هوية بريس- د. سفيان أبوزيد عن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: « يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، وإن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء». رواه البخاري جاء النداء للشباب لأنها فترة الرغبة في الاتصال بالجنس الآخر، ومرحلة التهاب الشهوة واشتعالها، ولحظة التفكير في الاستقلال والانتقال من الاضطراب إلى الاستقرار.. جاء النداء للشباب لأنهم الجيل الصاعد، والجيل القائد، والجيل الرائد، هم المخزون، وفيهم الأمل، وعليهم العمدة في الانطلاق في دروب الحماية والصيانة والتجديد والتجويد، والصلاح والإصلاح.. جاء النداء للشباب لأنهم القوة الفاعلة، والصوت المؤثر، والنشاط المفعم، والطاقة المتوقدة، التي ينبغي الحفاظ عليها وحسن تدبيرها وتوجيهها.. جاء النداء للشباب، لأن قضية الزواج ليست قضية فردية، أو قضية شهوة، أو قضية رغبة أو ميول، أو هو مسألة تعتريها الأحكام الخمسة، بل هو قضية مجتمعية، وقضية إنسانية، تتجاوز الفرد أو الرغبة أو الميول، او المزاجية والانتقاء، هي قضية ينبغي أن تفكر فيها الإنسانية، كما تفكر في مأكلها ومشربها وملبسها، وقوتها بطريقة استراتيجية لها أبعاد اجتماعية وتربوية وثقافية واقتصادية وصحية وواقعية ومآلية، هذا في الحقيقة ليس نداء للشباب كشباب زيد وعمرو، وإنما هو نداء للإنسان، الذي لا يمكن إلا أن يمر من هذه المرحلة القدرية القسرية، ما يصلحها وما يلبي حاجاتها، هو نداء للأمة ليس لتزوج الشباب، أو تهتم بتزويج الشباب فحسب، وإنما لترسخ مفهوم الزواج في كيان الشباب، وتكون قضية تزويج وتزوج الشباب، قضية مجتمع وقضية دولة، بل قضية أمة وقضيةَ إنسانيةٍ.. إذن فهذا النداء هو خزان لمعان، وحمال لمفاهيم يمكن تقسيمها إلى قسمين: هو تنبيه، إلى ضرورة الزواج وحاجته الملحة التي لا يمكن إهمالها أو الاستغناء عنها، أو جعلها في مراتب متأخرة من الاهتمامات، أو إيجاد بدائل تعوضها، فهو المصنع الطبيعي والفطري الوحيد للإنسان، ولا يمكن أن ننتج إنسانا خارج إطار الزواج، ومن حق كل إنسان أن يخرج إلى هذا الوجود من خلال علاقة زوجية، ومن الظلم للإنسان أن نحرمه من هذا الحق الذي يتحمل إثمه وجريرته الإنسانية جمعاء، قد يقول دارس للفقه: كيف تقول بأن الزواج قضية إنسانية وهو حكم فقهي يخاطب به المسلمون دون غيرهم؟ الجواب: هنا ينبغي أن نقف عند هذا الأصل وهو مخاطبة الكفار بفروع الشريعة، ونقول: على القول بأن الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة، فهناك أحكام جاءت لمخاطبة الإنسان، لأنها تستمد الروح الإصلاحية التي جاء بها الإسلام، لشؤون الإنسان في هذا العالم، وبالتالي يكون الإسلام فيها مصلحا ومنقذا للبشرية من مفاسد وطامات عدم الالتزام بها، والانصراف عنها، وإهمالها، ويكون المجتمع المسلم قدوة ونموذجا لإظهار منافع ومصالح تلك الأحكام، لذلك خوطب بها بالدرجة الأولى، ومن تلك الأحكام الإصلاحية للبشرية حكم الزواج، وما تعلق به من أحكام ومقاصد،.. وهو كذلك حق ينبه النبي صلى الله عليه وسلم الشباب للمطالبة به، والحرص على بلوغ أسبابه، وتوفير الجو لإقامته، وتعليم معانيه واحكامه، والاستفادة من مصالحه، فهو حق لا ينبغي التنازل عنه، كما لا نتنازل عن مقومات العيش الأخرى، فهو حق أولى من المأكل والمشرب والملبس، لأن هذه تحافظ لنا على النوع، أما الزواج فإنه ينتج لنا النوع، ومن خلاله تستمر البشرية، وهو القناة الوحيدة لذلك، وبالتالي اكتسى هذه الأهمية، وأولي هذا الاهتمام، مما لا ينبغي التفريط فيه او التنازل عنه.. وتلك الضرورة وذلك الحق في المطالبة جاء الأمر به في القرآن ( وأنكحوا الأيامى منكم ) وجاء النهي عن العضل ( فلا تعضلوهن ان ينكحن أزواجهن ) بل جاءت إضافته والوصف به