عرف الصحابة الكرام للسنة النبوية أهميتها ومكانتها، فأنزلوها المنزلة التي تستحقها؛ حباً وطاعة والتزاماً وتسليماً وتعظيماً، فكانت موجهة لهم ودليلاً لهم في شأنهم كله، وتسلط هذه المقالة الضوء على شيء يسير من عمل الصحابة في هذا الباب، تذكيراً بمنهجهم، وتحفيزاً للاقتداء بهم رضي الله عنهم. ولنبدأ بذكر شيء من عمل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين رضوان الله عليهم، وأولهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه القائل: لست تاركاً شيئاً كان رسول الله يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ[1]. جَاءَتْ الْجَدَّةُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ مَا لَكِ فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا عَلِمْتُ لَكِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَاهَا السُّدُسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هَلْ مَعَكَ غَيْرُكَ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ[2]. بل قد كَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ وَعَلِمَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ سُنَّةً قَضَى بِهِ، فَإِنْ أَعْيَاهُ خَرَجَ فَسَأَلَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ أَتَانِي كَذَا وَكَذَا فَهَلْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى فِي ذَلِكَ بِقَضَاءٍ، فَرُبَّمَا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّفَرُ كُلُّهُمْ يَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ قَضَاءً فَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِينَا مَنْ يَحْفَظُ عَلَى نَبِيِّنَا[3]. وخليفته عمر الفاروق رضي الله عنه، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: أُذَكِّرُ اللَّهَ امْرَأً سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ قَضَى فِي الْجَنِينِ، فَقَامَ حَمَلُ بن مَالِكِ بن النَّابِغَةِ الْهُذَلِيُّ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، كُنْتُ بَيْنَ جَارِتَيْنِ يَعْنِي ضَرَّتَيْنِ، فَجَرَحَتْ أَوْ ضَرَبَتْ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى بِعَمُودِ ظُّلَّتِها، فَقَتَلَتْهَا وَقَتَلَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، فَقَضَى النَّبِيُّ فِي الْجَنِينِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. وفي رواية فَقَالَ عُمَرُ: فقال عمر: لو لم أسمع فيه لقضينا بغيره[4]. وثالثهما عثمان ذو النورين، عَنْ رُبَيِّعَ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ: اخْتَلَعْتُ مِنْ زَوْجِي، ثُمَّ جِئْتُ عُثْمَانَ فَسَأَلْتُهُ مَاذَا عَلَيَّ مِنْ الْعِدَّةِ؟ فَقَالَ: لَا عِدَّةَ عَلَيْكِ؛ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَدِيثَةَ عَهْدٍ بِهِ، فَتَمْكُثِي حَتَّى تَحِيضِي حَيْضَةً. قَالَ: وَأَنَا مُتَّبِعٌ فِي ذَلِكَ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ فِي مَرْيَمَ الْمَغَالِيَّةِ كَانَتْ تَحْتَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ[5]. ورابعهم علي أبو السبطين رضي الله عنهم عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيّاً حَرَّقَ قَوْماً ارْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَقَتَلْتُهُمْ؛ بِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ وَلَمْ أَكُنْ لِأُحَرِّقَهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ الله، – زاد الترمذي – فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيّاً فَقَالَ: صَدَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ[6]. ومن التطبيقات العملية الدالة على عظيم مكانة السنة وحجيتها، رجوع الصحابة عن اجتهادهم وآرائهم، إذا تبين أنه خلاف السنة[7]، فهم جعلوها حَكماً على آرائهم واجتهاداتهم، فالمصحح إنما احتج بها؛ لأنها حجة عنده، والمصحح له رجع عن رأيه وفتواه – برغم مشقته على النفس -؛ لأنه يراها حجة لا يسعه مخالفتها. ومن أمثلة ذلك: عَنْ طَاوُسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إِذْ قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: تُفْتِي أَنْ تَصْدُرَ الْحَائِضُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهَا بِالْبَيْتِ؟ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِمَّا لَا، فَسَلْ فُلَانَةَ الْأَنْصَارِيَّةَ: هَلْ أَمَرَهَا بِذَلِكَ رَسُولُ اللهِ؟ قَالَ: فَرَجَعَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَضْحَكُ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا أُرَاكَ إِلَّا قَدْ صَدَقْتَ[8]. فهذا شيخ ابن عباس وأستاذه، زيد رضي الله عنهما يرجع عن رأيه ويعترف لتلميذه بالصواب. ويتربى ابن عباس على هذا المنهج ويعمل به، فعن أبي الجوزاء قال: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُفْتِي فِي الصَّرْفِ قَالَ: فَأَفْتَيْتُ بِهِ زَمَاناً قَالَ: ثُمَّ لَقِيتُهُ فَرَجَعَ عَنْهُ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: وَلِمَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَأَيْتُهُ، حَدَّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ نَهَى عَنْهُ[9]. عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ طَافَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بِالْبَيْتِ، فَجَعَلَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَ تَسْتَلِمُ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ يَسْتَلِمُهُمَا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُوراً، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: صَدَقْتَ[10]. ومن هذا الباب؛ التسليم للسنة والإذعان لها والوقوف عندها إذا أخبروا أو ذكروا بها. عمر الفاروق رضي الله عنه صاحب الشخصية القوية والهيبة في الحق، يمَرَّ فِي الْمَسْجِدِ وَحَسَّانُ يُنْشِدُ، – فينظر نظرة فيها إنكار – فَيقَول له حسان: كُنْتُ أُنْشِدُ فِيهِ وَفِيهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَبِي هُرَيْرَةَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللهِ أَسَمِعْتَ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: «أَجِبْ عَنِّي، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ»؟ قَالَ: نَعَمْ. – زاد أبو داود -: «فخشي أن يرميه برسول الله فأجازه»[11]. وفي موقف جماعي ونقاش في قضية كبرى؛ قضية الخلافة ومن الأحق بها، كان من أسباب اقتناع الأنصار بأحقية أبي بكر الصديق رضي الله عنه ما ذكرهم عمر به، فعن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: «لما قُبِضَ رسول الله قالت الأنصار: منا أمير، ومنكم أمير، فأتاهم عمر، فقال: ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟ فقالوا: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر»[12]. وعظم المنصب، وكلفة العمل والاجتهاد لا يكون مانعاً عندهم من التسليم للسنة، والإذعان له؛ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ، وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلَادِهِمْ حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ، أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، فَنَظَرُوا فَإِذَا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدَّ عُقْدَةً، وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ[13]. وأما المحافظة على السنة والاجتهاد في العمل بها فباب يصعب الإحاطة به؛ إذ هو الأصل في حياتهم، بيد أني أذكر نماذج في المحافظة والعمل الشاق على النفس – حسياً أو معنوياً -، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِى حَازِمٍ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى خَبَّابٍ وَقَدِ اكْتَوَى سَبْعَ كَيَّاتٍ فِي بَطْنِهِ فَقَالَ لَوْمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ[14]. – وفي رواية: «لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نَهَانَا أَنْ نَدْعُوَ بِالْمَوْتِ لَدَعَوْتُ بِهِ فَقَدْ طَالَ بِي مَرَضِي»[15]. وإن كان خباب يتألم من مرض جسده، فإنَّ أنس بن مالك رضي الله عنه وقد طال عمره ورأى تغير أحوال الناس وترديها، مقارنة بما عاشه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، سبَّب له ذلك ألما نفسيّاً، ومع ذلك قال: لولا أن رسول الله قال: «لا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ» لتمنيته[16]. ويتمسك آل العباس رضي الله عنهم بما فهموه من توجيه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ برغم أنه سيسبب نقداً لهم من بعض أصحاب المظاهر، أو من لا علم عنده، فعن بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: