هوية بريس – السبت 05 مارس 2016 يُقال: من عاشَ على شيء ماتَ عليه، وهذا رأيناه على أرض الواقع كثيرًا، بين صفوف المخمورين وأهلِ الفساد؛ فكلُّ يوم تطالِعنا الصُّحف والمجلَّات بأخبار السكارى والزُّناة وأمثالهم، وقد ماتوا على تلك الهيئات، نسأل اللهَ حُسن الخِتام، ولكن لا أَذكر في يوم من الأيَّام أنِّي قرأتُ خبرَ وفاة رجل امتدَّت إليه يدُ المنون وهو منشغل بالعلم، منهمِكٌ في القراءة، غارِق في الكتابة؛ لتكون نهايته نهاية مشرِّفة، تَسرُّ القارئ المُثقَّف، ويشتهي في قرارة نفسه لو رزقه الله مثل هذه الخاتمة الحسنة. وفي التَّاريخ بعض الأخبار لعلماء ماتوا وهم بين يدي هذه النِّعمة؛ نعمة تصنيف الكتب، أو مُطالعتها، أو تلاوة القرآن؛ لذلك ارتأيتُ أن أذكرَ بعض النَّماذج في هذه العُجالة لعلَّها تكون محفِّزًا لي ولإخواني على المضيِّ قُدمًا في سبيل تحقيق هذه الغاية السَّامية، والأعمال بالنِّيات، وبخواتيمها. * ابنُ السُّنِّي: أحمدُ بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أسباط الدينوري، أبو بكر السُّنِّي: محدِّثٌ ثقة، شافعي من تلاميذ النَّسائي، ناهَزَ الثَّمانين، وصنَّفَ كتبًا منها: (عمل اليوم واللَّيلة)؛ مطبوع، مات فجأةً وهو يكتُبُ[1]. * ابن قاضي شُهبة: أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر الأسدي الشهبي الدِّمشقي، تقيُّ الدِّين: فقيه الشَّام في عصره ومؤرِّخها وعالمها، من أهل دمشق، اشتهر بابن قاضي شهبة؛ لأنَّ أبا جده (نجم الدين عمر الأسدي) أقام قاضيًا بشهبة (من قُرى حوران) أربعين سنة، توفيَ في دمشقَ فجأة وهو جالس يصنِّف ويكلِّم ولده سنة 851 ه[2]. * المُعَلِّمي: عبدالرحمن بن يحيى بن عليِّ بن محمد المعلمي العُتْمي: فقيه من العلماء، نِسبته إلى (بني المعلم) من بلاد عُتْمة، باليمن، ولد ونشأ في عتمة، وتردَّد إلى بلاد الحُجَرية (وراء تعز)، وتعلَّم بها، وسافر إلى جيزان (سنة 1329) في إمارة محمد بن علي الإدريسي، بعسير، وتولَّى رئاسةَ القضاة، ولقِّب بشيخ الإسلام، وبعد موت الإدريسي (1341ه) سافر إلى الهند وعمل في دائرة المعارف الحديثة بحيدرآباد، مصححًا كتب الحديث والتاريخ (حوالي سنة 1345ه) زهاء ربع قرن، وعاد إلى مكَّة (1371)، فعُيِّن أمينًا لمكتبة الحرم المكِّي (1372)، إلى أن شُوهد فيها منكبًّا على بعض الكتب وقد فارق الحياة. وقيل: بل توفِّي على سريره، ودفن بمكة، له تصانيف، منها: (طليعة التنكيل – ط)؛ وهو مقدمة كتابه: (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل – ط)؛ في مجلدين، و(الأنوار الكاشفة – ط) في الردِّ على كتاب (أضواء على السنَّة)؛ لمحمود أبي رية، و(محاضرة – ط) في كتب الرجال، وكتاب (العبادة – خ)؛ مجلد كبير، ورسائل في تحقيق بعض المسائل، ما زالت مخطوطة، بينها (ديوان شعره)، وحقَّق كثيرًا من أمَّهات الكتب؛ منها أربع مجلدات من كتاب (الإكمال)؛ لابن ماكولا، وأربع مجلدات من (الأنساب)؛ للسمعاني[3]. * عبدالله