الفقهاء والصوفية: لقاءات وشهادات (1) بقلم: عبد الكريم السكاكي
الفهرس عمر بن عبد العزيز الإمام مالك الإمام الشافعي الحارث المحاسبي
تعج كتب التاريخ والتراجم والسلوك بالحديث عن لقاءات كثيرة جمعت بين رجال العلم والفقه في الدين، والصوفية. وعن قصص رجال سعوا إلى مجالس المشايخ العارفين بالله التماسا للصحبة والتلمذة واستمداد أنوار الهداية والإحسان. و حتى من فاته منهم حظه من ذلك اللقاء ترك اعترافا وشهادة لمن بعده حول أهمية الصحبة للأولياء والإشادة بمقامهم وضرورة إسلاس القياد لهم لمن يطلب الإحسان. عمر بن عبد العزيز أجلى مثال لمن انتفع بأهل الصلاح فنفحته صحبتهم فرفعته إلى مصاف الرجال أهل الإحسان، "غذي بالملك ونشأ فيه، لا يعرف إلا وهو تعصف ريحه فتوجد رائحته في المكان الذي يمر فيه، ويمشي مشية تسمّى العمرية فكان الجواري يتعلمنها من حسنها وتبختره فيها... وكان يسبل إزاره حتى ربما دخلت نعله فيه فلا يعرج عليها وتنقطع نعله فلا يعرّج عليه وربما لحقه بها المملوك فيعنفه.." [1]. كيف انقلب الشاب المترف عمر المتعالي فأصبح عمر الذي ملأ صداه التاريخ بعدله وإنصافه وتقواه؟ قال ابن عبد الحكم في سيرته له: "كان بين عبد الملك بن أرطأة ورجاء بن حيوة الكندي وبين عمر بن عبد العزيز صداقة وصُحبة في نسُكهم وعبادتهم، وكان رجاء من أهل الأردن وكان من أعبد أهل زمانه وكان مرضيا ذا أناة ووقار... فأراد سليمان (بن عبد الملك) أن يعلم علم عمر وحاله التي هو عليها، فبعث إليه رجاء بن حيوة ليأتي بخبره وطريقته وحاله في سيرته... فقدم رجاء بن حيوة على عمر بن عبد العزيز فلم يألُ عن إلطافه وإكرامه وتقريبه. وأقام عنده أياما فكان كلما أصبح دخل على عمر بعد صلاة الصبح، فيتحدّثان لا يدخل عليهما أحد حتى يخرج رجاء من عنده" [2]. صحبة رجاء على العبادة والنسك جعلته إنسانا آخر أقبسته من مدد الغيب فكان يرى الخضر عليه السلام كرامة من الله له وتقوية لعزمه على المضاء مما هو عليه فيسأله مولاه مزاحم "رأيت معك رجلا آنفا قد وضع يده على عاتقك وهو يسايرك... فقال عمر أوقد رأيته يا مزاحم؟ قال: نعم قال: إني لأحسبك رجلا صالحا، ذلك يا مزاحم الخضر أعلمني أني سألي هذا الأمر وأُعان عليه" [3]. ورجاء هذا كان من خيار التابعين عدّهُ الغزالي من الأبدال، جاءت صحبته له قريبة من عهد حكمه هيأته له، فكانت محضنا تربويا خلصه من رعونات النفس وأمده بطاقة روحية تحرّره من كل ما قد يشدّه إلى دنيا الأهواء فيظلم أو يجور. هناك إذن دعوة من وراء دولة وهذا ما سنعرض نماذجها مرارا في مقالنا هذا،وهو مشروع صاغه وكتب فيه طوال عقود أستاذنا المرشد، هناك صلحاء ببركتهم كان الفتح وجاء على يد رجال أمثال عمر. لا غنى للدولة اليوم إن أرادت أن تقطع رحلتها نحو التقدم وتجاوز عقابيل الماضي ومخلفاته من دعوة ربانية تحتضنها وتقودها لا العكس. الإمام مالك رواية ابن عبد الحكم أخذها الإمام مالك فرواها بدوره لتنتفع بها الأجيال، لم تكن صحبة الأخيار والاقتباس منهم غريبة كعهدنا. وهذا ما انتفع به الإمام مالك نفسه فكان "إذا ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) يتغير لونه وينحني حتى يصعب على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم علي ما ترون ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه ولقد كنت أرى جعفر بن محمد الصادق وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي (صلى الله عليه وسلم) اصفر وما رأيته يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا على طهارة..." [4]. يشير الإمام إلى تشرب المعاني القلبية من الصالحين معاينة ومجالسة، وهل هذا إلا ما عبر عنه الصوفية بالصحبة وحرصوا عليها لفائدتها المرجوة وعنها يقول تلميذ الإمام ابن القاسم: "صحبت مالكا عشرين سنة ثماني عشرة سنة منها في تعليم الأدب وسنتين في تعليم العلم ووددت لو كانت كلها أدبا" . أدب مع الخالق والخلق معا قضى في مدرستهما التلميذ مع أستاذه شطرا من حياته ووسيلة ذلك الصحبة ثم الصحبة ثم الصحبة. الإمام الشافعي كان الشافعي رحمه الله يجلس بين يدي "شيبان الراعي" ذي الزاد القليل في الفقه والقلب العارف جلسة الصبي في المكتب، فقيل له: ""أمثلك يجلس إلى هذا الفتى؟" فيقول: "لقد وُفق هذا الفتى لما أغفلناه"" [5]. ولو عاد الشافعي وسألناه عما وُفق له الفتى الطيب لقال: وُفق لدقائق الآداب الباطنة ورقائق المعاملة القلبية مع الله عز وجل، وهي أكثر ما يغفل عنه الناس. وكان رحمه الله يقول: "صحبت الصوفية فلم أستفد منهم سوى حرفين وفي رواية سوى ثلاث كلمات قولهم: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وقولهم: نفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وقولهم: العدم عصمة" وجد الشافعي خيرا في صحبة الصوفية وقد صحبهم عشر سنين كما يذكر الشعراني رحمه الله، لذا يوصي بالجمع بين الفقه والتصوف شعرا ويقول من ديوان له جمعه الأستاذ عفيفي الزغبي: فقيها وصوفيا فكن ليس واحدا فإني وحق الله إياك أنصح فذلك قاسم لم يذق قلبه تقى وهذا جهول كيف ذو الجهل يصلح مشايخ الصوفية كانوا هم الأولياء الكمل، وحاشا الأمة -على لسان علمائها على مر العصور- أن تجتمع على ضلالة فتزكي الصوفية وتصفهم بالعارفين حتى وجدنا أبا منصور البغدادي المتوفى 429ه في كتابه "الفرق بين الفرق" يدرج ضمن الفرقة الناجية "الزهاد الصوفية الذين أبصروا فأقصروا واختبروا فاعتبروا.." ليختم بعد ذكر شيء من أوصافهم بقوله تعالى: ذلك فضل الله يوتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم .[6]، ومن هؤلاء العلماء الربانيين ممن أثنوا على الصوفية ابن القيم رحمه الله حين عقب على كلام الشافعي فقال في المدارج: "ويكفي في هذا ثناء الشافعي على طائفة هذا قدر كلماتهم" . بعض العلماء يتعلمون من المشايخ و آخرون يعترفون بفضلهم وعلو قدرهم، وعن هذا أتحدث في هذا المقال إن شاء الله مستعرضا ما وسعني الجهد وفي حدود المراجع المتاحة أخبار رجالات الإسلام ممن تعلموا واعترفوا بفضل المشايخ الأولياء وامتثلوا أمرهم. الحارث المحاسبي الحارث المحاسبي واحد من هؤلاء عده أبو نعيم في الحلية من الأولياء (ج10/74) كان محدثا فقيها متكلما أفادته صحبة القوم ورفعته مقاما عاليا، وقد أدلى رحمه الله بشهادة في غاية النفاسة، قال: "فلم أزل برهة من عمري أنظر اختلاف الأمة وألتمس المنهاج الواضح... ونظرت في مذاهبها وأقاويلها فعقلت ذلك ما قدر لي ورأيت اختلافهم بحرا عميقا غرق فيه الأكثرون وسلم فيه عصابة قليلة...