مَا لِي أَرَى بَنِي عَمِّكُمْ يَسْقُونَ الْعَسَلَ وَاللَّبَنَ، وَأَنْتُمْ تَسْقُونَ النَّبِيذَ، أَمِنْ حَاجَةٍ بِكُمْ، أَمْ مِنْ بُخْلٍ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَمْدُ لِلهِ، مَا بِنَا مِنْ حَاجَةٍ وَلَا بُخْلٍ، قَدِمَ النَّبِيُّ عَلَى رَاحِلَتِهِ، وَخَلْفَهُ أُسَامَةُ، فَاسْتَسْقَى، فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ، وَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ، وَأَجْمَلْتُمْ كَذَا، فَاصْنَعُوا، فَلَا نُرِيدُ تَغْيِيرَ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ[17]. وفي مجال المعاملات والمال، قال عَطَاءُ بْنُ فَرُّوخَ مَوْلَى الْقُرَشِيِّينَ أَنَّ عُثْمَانَ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ أَرْضاً، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ فَقَالَ لَهُ: مَا مَنَعَكَ مِنْ قَبْضِ مَالِكَ؟ قَالَ: إِنَّكَ غَبَنْتَنِي، فَمَا أَلْقَى مِنَ النَّاسِ أَحَداً إِلَّا وَهُوَ يَلُومُنِي، قَالَ: أَوَ ذَلِكَ يَمْنَعُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَاخْتَرْ بَيْنَ أَرْضِكَ وَمَالِكَ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ: أَدْخَلَ اللهُ الْجَنَّةَ رَجُلاً كَانَ سَهْلاً مُشْتَرِياً وَبَائِعاً وَقَاضِياً وَمُقْتَضِياً[18]. وعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ قَالَ: وَقَفْتُ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، فَجَاءَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى إِحْدَى مَنْكِبَيَّ، إِذْ جَاءَ أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ فَقَالَ: يَا سَعْدُ ابْتَعْ مِنِّي بَيْتَيَّ فِي دَارِكَ، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ مَا أَبْتَاعُهُمَا، فَقَالَ الْمِسْوَرُ: وَاللهِ لَتَبْتَاعَنَّهُمَا، فَقَالَ سَعْدٌ: وَاللهِ لَا أَزِيدُكَ عَلَى أَرْبَعَةِ آلَافٍ مُنَجَّمَةً، أَوْ مُقَطَّعَةً، قَالَ أَبُو رَافِعٍ: لَقَدْ أُعْطِيتُ بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَلَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ مَا أَعْطَيْتُكَهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَأَنَا أُعْطَى بِهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ. فَأَعْطَاهَا إِيَّاهُ[19]. ومن دقائق الالتزام والتطبيق: أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما قال: «اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، فَإِنِّي لَأُرِيدُ الْأَمْرَ فَأُؤَخِّرُهُ، كَيْمَا تَشْفَعُوا فَتُؤْجَرُوا، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا». وفي رواية: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَسْأَلُنِي الشَّيْءَ فَأَمْنَعُهُ حَتَّى تَشْفَعُوا فِيهِ فَتُؤْجَرُوا، وَإِنَّ رسولَ اللهِ قَالَ: اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا»[20]. ويربي الصحابة الكرام تابعيهم على تعظيم السنة والحرص على تطبيقها قدر المستطاع، بأساليب متنوعة. تَقُولُ أُمَّ حَبِيبَةَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الْجَنَّةِ. قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ اللهِ. وَقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ[21]. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلَاثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ؛ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلَاةِ الضُّحَى، وَنَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ[22]. وعن جرير بن عبد الله البجلي – رضي الله عنه -: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدِّقُ، فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ». وفي رواية قال: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ إِلَى رَسُولِ اللهِ فَقَالُوا: إِنَّ نَاساً مِنَ الْمُصَدِّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا قَالَ: فَقَالَ: أَرْضُوا مُصَدِّقِيكُمْ، قَالَ جَرِيرٌ: مَا صَدَرَ عَنِّي مُصَدِّقٌ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ إِلَّا وَهُوَ عَنِّي رَاضٍ[23]. قال الإمام النووي: «فيه أنه يحسن من العالم ومن يُقتدى به أن يقول مثل هذا، ولا