعة وأهلها، فيتحوّل من الذّنب والظلم إلى الكفر، ومن مقاصدها: أن تسد أبواب اتهام الشرعية وأهلها من المنافقين أو من أهل الجهل من قرابة الظالم بأن الظالم لم ينصف وقد ظُلم وبُغي عليه، لأن لديه حجة لم تسمع منه. [التفسير والبيان لأحكام القرآن، الطريفي، 3/1288]. إبليس من أطول المخلوقات عمراً: ردَّ الله تعالى على طلب إبليس قائلاً: ﴿قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾؛ أنظره الله وأمهله وأطال عمره وأخّر موته وقبض روحه ليس إلى يوم يبعثون لكن إلى﴿ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ﴾؛ وهو اليوم الذي حدّد الله فيه موت إبليس، وهو يوم معلوم محدّد مقدّر لا يتقدم ولا يتأخر. وقد تبين من خلال الدراسة للآيات الكريمة إن إبليس من أطول المخلوقات عمراً، فقد خلقه الله قبل آدم (عليه السلام) لفترة لا يعلم مقدراها إلا الله، وشهد أحداث قصة آدم في الجنة وهبط مع آدم إلى الأرض، وعاش حياة البشر على الأرض منذ ساعاتها الأولى وبقي حياً يشهد مرور آلاف وملايين السنين، ويرى تعاقب الأجيال من البشر، ويمارس دوره في الإغواء والإفساد وبعد ذلك سيموت قبيل قيام الساعة. إن معنى هذا أن يعيش إبليس فترات زمنية لا يعلمها إلا الله عز وجل، فهو من أطول المخلوقات عمراً، لكنّه بعد ذلك سيموت، لأن كل مخلوق سيموت. [سيرة آدم، الخالدي، ص91]. ملاحظة هامة: استفاد المقال مادته من كتاب: "قصة بدء الخلق وخلق آدم"، للدكتور علي الصلابي، واستفاد كثيراً من معلوماته من كتاب: "سيرة آدم عليه السلام"، للدكتور صلاح الدين الخالدي. المراجع: -قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2020م. -آدم عليه السلام بين اليهودية والنصرانية والإسلام، أحمد جابر العمصي، رسالة دكتوراه، جامعة أم درمان. -سيرة آدم عليه السلام، صلاح الدين الخالدي، دار الفاروق، عمان، ط1، 1427ه-2016م. -روح المعاني في تفسير القرآن الكريم والسبع المثاني، محمود شكري الألوسي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط1، 1420ه-1999م. -تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، الدارالتونسية للنشر، تونس، ط1، 1984. -تفسير من وحي القرآن، محمد حسنين فضل الله، دار الملوك، بيروت، ط3، 1439ه-2018م. -التفسير والبيان لأحكام القرآن، عبد العزيز بن مرزوق الطريفي، مكتبة دار المنهاج، ط2، 1429ه.