ظل الغلام ساهرا الليل ' رغم الهدوء التام الذي خيم على مسكن والده "حدو" . والسبب في هذا السهر ' الذي نغص عليه لذة النوم ' ما عسى قوله غدا للأستاذ "احماد " في قضية الامازيغية ؟ المهم أن يشفي غليله : لماذا لا تدرس اللغة الامازيغية في المدارس المغربية بشكل عادي كاللغة العربية واللغة الفرنسية وكذا اللغة الانجليزية وباقي ... يصيح الديك باكرا ليخبر جميع أفراد الأسرة الامازيغية المتواضعة , ميلاد يوم جديد . تتحرك الأم" ايطو" في فراشها البسيط الخشن , لتجلس على ركبتيها , وقد تدلى شعرها الناعم على كتفيها ' وترفع ذراعيها الفاتنين , رغبة في لمه على شكل ضفيرتين طويلتين جذابتين , محاولة البحث عن منديلها المزركش بشتى الورود الذي سقط بجوار زوجها "حدو" الغارق في نوم عميق متقطع بشهيق وزفير , متواصل يدل على أنه في عالم الأحلام والخيال الرائع . يستيقظ الجد " ميمون" بتثاقل , نظرا لكبر سنه , وبين الفينة والأخرى , تحدث حركات هيكل عظمه حين سجوده أو ركوعه , أصواتا خاصة به , تبين انه يؤدي صلاة الفجر . أما " زنبة " البكر , فرغم كونها لا تعرف الكتابة ولا القراءة , إلا أنها , ناقدة , لها إلمام كبير بالسليقة بضروب اوزان الشعر الامازيغي وجماليته . يستيقظ التلميذ "علي " الامازيغي النشأة والواقع , ليجد كما العادة فطورا هزيلا , وأسرة متفتحة , كادحة وجادة , وواقعا قاسيا جبليا لا يرحم , يخالف تماما واقع تلاميذ سهول تادلة وما جاورها . ورغم الإكراه الذي يواجهه هذا المتعلم الصبور , يأخذ فطوره , ليرمي محفظته المليئة بالكتب المدرسية والدفاتر واللوازم الدراسية , على ظهره النحيل , متجها بإرادة وعزم إلى مدرسته البعيدة , بحثا عن العلم والمعرفة , لأنه بدأ يشعر , انه في يوم من الأيام , ستفتخر به أسرته , وأكثر من ذلك قبيلته , حين يصبح طبيبا أو حارس غابة أو دركيا , أو على الأقل فقيها وإماما لمسجد القبيلة المتصارعة باستمرار حول قضايا الدين كالحلال والحرام مثلا . يصل "على " كعادته الأول إلى باب المدرسة , ليجد أستاذه ,منهمكا في تناول فطوره والذي لا يشبه فطوره , فرغم أن هناك تشابها في الشاي , لكن الصغير , أعجبه الجبن الملف في صورة البقرة الضاحكة , والمربى الحلو الموجود في زجاجة عليها صورة المشمش , واسم فتاة تدعى "عيشة" . أما الخبز فهو بقايا من " الكومير الابيض اللون " والذي يتلهف إليه أبناء الجبل حين عودة آبائهم أو احد أقاربهم العائدين من السفر إلى مدينة بني ملال أو إلى واويزغت مثلا . يجتمع التلاميذ الصغار في ساحة منسية , غاصة بصخور صلدة , تمنعهم من الجري والركض أثناء فترة الاستراحة , أما القسم فهو مبني بالمفكك , كأنه خم للدجاج , حار في الصيف , غير لائق للتدريس في فصل الشتاء , نظرا لصداع نزول المطر المنهمر على السقف المصنوع من صحائف القصدير . ورغم ذلك يكافح أستاذه جاهدا من أجل الرفع من مردو دية التلاميذ الأبرياء . لما حان وقت الدخول إلى الحجرة , ردد الأستاذ وصغاره النشيد الوطني , أمام عمود معوج مثبت في الأرض و فوقه يرفرف علمنا المغربي رمز السيادة والوحدة الوطنية , وابتسم الجميع عند نهاية النشيد تعبيرا عن الرضا وحب الوطن . تتقدم التلميذات الصف ويتبعهن التلاميذ في هدوء وحياء منقطع النظير , لتلج كل متعلمة ومتعلم القسم , رغبة في التعلم والمعرفة . يأمر الأستاذ التلاميذ بإخراج كتب مادة اللغة الامازيغية , يصوب "علي " عيناه باهتمام كبير نحو أستاذه , دون أن يهتم بفعل إخراج كتابه, يلاحظ الأستاذ ذلك على محياه وهو التلميذ الذكي في القسم , ليخاطبه : - ما بك يا "علي" , لماذا تنظر إلي هكذا , ألم تفهم السؤال المطلوب منك ؟ - بلى , يا أستاذ , فهمت المطلوب منا , ولكن ؟ - ولكن ماذا ؟ ألم تحضر كتابك ؟ - بلى , أحضرته !!! , هناك ما هو أهم من إحضار الكتاب يا " سي احماد" ؟ .. يلتفت الجميع إلى " علي " في نوع من الاستغراب والتعجب مما يريد هذا التلميذ الفريد من نوعه قوله داخل الفصل . - سمعت البارحة على أمواج المذياع جملة لم افهم المغزى منها , ولم أنم طول الليل مرتاحا . ؟ - ما هي هذه الجملة يا "علي" ؟وأشكرك على متابعتك لبرامج الإذاعة المغربية لكي يتحسن أسلوبك وتنمى معارفك . - ما معنى يا أستاذي العزيز : "دسترة اللغة الامازيغية " ؟ يهيمن الصمت على أرجاء حجرة الدرس . وأخذت حواجب الصغار ترتفع وتنزل تعبيرا عن عدم فهم معنى هذه الجملة الجديدة . يضع الأستاذ كتاب الامازيغية على جانب المكتب , ويأمر الجميع بالانتباه إلى الجواب , وفكر في أن يمنح الفرصة للصغار قبل أن يتدخل للإجابة عن السؤال المطروح من طرف "على" . - من منكم أنتم باقي التلاميذ , يعرف ما معنى " دسترة اللغة الامازيغية " ؟ . يخيم الهدوء والتلاميذ يتهامسون مرددين نفس الجملة , والأستاذ ينتظر متطوعا للإجابة عن المطلوب . فجأة يرفع " خلا بن عدي " أصبعه مرددا بصوت مرتفع كلمة " أنا اس" , يفرح الأستاذ لوجود من سيجيب عن المعضلة المطروحة هذا الصباح في الفصل , يأمر "عدي" للإجابة : - دسترة اللغة الامازيغية , يا أستاذ هي أن ( اللغة الامازيغية التي نتكلم بها في الجبال ستدخل الدستور. ). - جواب لا باس به , يضيف الأستاذ , محاولا إزالة الغموض الناجم عن السؤال . ثم أخذت الأصابع ترتفع , وتتعالى الأصوات , كل تلميذ يريد حل اللغز , لكن كان في زاوية الحجرة تلميذ , غارق في عالم خاص به غير مكترث بما يجري في الحجرة , ليأمره الأستاذ لعله يرشدهم إلى الصواب , فقال له : - أظن يا " خلا" أن جعبتك تحمل الجواب الحقيقي لمعنى "الدسترة " ؟ .وقف "خلا" منتصبا كأنه طارق بن زياد وهو يخاطب الامازيغ بالامازيغية , من اجل رفع راية الإسلام على تخوم بلاد الأندلس . - الدسترة يا أستاذ هي البستنة . انفجر القسم ضاحكا , حتى كادت تلميذة أن تسقط من فوق مقعدها لسماعها جواب " خلا" فيلسوف الفصل . استغرب الأستاذ من جواب تلميذه و أراد التأكد منه , فضرب بيده المكتب آمرا بالسكوت والإنصات لشرح وتوضيح الجواب . واستدرك قائلا : - لم نفهم ما تقصده , يا " خلا" بالبستنة ؟ اوضح جوابك !!! . - الدستور يا أستاذ يشبه البستان , لا تغرس وتزرع فيه سوى الخضر والفواكه التي تحبها وتعجبك . والدستور نفس الشيء لا نضع فيه سوى الأشياء التي نريدها ونسعى إليها . ولكن هناك مشكل كبير لا ندركه إلا بعد فوات الأوان يا أستاذ ؟ . يتدخل الأستاذ وقد جحظت عيناه من عمق تحليل تلميذه "فيلسوف القسم " , كما يلقبه زملاؤه خارج أوقات الدراسة . - وما هو المشكل يا ولدي ؟ - المشكل في عملية التطبيق والتنفيذ : فالبستان يحتاج إلى عناية فائقة بعد عملية الغرس والزرع , وإلا سيجف الغرس والمزروع, ولا تكون أية نتيجة من ذلك , ونفس الشيء حين لا يطبق الدستور على كل المواطنين والمواطنات , ويصبح حبرا جافا على ورق يابس... اخذ الكل يصفق لتحليل "خلا فيلسوف القسم " ولم يتركه التشجيع بالتصفيق يتمم شرحه وتحليله لمعنى " دسترة اللغة الامازيغية " . - أشاطرك الرأي يا "خلا" وأشجعك على إدراكك لمفهوم "الدستور" , وهو أمر يحتاج لثقافة كبيرة تفوق مستواك الدراسي , فمن علمك هذا يا ولدي ؟ - لي أخ , يتابع دراسته الجامعية في بني ملال , ونتناقش معه , بعض القضايا في منزلنا , أيام العطل المدرسية . - حاولوا انتم كذلك – يخاطب الأستاذ باقي التلاميذ – الاتصال ببعض أقاربكم أو جيرانكم , لأجل التوعية والرفع من مستواكم الفكري والثقافي . يعود الأستاذ إلى " علي" ليحاوره هو أيضا : - وما رأيك أنت يا "علي "الذي طرحت لنا هذه الإشكالية ؟ - من خلال واقعي الذي أعيشه صباح مساء , يا أستاذي العزيز , وبما انك "امازيغي قح" , اسمح لي , أن أقول إن اللغة مهما كان نوعها , لا تحتاج إلى دستور يفرضها , وإنما هي كائن حي يتنفس , ويتغذى , كالإنسان أو الحيوان أو النبات , كما قلت لنا في الدرس السابق في مادة العلوم الطبيعية . يتوقف " علي " للتنفس ويبلع الرمق, ليضيف أستاذه قائلا : - جيد !!! , ابني العزيز , تابع تدخلك . - إننا نتكلم في منازلنا , وتحت خيامنا اللغة الامازيغية , ولا نشعر نهائيا بأي نقص , ولكن ما الذي يجعل البعض منا يحتشم ويخاف أي يتكلم بها في مدينة متحضرة كبيرة كبني ملال مثلا . يتدخل الأستاذ ويطلب من "علي" أن يعود إلى الدرس الجديد وهو نطق بعض الحروف التي تمتاز بها اللغة الامازيغية عن باقي اللغات الأخرى , ويعده في حصة أخرى الحديث عن تاريخ اللغة الامازيغية ,ولو بشكل بسيط وواقعي . رغم أن هذا التاريخ غير مدون في برامجنا ومقرراتنا . محمد همشة 25/09/2011 .