كان يمشي بخطى ثقيلة يجر وراءه جبالا من الحسرة والخيبة، يكفكف دمعه بصعوبة بالغة وهي عصية على الكف كأنها أنهار منهمرة! وصل بيته ودخل حجرته فانكفأ على نفسه في زاوية من غرفته بين السرير والحائط وأذن لعبراته فنزلت نزول الصيب الغزير من السحاب الثقال! سمع صوت أمه تناديه مرارا: "عماد، عماد…" فلم يستطع أن يجيبها بصوته المختنق بعبراته، فتحت الأم باب غرفته بهدوء فما أن وقع بصرها عليه حتى أسرعت إليه تربت على رأسه بيدها الحانية وعيناها تترقرق كأنها عين غزالة عرض لها صياد يريد الفتك بابنها! فسألته: " ماذا حدث يا بني، هل اعتدى عليك أكرم مجددا؟" فقال عماد بصوت متقطع: "ليته كان هو، بل…" توقف لسانه فاستأنفت عيناه الكلام بعبرات اخترقت قلب الأم فهالها ما ترى وعلمت أن فتاها الذي أشرف على منتصف عقده الثاني يعاني من أمر جلل؛ فقالت أمه: " هون عليك يا بني فلكل عقدة حل، آه نسيت! كنت اليوم على موعد مع امتحان في مادة الجغرافيا، فهل نلت علامة متدنية؟" أجاب: " ليت الأمر كان بهاته البساطة، بل قد طردت من المدرسة و…" وأجهش مجددا بالبكاء، فقطعت الأم بكاءه محاولة طمأنته: "لقد طردت من عدة مدارس فلماذا كل هذا الانزعاج؟؟" فأجاب عماد: "الأمر أكبر من هذا!!" نهضت الأم فزعة ثم تحدثت بصوت مشحون بغضب ظاهر! غضب يخفي وراءه عواصف من الذعر والهلع على فلذة كبدها الوحيد!! فقالت بنبرة حادة: " أخبرني ماذا وقع بالتفصيل" أجاب عماد متمتما: " لقد طردت من المدرسة وتم إخبار الشرطة فحضرت ورفعت قضيتي للمحكمة!" صار وجه الأم غريبا كأنه صفحة سماء تتقلب فيها الفصول الأربعة فتسمرت مكانها ثم أمسكت يد عماد بقوة وذهبت به لغرفة أبيه. كان الأب منهمكا في القراءة على منضدته التي كان يحرص على نظافتها بعناية بالغة، ويحرص حرصه الأكبر على نظافة مجسم المسجد الأقصى الذي وُضع أمامه على المنضدة فوق زاوية من زواياها الأربع، فجأة، فتح الباب بقوة ودخلت الأم ممسكة بيد عماد! وضع الأب نظارته ووثب واقفا وقد تمعر وجهه من هذا المنظر الغريب! فقال الأب: "ما الذي جرى يا بني؟" استدفأ عماد بحنان أبيه الذي استشعره في كلماته الرقيقة وفي نظراته الحانية فذهب عنه بعض ما يجد، إذ كان متخوفا من ردة فعل أبيه عندما يسمع قرار الشرطة في حقه، فاستجمع قواه ونشط للتحدث فقال: "تهيأت جيدا لاجتياز اختبار الجغرافيا ممنيا نفسي بالحصول على علامات مرتفعة، وكان من بين الأسئلة التي وضعت في ورقة الاختبار سؤال طُلب منا فيه ملء خارطة فارغة بأسماء الدول، لكنني لاحظت أن الاسم الوحيد الموجود على الخارطة هو "إسرائيل" فكتبتُ جميع الأسماء وقمت بالشطب على ما يسمى بإسرائيل وكتبتها فوقها فلسطين، وبينما الأستاذ يتجول -جولته المعتادة- بين الصفوف إذ لمح ما جهدت لإخفائه بيدي، فصفعني بقوة وقال: "يا ابن الحرام