تشرفتُ أواخر عام 1435ه بزيارة صاحب المعالي العلامة المؤرخ عميد الدبلوماسيين العرب الدكتور عبدالهادي التازي ت1436ه في منزله «فيلا بغداد» بمدينة الرباط في المملكة المغربية صحبة الشيخين الفاضلين: د.ثامر بن قاسم القاسم، وحسام بن إبراهيم الورهي وكان لقاؤنا معه لقاءً ماتعاً حوى الكثير من الأخبار والفوائد، وكان من جملتها أخباره مع الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني ت1420ه رحم الله الجميع، ولأن غالب تلك الأخبار مما لم يُسطّر في الكتب، ولإلحاح بعض الفضلاء بنشر ما يتعلق بأخبار الألباني من هذا اللقاء الذي سجلته معه؛ فقد أحببت نشرها لا سيما وقد أذن لنا العلامة التازي بنشرها، وهي من الأخبار اللطائف التي انطوت على نُبل أخلاقهما وكريم شيمهما رحمهما الله تعالى. * وكان العلامة التازي قد استفتح خبر علاقته بالألباني بأن زف لنا بُشرى ولادة ابنٍ لحفيده فقال لنا أثناء حديثه: «بالأمس زادت عندي نبيطة؛ تعرف معنى النبيطة بالمغربية؟!» فأجبنا بالنفي، ثم قال: «النبيطة هي المسلسل الرابع في حياتك، فأنا عبدالهادي، ابني سعد، ابنه عبدالمصور – على اسم ابن شيخة ناصر الدين الألباني- الآن عندي نبيطة، أي ابن لحفيدي، ونسميه في المغربية: النبيط أو النبيطة، الآن عندي ثلاث نبائط»(1) * ثم سأله الدكتور ثامر عن العلاقة بينه وبين الألباني هل كانت قوية؟ فقال التازي: قوية جداً، ثم تهللت أسارير وجهه وقال: «أنا أعتقد -ويمكنكم أن تنقلوا عني- لا يوجد شخص في العصر الحديث له علاقة جِدُّ قوية وجِدُّ طبيعية مثلي مع الشيخ الألباني، كنت إذا زرتُ دمشق كان في أول المستقبلين، وإذا زرتُ الأردن كان في أكبر المستقبلين، ويكفي أنه زارني هنا في فاس وفي الرباط، وكان عندي رجلاً محترماً صريحاً، كما أنه كان عظيم البنية قوي البدن له هيبة رحمه الله». * وأما عن بداية العلاقة وسببها فيأتي بسؤال من أخي د.ثامر كذلك، عندها زادت ملامح وجهه ابتهاجاً واسترسل قائلاً: «كانت بدايتها خطيرة جداً، أولاً ينبغي أن تعرفوا أن عندي ابنا اسمه سعد ولما سُمّيت سفيراً في بغداد ذهب سعد للدراسة في السعودية، وكنت قبل ذلك قد وضعته مع أخيه في مدرسة داخلية فرنسية في تونس عندما كنت سفيراً للمغرب في ليبيا فهي قريبة» ثم ذكر لنا شيئاً من أخبار ابنه سعد وأحداثه في تلك المدرسة والكثير من طرائفه فيها، ثم بعد ذلك ذكر لنا د.عبدالهادي بعد نقله من ليبيا إلى العراق، سفيراً للمغرب، وفي العراق استطاع سعد أن يجعل السفير السعودي حينها «أبو سليمان» [ تقريباً 1383ه] يسعى له في القبول في الدراسة في الجامعة الإسلامية بالمدينةالمنورة، فسهّل له كل الأمور، واتفقنا أن يذهب سعد لينظر في إمكانية الدراسة في الجامعة، على أن يبقى فيها 3 أيام أو أسبوع ويرجع، ولكنه بقي أكثر من شهر دون أن يتواصل معنا فخفنا عليه، وبعد البحث والسؤال عن طريق السفارة السعودية علمنا أنه سَجّل في الجامعة وبدأ الدراسة، وفي مدة بقائه في المدينة والتحاقه بالجامعة الإسلامية تعرف على الشيخ الألباني ولازمه وتأثر به وتطورت معه أحواله [قلت: أخبرني الشيخ سعد التازي أنه لازم الألباني آخر ثلاثة أشهر له في الجامعة ملازمة الظِلّ وكان قد سجل له الكثير من المجالس والدروس في المدينة ومنها مجالس للألباني مع الشيخ عبد العزيز بن باز]، ويتابع الدكتور عبدالهادي: «ولما رجع جاء إليّ بأفكار لم تكن مستساغة في ذلك الوقت، وكنت قد تفهمت ابني ولم أرد معاكسته، وكان سعد يحدثني عن الألباني كثيراً، وأنه هو سبب تغيره وتطور حاله، فعندها أحببت التعرف على هذه الشخصية التي استطاعت التأثير على ابني وأخذتُ أبحث عنه، سألت عنه في السعودية، فقيل لي