فرأيت زمانا مستصعبا قد تبدلت فيه شرائع الإيمان وانتقضت فيه عرى الإسلام.. فالضمائر والأحوال في دهرنا بخلاف أحوال السلف وضمائرهم... على أن الله لم يُخل دنياه من غرباء على عصرهم ينتمون إلى فرقة الرسول الناجية... وقد قيض لي الرؤوف بعباده قوما وجدت فيهم دلائل التقوى وأعلام الورع وإيثار الآخرة على الدنيا، فهم أئمة الهدى، فقهاء في دين الله، تاركين للتعمق والإغلاء، مبغضين للجدل والمراء، فأصبحت راغبا في مذاهبهم مقتبسا من فوائدهم، ففتح الله علي علما اتضح لي برهانه، فاعتقدته في سريرتي وانطويت عليه بضميري وجعلته أساس ديني" [7]. شبيه أمر المحاسبي بالغزالي ما أفادته العلوم وخلصته من حيرته فلاذ بالقوم تلمذة وانقيادا ففاز رحمه الله حتى كان كما قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: "أحد رجال الحقيقة، ممن اجتمع له علم الظاهر والباطن" [8]. وصف حاله قائلا: "لو أن نصف الخلق تقربوا مني ما وجدت بهم أنسا ولو أن النصف الآخر نأى عني ما استوحشت لبعدهم" [9]. وهذا رفيقه أحمد ابن حنبل إمام مذهبه الذي كان يعظمه على الرغم من خلافه معه لاشتغاله بالكلام ردا على المجادلين في العقيدة ويبكي لكلامه وذكره كما حكى السبكي في الطبقات، هذا الإمام على جلالة قدره يتواضع للشيخ الصوفي أبي حمزة البغدادي ويسأله في مجلسه ويقول: "ما تقول في هذا يا صوفي" ، قال أبو يعلى الحنبلي الذي أورد الخبر: "أراد والله أعلم بسؤاله إن أصاب أقره عليه، وإن أخطأ: بينه لي" [10]. وفي هذا كما قال أحدهم غاية المنقبة للقوم، نذكر بهذا المثال فاقدي الذاكرة من حنابلتنا المعاصرين كيف كان إمامهم الأعظم يتواضع لأهل الله ولا يعترض كما يعترضون، ثم نمضي لننظر في تاريخنا نماذج من العلماء سلكوا سلوك الإمام في تعظيم الأولياء والتسليم لهم. فعلى سنة الإمام أحمد مضى أبو العباس بن سريج هو الآخر ليستطلع خبر الجنيد المعروف بسيد الطائفة لعلو مكانته ليجالسه وقد تحدث عن بركة مجالسته فكان "إذا أفحم مناظريه قال: هذا من بركة مجالسة الجنيد" [11]. يرى الفقيه ابن سريج إذن عود بركة الجنيد عليه ولمسها في نفسه فهل قال المريدون أكثر من هذا حين يتحدثون عن بركة شيوخهم ؟ عن هذه البركة أو ما يحصل من خير بمجالسة أهل الصلاح يقول البخاري متحدثا عن فضل الله على أبيه: "سمع أبي من مالك بن أنس ورأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك بكلتي يديه" [12]. هل أخطأ المريدون وهم يتطارحون على أبواب العارفين يرغبون في مصافحتهم؟ هل هناك شيء وراء العلم سماعا وأخذا عن أهله حتى يتباهى البخاري برؤية أبيه لحماد ومصافحته لابن المبارك وهما من خيار الصالحين وأجلة السلف؟ نعم هناك نور التقوى والورع ونور الإيمان، هذا ما تشير إليه عبارة السبكي قال: "كان والده (والد البخاري) أبو الحسن إسماعيل بن إبراهيم من العلماء الورعين سمع من مالك بن أنس ورأى حماد بن زيد وصافح ابن المبارك" [13]. هذا النور الذي يودعه الله عز وجل في قلوب من أحبهم كان أجلى ما يكون في آل البيت وراثة نبوية به يهدون وبه يصلحون أحوالا ويرفعون همما، ولطالما جلس الإمام الشافعي تلميذا في مجلس السيدة نفيسة العابدة من آل البيت رجاء بركتها ودعائها كما يذكر صاحب وفيات الأعيان، وانظر تاريخ إدريس الأول وأثره في نشر الإسلام وتوحيد القبائل وتأسيس دولة عظيمة بالمغرب الأقصى في "روض القرطاس" لابن أبي زرع مثلا، تجد مصداق ما أقول. ولنرجع إلى أخبار العلماء فنجد المحدث الحافظ مؤدب الأمراء صاحب التصانيف الكثيرة الممدوح من علماء ومؤرخي المسلمين أبا بكر القرشي المعروف بابن أبي الدنيا المتوفى 281ه شغوفا بالرقائق محبا معظما للأولياء معتنيا بقصصهم وأخبارهم، فكتب