لأزهد الخلق وأطهرهم، لرموز العفاف والزهد وهم رسل الله وأنبياؤه، قال تعالى (ولقد ارسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية) بل كان الزواج طلبة الصالحين وعباد الرحمن فقالوا (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين) واهتمت السيرة النبوية بزواج صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، وذكر زواجه في علم الشمائل، ليعلم بأنه لا تعارض بين الزهد والرقي وبين الزواج وتأسيس الأسرة والميول للجنس الآخر من خلال ذلك، وهذا يؤكد أن الزواج قضية مجتمعية وإنسانية لابد من جعلها في أولى أولويات القضايا.. ورجوعا إلى الحديث: وجاء النداء بيا الدالة على القرب، القرب من الشباب وهمومهم وقضاياهم وأسئلتهم وحاجاتهم وأفكارهم وتصوراتهم وحماسهم، فهو قرب مادي ومعنوي، مادي بدعم كل المشاريع والمؤسسات التي تهتم بشأن الشباب، وبتخصيص الدولة ميزانية مهمة بكل ما يصلح شأن الشباب ونشأتهم وحاضرهم ومستقبلهم، ومعنوي: بترسيخ الاهتمام بقضايا الشباب وبلاغ ذلك والتوعية من اجل ذلك، والتفكير فيه، وإقامة الندوات والمؤتمرات الفاعلة في ذلك.. ويؤكد ذلك القرب لفظ (معشر) وإن دل على العدد عشرة فإنه مستمد من العشرة وهي المداخلة والمخالطة، فهو نداء قريب مخالط معبر على الاهتمام والاعتناء والالتزام.. (من استطاع منكم الباءة فليتزوج) هو شرط استباقي للأمر المأمور به، والمرغب فيه، وهو الزواج (فليتزوج) وهذه الاستطاعة وإن كانت مطلوبة وموجهة للشباب فإن لها حيثيات وروافد تسقيها، وبيئة تنعشها وتقويها وتدعمها، وتصرف عنها كل عجز أو اضطراب أو هزال، هذه الاستطاعة، هرم مبني على أسس ولبنات مطلوب من المجتمع والأمة والإنسانية إيجادها وتفعيلها من جودة تعليم وجودة صحة، وجودة تربية، وتجفيف مستنقعات الرذيلة، وفتح مجالات لتطوير الذات والمهارات وتوسيع سوق العمل والشغل، وتكوين الإرادة والعزم وتحمل المسؤولية لدى الشباب، هذا كله وغيره تبنى عليه تلك الاستطاعة المطلوبة من الشباب، فهي ليست استطاعة فردية أو اختيارية وإنما هي ناتجة عن بناء مجتمعي محكم.. وهذا يؤكد تلك الضرورة الملحة من جهة تكاثف المجتمع والأمة والبشرية لإيجاد عوامل تلك الاستطاعة وبيئتها وأسبابها، وكذلك الحق في المطالبة بهذا الحق من طرف الشباب، في توفير تلكم الأساسات التي تبنى عليها تلك الاستطاعة.. وهناك إشارة مهمة في هذه الشرطية: وهي الحصرية بين الشرط والمشروط، فالقناة الحصرية الوحيدة التي تصرف فيها الباءة وتنفق فيها، هي الزواج، فلا محيد عنه ولا بديل له، وهذه الحصرية تدعو إلى تطهير كل أوكار الفساد والدعارة وكل المزهدات التي قد تزهد الشاب في الزواج أو تبعده عنه، فالطريق الوحيدة للأسرة والبناء هي الزواج.. وتدل هذه الشرطية على الترابط والفورية بين الاستطاعة والزواج، فمن تحقق فيه شرط الاستطاعة، دفع إلى الزواج ورغب فيه وهدي له، وقرب له وجر له، وأغري به، وأميل له، وأقنع به، بشتى وسائل الدفع والترغيب والهداية والتقريب والجر والإغراء والإمالة والإقناع.. وهنا نأتي إلى الباءة وهي في الأصل المنزل الذي يؤوى إليه ويرجع إليه، وكأن قضية بناء الأسرة والعش وتحمل مسؤولية ذلك هي الأصل، وأن مقام الشاب أو الشابة في بيت أهلهما، مجرد استثناء أو هو إقامة مؤقتة أو تأهيلية لتلك الغاية الأسمى، وفي هذا ترغيب وأي ترغيب في تلك الرابطة وذلك المشروع، وفيه دلالة على الانطلاق من مفهوم الأبدية والاستمرار للزواج وفي الزواج، فهو الأصل الذي ينبغي أن يعاد له، ويفكر من طرف الشاب ومن طرف محيطه ومجتمعه وأمته والبشرية في طريق ذلك الرجوع وسبله ومقوماته..