بن إبراهيم بن عبدالله الخَبْري، أبو الحكم: عالم بالأدب والفرائض والحساب، من فقهاء الشافعيَّة، نِسبته إلى الخَبْر (بفتح فسكون) من قرى شيراز، بفارس، اشتهر وتوفِّي ببغداد، من كتبه (شرح ديوان الحماسة)، و(شرح ديوان البحتري)، و(شرح ديوان المتنبي)، و(شرح ديوان الشريف الرضي)، ذكره مترجموه في جملة كتبه، أمَّا المخطوط فهو روايته لديوان الشَّريف؛ كما في دار الكتب، و(التلخيص – خ)؛ في الفرائض والحساب، وكان حسَن الخط، وبينما هو قاعد يَكتب في مصحف، وضع القلمَ من يده واستند، وقال: والله إنَّ هذا موت هنيء وطيِّب، ومات![4]. ورحِم الله شيخَ الإسلام ابن تيمية؛ فقد أقبلَ على تلاوة القرآن، والعبادة في السِّجن، بعدما أخرجوا ما عنده من الكتب والأوراق في آخر أيَّامه، فما زال يَتلو ويَذكر اللهَ ويتهجَّد إلى أن أتاه اليقين. قال عنه الحافظ ابن عبدالهادي: وختَم القرآنَ مدَّة إقامته بالقلعة ثمانين أو إحدى وثمانين ختمةً، انتهى في آخر ختمة إلى آخر سورة القمر: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر:54،55]، ثمَّ كمِّلَت عليه بعد وفاته وهو مسجًّى. كان رحمه الله كلَّ يوم يقرأ ثلاثةَ أجزاء، يختم في عشرة أيام؛ هكذا أخبرني أخوه زين الدِّين[5]. قال ربيع السملالي: بَخٍ بخٍ، فهذه هي الخاتمة الحَسَنة التي تُنفق في سبيلها الأوقات مع كتاب الله الخالد؛ طمعًا في خاتمة مباركة بين يدَي عظمته. سبحان الله! كان العلم يَجري منهم مجرى الدَّم، يذهلون عن كلِّ شيء وهم يَكتبون أو يقرؤون أو يطالعون، وفي كتب التَّاريخ والسِّيَر الكثير الكثير من هذه الأخبار، التي يَكاد الواحد فينا يَستبعدها، ولا يصدِّقها؛ لفتور الهِمم، وموتِ العزيمة، والانشغال بالتَّافه من الأمور…، وهذا خبرٌ ذكره القاضي عياض في ترتيب المدارك على سبيل التَّمثيل، واللهِ كأنَّه الخيال، لله درُّهم: كانت لمحمد بن سحنون سُرِّيَّة -أي: أمَةٌ مملوكة- يقال لها: أمُّ مُدام، فكان عندها يومًا، وقد شُغل في تأليف كتابٍ إلى الليل، فحَضر الطعامُ، فاستأذنَته ليأكل فقال لها: أنا مشغولٌ الساعة. فلمَّا طال عليها، جعلَت تُلقمُه الطعامَ حتى أتَت عليه، وتمادى هو على ما هو فيه، إلى أن أُذِّن لصلاة الصبح، فقال: شُغِلنا عنكِ الليلةَ يا أمَّ مُدام، هاتِ ما عندكِ، فقالت: قد والله يا سيِّدي أَلقمتُه لك، فقال لها: ما شَعَرتُ بذلك![6]. وشتَّان بين هؤلاء الأعلام الصَّالحين، وبين هذا المدَّعي الذي ذَكَره ابن الجوزي في صيد الخاطر بقوله: وخطرَ لبعض الفُصحاء أنَّه يَقدر أن يقول مثل القُرآن، فصعد إلى غُرفة، فانفرد فيها، وقال: أمهلوني ثلاثًا، فصعدوا إليه بعد الثَّلاث، فوجدوه ويده قد يبِست على القلم، وهو ميَّت[7]. ومن لَطيف ما يحضرني في هذا المقام ما ذكره ابن القيِّم رحمه الله في كتابه الدَّاء والدَّواء قائلًا: وقيل لآخر: قل: لا إله إلَّا الله، فجعل يقول: أين الطَّريقُ إلى حمَّام منجاب؟ وهذا الكلام له قصة؛ وذلك أنَّ رجلًا كان واقفًا بإزاء داره، وكان بابها يُشْبه بابَ هذا الحمَّام، فمرَّت به جارية لها مَنظر، فقالت: أين الطريق إلى حمَّام منجاب؟ فقال: هذا حمَّام منجاب، فدخلَت الدار، ودخل وراءها، فلمَّا رأَت نفسها في داره وعلمَت أنَّه قد خدعَها أظهرَت له البشرى والفَرح باجتماعها معه، وقالت له: يَصلح أن يكون معنا ما يَطيب به عيشنا وتقرُّ به عيوننا، فقال لها: السَّاعةَ آتيكِ بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وترَكها في الدار ولم يغلِقها، فأخذ ما يصلح ورجَع، فوجدها قد خرجَت وذهبَت، ولم تَخُنه في شيء، فهام الرَّجل وأكثر الذِّكر لها، وجعل يَمشي في الطُّرق والأزقَّة ويقول: يا ربَّ قائلةٍ يومًا، وقد تعبَت:♦♦♦كيف الطَّريق إلى حمَّام منجابِ؟ فبينما هو يومًا يقول ذلك وإذا بجاريةٍ أجابَته من طاقٍ: هلَّا جعلتَ سريعًا إذ ظفرت بها♦♦♦حرزًا على الدَّار أو قفلًا على البابِ فازداد هيمانه واشتدَّ، ولم يزل على ذلك حتى كان هذا البيت آخر كلامه في الدنيا[8]. نسأل اللهَ السَّلامة والعافية. و قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ :سمعتُ أبا عبد الله محمد بن يعقوب، سمعتُ أحمد بن سَلَمة -رفيقَ مسلمٍ في الرحلةِ- يقول: عُقدَ لأبي الحُسين مسلم بن الحجاج مجلسٌ للمذاكرة، فذُكرَ له حديثٌ لم يَعرفه، فانصرف إلى منزلِهِ وأوقَدَ السِّراج، وقال لمن في الدار: لا يَدخُلَنَّ أحدٌ منكم هذا البيت. فقيل له: أُهديَت لنا سلَّةٌ فيها تمر، فقال: قدِّموها إليَّ، فقدَّموها إليه، فكان يَطلُبُ الحديثَ ويأخذُ تمرةً تمرةً يمضغُها، فأصبَحَ وقد فَنيَ التمرُ! ووجَدَ الحديثَ. قال الحاكم: زادني الثقةُ من أصحابنا أنه منها مَرِضَ ومات![9] فائدتان: * ذكر ابنُ الوردي في تاريخه في حوادث سنة 256 ه أنَّ أبا عثمان الجاحظ الأديب المشهور وقعَت عليه مجلَّداته المصفوفة وهو عليل فقتلَته في المُحرَّم منها[10]. * وكان سبَب موت الخليل بن أحمد الفراهيدي أنَّهُ قال: أُريدُ أن أقرِّب نوعًا من الحِساب، تمضي الجاريةُ إلى البيَّاع فلا يُمكنُه ظلمها، ودخل المسجد وهو يُعمِل فكرَهُ في ذلك، فصدمَته ساريةٌ وهو غافلٌ عنها بفكرِه! فانقلَبَ على ظهره، فكانت سَبَبَ موته رحمه الله تعالى[11]. نسأل اللهَ عزَّ وجلَّ حسنَ الختام، ونسأله يقظةً تامَّة تصرف عنَّا رقاد الغفلات، وعملًا صالحًا نأمن معه من النَّدم يومَ الانتقال إلى الدَّار الآخرة. [1] "الأعلام"، ج 1، ص (209). [2] "الأعلام"، ج 2، ص (61). [3] "الأعلام"، ج 3، ص (342). [4] "الأعلام"، ج 4، ص (63). [5] العقود الدرية، ص (368). [6] نقلا عن "صفحات من صبر العلماء"؛ للشيخ أبي غُدَّة، ص (123)، ط دار البشائر الإسلامية. [7] "صيد الخاطر"، ص (336)، طبعة اليمامة للطباعة والنَّشر والتَّوزيع. [8] "الدَّاء والدَّواء"، ص (194-195). [9] صفحات من صبر العلماء ص:125 [10] "تاريخ ابن الوردي"، ج 1، ص (225)، طبعة دار الكتب العلمية. [11] "صفحات من صبر العلماء"، ص (166).