هل تريد أن تقودني معك للسجن؟" ثم نادى على مدير المؤسسة الذي أقبل يتعثر في سرواله الطويل كأن القيامة قد قامت، فنظر إلي نظرة المتحسر ثم قال: "للأسف سنفقد تلميذا مجدا" وفوجئت برجال الشرطة تقودني لمكتب التحقيق!" عض الأب على شفته وقد خنقه الغيظ، فنبس ممتعضا: "ليس من حقهم أن يفعلوا هذا حتى أكون موجودا هناك! لماذا لم تنادي علي يا عماد؟" أجاب عماد: " طلبت ذلك مرارا لكنهم رفضوا بحجة أن وجودك لن يفيدني في شيء !!" ثم استأنف عماد قائلا: " بعد أسئلة كثيرة لا أذكر معظمها قال لي الضابط إن تهمتي هي "معاداة السامية" وقال لي أيضا: "ستعرض قريبا على محكمة القاصرين وفي الغالب سيحكم عليك بالمنع من ولوج جميع المدارس الخاصة الموجودة بالبلد!!". تمعر وجه عماد مجددا فعجزت عيناه أن تكبت فيضان عبراته الجارف، لكن الأب احتضنه ومسح دموعه وقبل جبينه ثم قال: "لذلك سميتك عمادا يا بطل!" فغر الفتى فاه مما فعل أبوه! فهو كان يعرف أن أباه لن يكترث بطرده من المدرسة ولكنه كان يخشى ردة فعله من قضية المحكمة فخاف أن يغضب أو أن يقوم بما لا يحمد عقباه تجاه رجال الشرطة! ثم قال عماد: " ماذا يعني اسمي يا أبتي؟" أجاب الأب بعد تنهيدة طويلة: " في عام 2040 عندما ولدت قررت تسميتك "عماد الدين" وهذا هو اسم الرجل العظيم الذي وضع أول لبنة لتحرير بيت المقدس من الصلبيين؛ اسمه الكامل: "عماد الدين زنكي" وهو المؤسس الحقيقي للهَبَّة المباركة التي استلمها منه ابنه نور الدين فصيرها جيوشا ثم حمل المشعل بعدهما صلاح الدين فكان فتح المسجد الأقصى " ، قال الأب: "ولما ذهبنا لمصالح الحالة المدنية فوجئت بالموظف يمنعني من هذا الاسم بحجة أنه هناك قانون يحظر هاته الأسماء التي من شأنها أن تُخْرِج أجيالا معادية للسامية! " سكت الأب قليلا ثم تمتم بصوت خافت:" هذه إحدى لعنات التطبيع!!!" التقطت أذن الفتى كلمة "التطبيع" فسأله: " ما معنى التطبيع؟" أجابت الأم التي كانت ترقب بسرور هاته اللوحة الجميلة التي جسدها الأب وابنه، فقالت:" لم تكن قوانين الظلم هاته موجودة عندنا حتى انخرطت دولتنا في موجة التطبيع، وهو يعني أن تنحاز للعدو الصهيوني وتتبنى طرحه الذي يزعم فيه أن له الحق في احتلال الأراضي الفلسطينية وتشريد أهلها وقتلهم! " ساد قليل من الصمت فمزقه عماد بنبرته التي اختلط فيها الفرح بالأسى فقال: " هاته هي المرة الرابعة التي أطرد فيها من المدارس الخاصة بعد أن تم طردي من المدارس العمومية بشكل نهائي سنة 2052 !! وكل هذا بسبب مواقفي تجاه القضية الفلسطينية، والآن قد لا أستطيع العودة للدراسة أبدا!" فقال الأب: " يا بني لكل مشكلة حل! ولو منعت من المدارس كلها فأنت المدرسة التي تستحق أن يجثو الجميع على ركبهم أمامها ليتعلموا منك معاني العزة والإباء وعدم الانسياق وراء القطيع!".