لم يعد موجوداً فقد رجع إلى دمشق». يتابع الدكتور التازي قائلاً: «وبحكم عملي كسفير اتنقل كثيراً ولي علاقات، بطريقتي سألت عنه في دمشق وما يعمل فيه، فقيل إنه «يُصلح الساعات»، فذهبت إلى الشام، وقد صادف عندي مهمة رسمية فيها [تقريباً سنة 1968م]، فسألت عن الألباني وعن إمكانية اللقاء به؛ فقيل: إته مغضوب عليه من قبل الحكومة! وقد كانت فيّ جُرأة، وكنت في تلك الليلة مدعواً على العشاء عند أكبر رجل عسكري وهو العماد [مصطفى] طلاس فقلت: إيه رأيك بودي أن تسمح لي نمشي نشوف الألباني، فوافق وقال: إي على راسي، وأمر الجنود بتركي وعدم مرافقتي، ولما دخلت السوق بدأت بالحانوت الأقصى وهكذا من باب التعمية – يبتسم التازي هنا ويقول: يمكن أن تصور هذه الأحداث في فلم- فلما دخلت على الألباني في دكانه هبته، وكان مخيفاً عليه هيبة عظيمة، وعينيه زُعر، وكنت قد أحضرت معي ساعات تحتاج الإصلاح لإصلاحها، فقلت: عندي ساعات أريد إصلاحها. فنظر في الساعات ثم نظر إلىّ بنظرٍ جاد بدون ضحك، وقال: هذه غير صالحة، وهذه يمكن إصلاحها؛ ميّز بين الساعات ما يمكن إصلاحه وما لا يمكن بسرعة، ثم قال: بعد ساعة ارجع لتأخذها، وهذا منه بكل أمانة وبدون غش، ولما رجعتُ وأخذت الساعات قال الأجرة 20 فأعطيته 50 عوضاً عن أعطيه 20! فقال: ما هذا؟ فقلت: خذها! فقال -بنبرة حادة-: قلت لك 20، ورفض أخذ الزيادة، ثم شك فيّ وسألني: مَن جنابك؟ فقلت: أحدُ مخلوقات الله. فأصرّ علىّ ورفضت! فقال الألباني: لعل لك علاقة بسعد، فتعجبتُ من هذا، وكانت الدهشة والتعجب ظاهرين عليّ، فأخبرته بصحة ظنه بعلاقتي بسعد وأني والده، فدعاني لتناول طعام العشاء، فقلت بكل سرور، فذهبنا إلى العشاء في بيته وكان الدخول إلى بيته ممنوعاً. وقد تحدثت معه في أشياء كثيرة، وناقشته في أمور مهمة حديثاً صريحاً، تكلمتُ معه بصراحة ووضوح، وكان هو معي واضحاً وصريحاً، وفي أثناء النقاش والاندماج في الحديث أخذتُ أتناول الخُضرة لآكلها بيساري! فقال الألباني: يا أستاذنا الجليل استعمل يمينك!! فقلت: شكراً، نصحني ولم يجاملني وهذا من صراحته، ومن ذلك اليوم بدأت بيننا علاقة وطيدة وأكيدة». * ومن المواقف بيننا التي أرغب أن تسمعوها وبودي أن تعرفوها: أنه لما انتقل إلى الأردن تآمر عليه بعض الشيوخ بأنه يثير الفتنة ضد الحكومة، والحكومة تأثرت وأصدرت أمراً بنفيه إلى سوريا – قال التازي: وهذا يعني الذهاب للموت!!-. اللهُ سبحانه وتعالى أوجدني مصادفة في الأردن لحضور مؤتمر، وكنت في غرفتي بالفندق فاتصلوا بي من الاستقبال يخبرونني عن وجود شخص يرغب في مقابلتي اسمه «نظام سكجها» – صهر الشيخ الألباني- وهو عَجِل فأعطوه لي في الهاتف فقال: معي رسالة من الألباني! فقلت: تفضل الألباني كلامه لا يرد. ولما صعد إلىّ قابلني وهو يرتجف وقال: الشيخ أصدروا عليه أمراً أن يخرج يوم الأحد المقبل من الأردن، وهذا أمر خطير!! فعرفت الموضوع وفهمت ابعاده، وكنت في ذلك المساء مدعواً عند الأمير الحسن ولي عهد الأردن حينها وشقيق الملك حسين، فلما ذهبت له وجدتها فرصة – لاسيما وهو يحبني جداً -، وقلت: يا سمو الأمير سمعتُ خبراً أزعجني فحكيت له الموضوع، ووجدته على علم ومعرفة به، ثم قال: هذا السيد يكثر التحرك ومعه أنصار يتحركون معه بشكل يلفت الأنظار!! فقلت: عندي رجاء أن تتركوه، فأنا مؤمن أنه بريء وبعيد عن هذه الأمور… فقال -وقد شعرتُ أني أحرجته-: طلبك ليس بسهل عليّ عدم إجابته. ثم نادى الأميرُ على وزير الداخلية وقال له: بخصوص الألباني.. فبادره وزير الداخلية مولانا انتهى الأمر بإخراجه.. فقال الأمير حسن: أوقفوا الأمر. وكان الملف بيد هذا الرجل (وزير الداخلية)، وما زالت عندي صورة لتلك اللحظة مع الأمير حسن احتفظ بها. يقول التازي: ولما وصلت الفندق اتصلت بنظام سكجها فقلت له: انتهى الأمر، قَبّل لي عمك! فال سكجها: الحمد لله ربنا يكافأك على هذا. * وفي نفس هذه الزيارة بعد انتهاء موضوع إخراجه، الشيخ الألباني جاءته حصوة في الكلى وكان يتألم منها كثيراً، ولما علمت بذلك اتصلت بالأمير الحسن جزاه الله خيراً، وطلبت منه معالجته، فوجّه الأمير الحسن أمره للمستشفى العسكري باستقباله ومعالجته. * وزرت الألباني مرةَ في عَمّان، فقال: أي شيء تحب أن تتعشى؟ فقلت له: أتعشى معك أي حاجة، فجاء لنا بالدّلّاحة (البطيخ الأحمر) وشقها فكانت لذيذة لذيذة، أكلناها مع الخبز. * وقال: «وكل كتب الشيخ الألباني عندي فأنا أحرص على كل كتبه». * وقال التازي: «مواقفي مع الألباني لا أنساها». * فمن أخباره: جاءنا إلى هنا قديماً [تقريباً1390ه] وفرحنا به، وما قَصّرتُ معه، (وهنا يلتفت على ابنه بدر وهو معنا في المجلس) ويقول: وكذلك أمك أكرمته غاية الإكرام، وقد أخبرني أنه يريد الذهاب إلى «تامكَروت» في جنوب المغرب ليبحث عن مخطوط، فقال: أريد سيارتك. أنا بكل سرور وافقت، ولكني أردت أن أكرمه أكثر، فاتصلت بالديوان الملكي ليهيئوا له الرحلة، فلما رجع لي، قلت: ربي أعطاك خيراته، فيه… وفيه… وستمشي بسيارة ملكية!! وكنت أعتقد أنه سيفرح، ولكن أبداً رفض رفضا قاطعاً، وقال: لا لا، أنا حتى سيارتك لن آخذها! فقلت: كيف هذا؟! قد تحدثت مع الديوان الملكي؟! فقال: بلّغ الديوان الملكي بأني لا أرغب في السيارة الملكية. واتصلت بهم وبلغتهم، هل تعرف ما كان جواب الملك (الحسن الثاني رحمه الله)؟ قال: هذا رجل صالح مؤمن صادق، اتركوه يمشي أين ما يريد لا رقيب ولا حسيب، هذا برهن على أنه مؤمن صادق. فذهب بسيارته إلى تامكَروت وسيارته صغيرة وهو ضخم الجثة، إذا دخل السيارة ملأ السيارة كلها من نوع «فولكس فاجن» الصغيرة في ظني، وقد جاء بها من سوريا. وهنا يضحك الجميع ويقول د.ثامر: هذه القصص لم تُذكر في سيرته وأخباره المنثورة. عندها قال العلامة التازي: «لا لن تجدها، وآذن لكم بنقلها عني حرفياً». * ومن جملة قصصه الغريبة. مرة وجد عندي وزير الأوقاف المغربي وبعد حديث ماتع، قال الوزير: سوف نوجه لك دعوة تأتي في رمضان لتُلقي أمام الملك في الدروس الحسنية – فضحكت لأني أعرف جوابه مسبقاً -الألباني رفض. * وقد أعطيته نسخة من رحلة ابن بطوطة فنظر في الأحاديث المذكورة في الرحلة وبين لي الصحيح من غيره. * والتفت على ابنه بدر ونحن ننظر فقال له: «كانت أمك تعظّمه، وتحب زيارته لنا، وتفرح بها». ويضحك التازي هنا ثم يختم حديثه عن الألباني بما ابتدأنا به عنه، فقال: «ورثتُ عنه شيئاً واحداً لا يوجد مغربي واحد اسمه عبدالمصور إلا ابن ابني سعد، ولا أعلم غيره ولا في العالم الإسلامي ولو وجدتَ واحداً وجئتني به سأعطيك جائزة. وقد أخبرني صهر الشيخ الألباني الشيخ رضا نعسان عن قوة العلاقة بين الشيخ الألباني والتازي وشدة محبة الألباني للتازي ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا أهل الفضل. رحم الله العلامة الألباني والعلامة التازي وغفر لهما وتجاوز عنهما وأسكنهما فسيح جناته. … … … … … هوامش (1) في المغرب تختلف اطلاقاتهم على ابن الحفيد فالمستعمل لنعت ولد الحفيد «النْبيْب» بباءين أعجمية P، وإذا كانت حفيدة تُسمى «النبيبة» وهو من اصطلاحات الأندلسيين، وكذلك من المستعمل في تطوان ومناطق الشمال المغربي «الحفايط» أي الأحفاد، و«اللبايط» أي أبناء الأحفاد، وفي فاس يقال: «الحفايد» و»النبايط» وهما متقاربان، وكذا يُقال لهم: «اللبايط». أفادني بذلك الأستاذ الدكتور عبد العزيز الساوري. * صحيفة الجزيرة السعودية.