يقصد به تزكية نفسه، بل يريد حثَّ السامعين على التخلق بخلقه في ذلك، وتحريضهم على المحافظة عليه وتنشيطهم لفعله»[24]. ومن أساليب التربية كذلك: تعظيم الاقتداء والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في نفوس التابعين، من خلال البناء على الاقتداء وجعله أساساً في توجيههم ونصحهم وتعليل أفعالهم، كَانَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا؛ مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا[25]. وعن أبي بكر بن حفص قال: خَرَجْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ يَوْمَ أَضْحَى أَوْ يَوْمَ فِطْرٍ، فَخَرَجَ يَمْشِي حَتَّى أَتَى الْمُصَلَّى، أَظُنُّهُ قَالَ: فَقَعَدَ حَتَّى أَتَى الْإِمَامُ، ثُمَّ صَلَّى وَانْصَرَفَ، ثُمَّ انْصَرَفَ ابْنُ عُمَرَ، فَلَمْ يُصَلِّ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا. قُلْتُ: يَا ابْنَ عُمَرَ، مَا قُدَّامَهَا وَمَا خَلْفَهَا صَلَاةٌ؟ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ يَصْنَعُ[26]. وعن أنس بن سيرين قال: اسْتَقْبَلْنَا أَنَساً حِينَ قَدِمَ مِنَ الشَّأْمِ، فَلَقِينَاهُ بِعَيْنِ التَّمْرِ، فَرَأَيْتُهُ يُصَلِّي عَلَى حِمَارٍ وَوَجْهُهُ مِنْ ذَا الْجَانِبِ، يَعْنِي عَنْ يَسَارِ الْقِبْلَةِ، فَقُلْتُ: رَأَيْتُكَ تُصَلِّي لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ؟ فَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ فَعَلَهُ لَمْ أَفْعَلْهُ[27]. وقيام الليل فضائله عظيمة وأجوره كثيرة، إلا أن أمنا عائشة رضي الله عنها ترى أن أفضل وسيلة للترغيب فيه هي الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم ، فتقول لعبد الله بن أبي قيس: لَا تَدَعْ قِيَامَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ كَانَ لَا يَدَعُهُ، وَكَانَ إِذَا مَرِضَ أَوْ كَسِلَ صَلَّى قَاعِداً»[28]. ويلخص الموقف التالي التأثير التربوي الذي تركه الصحابة في التابعين، حيث استقر عندهم أن الاقتداء والتأسي أساس في حياة الصحابة وحاكم على عملهم؛ عن أبي وائل قال: جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ، فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لَا أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلَا بَيْضَاءَ إِلَّا قَسَمْتُهُ. قُلْتُ: إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلَا، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ أَقْتَدِي بِهِمَا[29]. وعمل الصحابة الكرام الذي ذكرنا نماذج منه[30]، مبني على فهم دقيق للقرآن، يدل عليه عمل إمامين، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أعلم الصحابة بالقرآن، يحدث في درسه، فيقول: لَعَنَ اللهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُوتَشِمَاتِ، وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللهِ، وَمَنْ هُوَ فِي كِتَابِ اللهِ، فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ، فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ، قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ، أَمَا قَرَأْتِ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]، قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ، قَالَتْ: فَإِنِّي أَرَى أَهْلَكَ يَفْعَلُونَهُ، قَالَ: فَاذْهَبِي فَانْظُرِي، فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ، فَلَمْ تَرَ مِنْ حَاجَتِهَا شَيْئاً، فَقَالَ: لَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ مَا جَامَعَتْنَا[31]. وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن يسأله تلميذه طاووس، عَنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ؟ فَنَهَاهُ عَنْهُمَا، قَالَ طَاوُسٌ، فَقُلْتُ: مَا أَدَعُهُمَا! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} [الأحزاب: 36][32]. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَرَأَى ابْنُ عَبَّاسٍ الْحُجَّةَ قَائِمَةً عَلَى طَاوُسٍ بِخَبَرِهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَدَلَّهُ بِتِلاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ فَرْضاً عَلَيْهِ أَنْ لا تَكُونَ لَهُ الْخِيَرَةُ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً[33]. وهذان المثالان يلخِّصان مكانة السنة عند الصحابة الكرام، وأن تلك المكانة بنيت وأخذت من قواعد واضحة من كتاب الله. لا جرم أن قال الإمام البخاري – وهو الخبير بسيرتهم وأخبارهم -: «وَكَانَتْ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ»[34]. رزقنا الله وإياكم تعظيم السنة وحسن العمل بها، ومرافقة رسوله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في جنات النعيم، والحمد لله رب العالمين. [1] البخاري: ك فرض الخمس، ب فرض الخمس،3092-3093، مسلم: ك الجهاد والسير، ب قول النبي صلى الله عليه وسلم : «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» ح 1759. [2] أبو داود: ك الفرائض ب في ميراث الجدة ح2894، الترمذي: ك الفرائض، ب ميراث الجدة ح2101، النسائي: الكبرى، ك الفرائض، ب ذكر الجدات والأجداد ومقادير نصيبهم، ح 6339، ابن ماجه: ك الفرائض، ب ميراث الجدة ح2724، وصححه ابن حبان برقم6031. [3] الدارمي: المقدمة ب الفتيا، ما فيه من الشدة رقم 161. [4] أبو داود: ك الديات ب دية الجنين، ح 4572، النسائي: ك القسامة، قتل المرأة بالمرأة، ح4739، ابن ماجه: ك الديات ب دية الجنين،ح2641، والزيادة عند الشافعي: الرسالة: 427،ح1744، ويُنظر تعليقه على الحديث. [5] النسائي: ك الطلاق، عدة المختلعة، ح3498، ابن ماجه: ك الطلاق، ب عدة المختلعة، ح 2058. [6] البخاري: ك الجهاد والسير، ب لا يعذب بعذاب الله،ح3017، الترمذي، ك الحدود، ب ما جاء في المرتد، ح1458. [7] في هذا الموضوع، رسالة دكتوراه في كلية الشريعة جامعة أم القرى بعنوان: المسائل الفقهية التي حكي فيها رجوع الصحابة رضي الله عنهم، جمعاً ودراسة، إعداد: خالد بن أحمد بابطين. [8] مسلم: ك الحج، ب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض، ح1328. [9] أحمد: ح 1144. [10] أحمد: ح1877 وأصله في الصحيحين. [11] البخاري: ك بدء الخلق، ب ذكر الملائكة، 3212، مسلم: ك فضائل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ب فضائل حسان بن ثابت رضي الله عنه، ح2485، أبو داود: ك الأدب، ب ما جاء في الشعر، ح5014، قوله: «فخشي أن يرميه برسول الله» أي: بمخالفته. [12] النسائي: ك الإمامة، ب إمامة أهل العلم والفضل، 777، أحمد: ح 133. [13] أبو داود: ك الجهاد، ب في الإمام يكون بينه وبين العدو عهد، ح275، الترمذي: ك السير، ب ما جاء في الغدر، ح1580، وقال: حسن صحيح. [14] البخاري: ك المرضى، ب تمني المريض الموت، ح 5672، مسلم: ك الذكر والدعاء، ب كراهة تمني الموت لضر نزل به، ح 2681. [15] أحمد: ح 21059. [16] مسلم الموضع السابق ح 2680. [17] مسلم: ك الحج، ب فضل القيام بالسقاية والثناء على أهلها… ح1316. [18] أحمد: ح410. [19] البخاري: ك الشفعة، ب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، ح2258. [20] أبو داود : ك الأدب ، أبواب النوم، في الشفاعة، ح5132، النسائي: ك الزكاة، ب في الشفاعة في الصدقة، ح2557، والرواية الثانية له. [21] مسلم: ك صلاة المسافرين وقصرها، ب فضل السنن الراتبة قبل الفرائض…، ح728. [22] البخاري: ك التهجد، ب صلاة الضحى في الحضر، ح 1178، مسلم: ك صلاة المسافرين وقصرها، ب استحباب صلاة الضحى…، ح 721، وورد هذا عن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما. [23] مسلم: ك الزكاة، ب إرضاء السعاة، ح 989. [24] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 6/9. [25] البخاري: ك العلم، ب من جعل لأهل العلم أياماً معلومة، ح 70، مسلم: ك صفات المنافقين وأحكامهم، ب الاقتصاد في الموعظة،ح2821. [26] البيهقي: ك صلاة العيدين، ب الإمام لا يصلي قبل العيد وبعده في المصلى،3 / 302- وينظر جامع الترمذي ح538. [27] البخاري: ك تقصير الصلاة، ب صلاة التطوع على الحمار، ح1100- مسلم: ك صلاة المسافرين وقصرها، ب جواز صلاة النافلة على الدابة…، ح 702. [28] أبو داود: ك الصلاة، ب قيام الليل، ح 1207، أحمد ح26114. [29] البخاري: ك الاعتصام بالسنة، الاقتداء بسنن رسول الله، ح7275. [30] هذه النماذج مأخوذة من رسالة ستصدر قريباً – بإذن الله – بعنوان: تعظيم الصحابة للسنة النبوية. [31] البخاري: ك التفسير، سورة الحشر – ب وما آتاكم الرسول فخذوه، ح 4886، مسلم: ك اللباس والزينة -، ب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة …، ح2125. [32] الرسالة للشافعي ص443. [33] المرجع السابق ص444. [34] صحيح البخاري: ك الاعتصام بالسنة، ب قول الله تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].