رسالة "الأولياء" قال محققها: "فالتآليف والمجلدات هي لاشك للخاصة من أهل العلم والأدب، وأما العامة فهي لا تدنو من هذه اللجج المتلاطمة... لذا فقد كتب لهم مثل هذه الرسائل لتهذيب أخلاقهم وتشذيب مسارهم لما فيها من الترغيب والترهيب والتحبب والتأنيب" [14]. لم يكن بالأمر الغريب في ذلك الزمن، أن يتحدث العالم المحدث إلى العامة عن فضل الأولياء تحذيرا من معاداتهم، لأن في ذلك مجلبة لغضب الله إذ هم خواص الله من خلقه كما ورد في بعض أحاديث الرسالة. لم يجد غضاضة في ذلك وهو الحافظ العارف بحديث من لا ينطق عن الهوى كما يجد بعض محدثي زماننا ممن لم يتأدبوا بولي مرشد ولا حدثتهم أنفسهم بذلك، بل يجد فيها التوجيه لقلوب العامة إليهم بالمحبة والتعظيم والاقتداء بأخلاقهم. وفي الرسالة ما فيها من ذكر للزهاد والأبدال وكراماتهم على نحو ما يذكر الصوفية قد يستشكلها البعض، وما هي إلا الولاية ولوائحها وثمراتها يهيج بها الكاتب قلوب القراء العامة "لتهذيب أخلاقهم وتشذيب مسارهم" الأولياء مدرسة تربوية يعرضهم المحدث المعظم لشأنهم لأنهم الصورة المثلى للسلوك الإسلامي، ولا غرو فقد كان الزمن زمن الصلحاء وصحبتهم كانت ترياقا مجربا. وشيخه محمد بن الحسين البرجلاني المتوفى 238ه قد ألف مؤلفا بعنوان: "الصحبة" وهو من أئمة الزهد والرقائق. كان الإمام أحمد يرشد سائله عن الزهد ويقول: "عليك بمحمد بن الحسين" يقصد البرجلاني[15]. الإمام أحمد يحيل إلى البرجلاني في أمور الزهد والرقائق. والبرجلاني يكتب للمسلمين عن فضل الصحبة ودورها. ولا يحتاج اللبيب للتذكير بأن صحبة أهل الولاية والصلاح هي معقد الرجاء في تغيير النفوس. وسمهم بما شئت من الأسماء صوفية أو صلحاء أو أولياء. لا يضير ذلك ولا يغير من الحقيقة شروى نقير. كما نجد أبا زيد القيرواني المتوفى عام 386ه، يتتلمذ على الصوفي الكبير سيدي دراس الفاسي المتوفى 357ه ويكتب عن العارفين وكرامات الأولياء (مدخل إلى تاريخ العلوم بالمغرب لإبراهيم حركات ج2 ص257-277).ونجد من مناقب سحنون الفقيه المشهور صاحب المدونة أنه كان من صوفية الرباطات كما هو عند أبي العرب، بل شيخ مدرسة للعباد والزهاد (مدخل إلى تاريخ العلوم لإبراهيم حركات ج2 ص239)، كما نجد الحاكم صاحب المستدرك على الصحيحين المتوفى عام 405ه "صحب في التصوف أبا عمرو بن محمد بن جعفر الخلدي وأبا عثمان المغربي وجماعة" [16]. ونجد أبا حامد الإسفراييني الشافعي المذهب يستقدم الصوفي الكبير أبا عبد الرحمان السلمي إلى بغداد لتدريس حقائق التفسير (معلمة التصوف الإسلامي لعبد العزيز بنعبد الله ج3 ص153) وما ذاك إلا لينتفع به الناس. مراجع :
[1] سيرة عمر بن عبد العزيز لابن عبد الحكم. ص22. [2] نفسه، ص 118. [3] نفسه، ص28. [4] الشفا للقاضي عياض باب تعظيمه (صلى الله عليه وسلم) بعد موته. [5] الإحياء للغزالي ج1. [6] ص 275. [7] ذكره عابد الجابري في "تكوين العقل العربي" ص272 نقلا عن "الوصايا أو النصائح" للمحاسبي. [8] ج 2/57. [9] الحلية لأبي نعيم، ج10، ص74. [10] طبقات الحنابلة، ج1، ص268. [11] شذرات الذهب لابن العماد، ج1، ص228. [12] سير أعلام النبلاء، ج 12، ص 392. [13] طبقات الشافعية، ج2، ص213. [14] ص4 من تحقيق رسالة الأولياء لمحمد السعيد زغلول. [15] انظر مقدمة الدكتور عامر حسن صبري لكتاب "الكرم والجود وسخاء النفوس" للبرجلاني ص14-16. [16] طبقات الشافعية، ج4، ص157