فهو بين الرغبة وعمق التفكير في أبديته.. وأرى أن يبقى معنى الباءة في سعته اللغوية، ليشمل كل ما يساعد ويساهم ويشترط للرجوع إلى المنزل الأصلي وهو منزل الزوجية، من قدرة مالية وجنسية وعاطفية وفكرية وعلمية واجتماعية ومهارية وغير ذلك مما يؤهل إلى ذلك الرجوع، وكل ذلك يحتاج إلى تعليم وتاهيل وتطوير وإعداد واهتمام.. إذن فهي باءة ورجوع وإحكام في التأهيل والإعداد.. (فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج) سؤال: لماذا جاء هذا التعليل هنا، رغم أن الزواج فتح للنظر وإشباع للفرج؟ ولماذا لم يقل ( فإنه له وجاء هنا ) ولم يقل عند الصوم ( فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج)، باعتبار أن الصوم يمنعه من ذلك، وتلك هي مقدمات الفاحشة؟ الجواب عن الأول: تاكيد لموافقة الإسلام في أحكامه وخاصة تشريع النكاح والزواج للفطرة، فلا حرمان في الإسلام، وإنما المقصود هو تصريف تلك الشهوة عبر قنوات فيها صلاح هذا الإنسان فردا وجماعة، فكون الزواج أغض للبصر رغم أنه تفتيح لبعضه، فالمعنى أنه أغض للبصر المفسد والمحرم، والمؤدي إلى مفسدة، وكأنه يريد أن يقول لك: ما تريد أن تنظر إليه في الحرام والفساد، فلك بديل قريب حلال فانظر إليه كما شئت، بل ستكون مأجورا على ذلك النظر، وكذلك الأمر في تحصين الفرج، فالمقصود به تحصينه عن الاتيان الحرام، وإبعاده عنه، بإتيان فيه نفس اللذة والمتعة التي قد تجدها في ذلك الإتيان، غير أنه حلال، بل تؤجر على ذلك الإتيان، لهذا وغيره جاء التعليل بهاتين المصلحتين الفريدتين، وهما مناسبتان للخطاب الموجه للشباب الذي تدعوه قوته وعنفوانه إلى ذلك النظر وتلك المتعة، فيجيء التوجيه إلى ذلك البديل الحلال، الذيه فيه كل المتعة والصلاح والإصلاح والفلاح والثواب، وهو مناسب إلى تنبيه المجتمع والأمة إلى الاهتمام بقضية مساعدة الشباب على غض أبصارهم من جهة التربية والتخليق وتفعيل شعب الإيمان، ومن جهة إزالة كل ما يدفع إلى إطلاق البصر، وهتك الفرج وانفلاته.. والجواب عن السؤال الثاني: جاء التعليل بالوجاء في الصوم، لأنه كما ذكرت أو سيأتي، أن التوجيه إلى الصوم هو حل لحظي استثنائي وليس بديلا عن الزواج، فهو من باب التسكين، والتهديئ حتى تتم الباءة والوصول إلى الباءة.. والوجاء ليس مرغوبا شرعا ولا فطرة، لما جاء من تحريم قطع النسل والإخصاء وغير ذلك من موانع وقواطع الشهوة والحمل، وإنما جاء ذكره من باب آخر الدواء الكي، ومن باب التوقيت حتى تتم الباءة التي يجب أن يساهم فيها الجميع.. (ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) قد يفهم من هذا أن من لم تتوفر فيه مؤهلات تلك الباءة والرجوع للأصل فعليه بالصوم، هذا ما يفيده ظاهر النص، ولكن إذا تأملنا واستصحبنا ونظرنا، سنجد بأن اللجوء إلى هذا المآل وانسداد كل الأبواب والمؤديات إلى تلك الباءة، لا يكون إلا بعد استقصاء واستقرار والاستفراغ للجهود الفردية والمجتمعية والأممية والبشرية، ولا أظن أن يلجأ إلى هذا المطاف، بعد تضافر كل تلك الجهود، وفي هذا دعوة صارمة لتوفير تلك الباءة والإعداد لها.. ويظهر ذلك الاستبعاد من خلال الحل الملجئ إليه وهو الصوم، فالصوم لا يفي بكل مقاصد الزواج التي من أوائلها استمرار الجنس الإنساني، وما إلى ذلك من تربية الأجيال واستمرار الحياة، وإنما هو حل مؤقت لحظي يتعلم منه الشاب الصبر والإصرار والتحمل وعدم الاستجابة إلى الغرائز من خلال مجاري الرذيلة والمنكر والفاحشة، فلا يجمع بين عبادة الصيام ومنكر الزنى ومقدماته، فهذا لا يعدو ان يكون مسكنا من المسكنات، ودورة تدربية مصغرة على الصبر، مع استمرار مسار الوصول إلى الباءة بكل مقوماتها وأسبابها وإمكاناتها، لذلك جاء الخطاب للشاب، ليقال له: عليك بالصوم فإنه مدرسة في الصبر والمصابرة والمرابطة مع عدم الغفلة عن تحقيق الباءة.. لذلك فالزواج أصل ينبغي العودة إليه بتحقيق مقوماته على مستوى الفرد والمجتمع والأمة والبشرية..