هوية بريس – الجمعة 13 نونبر 2015 يأتي هذا الكتاب في سياق تاريخي مهم، تعيش فيه اللغة العربية منعطفا خطيرا، على مستوى التخاطب، وعلى مستوى الكتابة، بما فيها الكتابة الفنية والنقدية، التي الأصل فيها أن تترجم روح هذه اللغة، أصالة، وفصاحة، وبلاغة، وبيانا. لماذا صرخة الضاد؟ لقد نعت الدكتور أحمد شحلان هذا الكتاب بالكتاب الصيحة فقال: "لعل هذا الكتاب الصيحة الذي ركب العاطفة الصادقة قبل أن يركب التقيد بالمحددات الأكاديمية.. يَعِظُ بعض رجال أعلامنا"[1]. ثم قال بعد ذلك: "يذكرني هذا الكتاب الصيحة بصيحة أخرى لذي الألسن، سيدي محمد أبو طالب -رحمه الله- عندما رفع ضد بعض وسائل الإعلام.. شعار (إني أرفع دعوى)"[2]. غير أنني جنحت في العنونة إلى الصرخة، باعتبار الصيحة فعلا مجردا، سواء كان بدافع الألم أم لا، كقوله تعالى -ضمن المواطن الستة التي وردت فيها هذه اللفظة-: "إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ" [يس:29]، التي قرأها عبد بن مسعود رضي الله عنه: "إِنْ كَانَتْ إِلَّا زَقْيَةً واحدة"، من زَقَا الصبيُّ، يَزْقُو، ويَزْقِي، زَقْواً، وزَقْياً إِذا اشتدَّ بُكاؤه. أما الصرخة فهي رد فعل، يتضمن صياحا مصحوبا بألم، كقوله تعالى:"وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ". وعليه قول الشاعر الأعشى[3]: نُصَالِحُكُمْ حتى تَبُوءُوا بِمِثْلِها***كصَرْخَةِ حُبْلَى أسلَمتْها قَبِيلُها والكاتب نفسه استعمل كلمة الصرخة في غير موضع، كما في قوله: "وإذا كان هذا هو حال اللغة العربية.. أفلا يكون -إذن- من الإخلاص لهذه اللغة العربية.. أن أطلقها صرخة مدوية مجلجلة، إيمانا مني بأحقيتها في الوجود والنماء والتطور؟"[4]. ولا شك أن هذه هي النبرة التي صاحبت المؤلف من بداية الكتاب إلى نهايته، فهو يفصح عن ذلك بدءا من الإهداء حيث قال:"أهدي هذا العمل الوطني المتواضع إلى كل من يحمل هم لغته الوطنية، ويعتز بها قولا وعملا". وهو -أيضا- ما أكده الدكتور أحمد شحلان حين حكم على هذا الكتاب بأنه: "تأوه عاشق وَلِهٍ بلغته، وتوجع مواطن يجري دم لغة الضاد في عروقه"[5]. لقد عرفت هذه اللغة في زماننا تقاذفات كبيرة، بين دعاة العامية، وأنصار التخلص من أهم صمامات استقرارها، كالنحو، والصرف، والبلاغة، وأصول اللغة، ومناهضي كل أصيل، لا لشيء إلا لأنه قديم عتيق. ولقد يضطر المعتني بلغة القرآن إلى أن يصك أذنيه بيديه، ويغمض عينيه، ويغرس رأسه بين رجليه، حفاظا على سمعه من الصمم، وعلى قلبه من الانفطار، وعلى نفسه من التصدع، وهو يستمع إلى بعض مقدمي الأخبار في وسائل الإعلام، أو المكلفين بإعداد التقارير الصحافية، لهول ما يقصف ذهنه من الأخطاء اللغوية، والنحوية، والصرفية، والتركيبية. يقول المؤلف: "هذه اللغة التي أصبحت غريبة ومضطهدة في عقر دارها، والتي بدأت العواصف الهوجاء تقتلعها من جذورها، كما تقتلع الأشجار"[6]. ثم تساءل -على سبيل الإنكار- قائلا: "هل لا يوجد في هذه الأقطار العربية إلا من يُهدر كرامتها، وكرامةَ الناطقين بها من عرب ومسلمين؟". ولم يخف الكاتب اندهاشه وامتعاضه، من استباحة اللغة العربية ليس فقط من طرف الاستعمار الذي قطع أوصالها، ومزق أديمها إلا مما يخدم مصلحة ترجمة معتقداته، ومبادئه، وعلومه، وثقافته، بل – أيضا – من طرف أبناء جلدته، وأفراد عشيرته، الذين منهم من يحكم على لغته العربية بالموت، وأن حقها أن تدفن وتنسى إلى الأبد، فقال بلهجة زَئِرَة منتفضة :"وأيم الله، إنني أمام هذا الإهمال، أصبت وأصيب كل غيور بخيبة أمل، بل صُعقت عندما اتضح لي أن الساحة في الوقت الراهن خالية من كل غيور وشجاع، واندهشت لهذا الموقف السلبي إن لم نقل المخزي"[7]. وأكثر ما حز في نفس المؤلف، أن بعض إخواننا انبهروا بثقافة الغرب، فاحتوشوها: غثَّها وسمينَها، وكان من هذا الغث المردود أن انهزموا أمام لغة الوافد على حساب لغتهم. يقول متأسفا على هذه الوضعية المرتكسة التي بلغتها عقول بعض أبناء الوطن: "وللأسف الشديد، فقد تحقق له (الاستعمار) ما أراد على يد بعض أبنائها (اللغة العربية) العاقين، الذين شحنهم بلغته، والذين انبهروا لكل شيء يأتي من الغرب، ولو كان على حساب اللغة الوطنية"[8]. ويعمق هذه النبرة باستفظاع واقع اللغة العربية، وما يصيبها من سهام على سهام، ونصال على نصال. يقول: "بربك أيها القارئ، هل هناك منكر أفظع من أن يتنكر العربي المسلم للغته، ويتخلى عن أعظم مقومات حياته وشخصيته؟ فإلى متى ستبقى هذه السهام المسمومة موجهة لهذه اللغة، لتصيب منها مقتلا؟"[9]. ثم يدلف الكاتب بعد ذلك إلى ضرورة الانتفاضة في وجه هذه السموم الدخيلة، ورصد هذه الأيدي الماكرة الخفية، مخاطبا كل غيور على لغته. يقول:"إنه آن الأوان لتستيقظ الضمائر، ويشمر المسؤولون عن ساعد الجد، ويقوموا قومة رجل واحد بدراسة علمية ومعمقة، من شأنها أن تقيل هذه العثرات.. ليتجلى صفاؤها، وإشراقها، وتوهجها"[10]. ومرد هذا الأسى عند المؤلف، إلى كون اللغة العربية ذات تاريخ، كانت لغة تخاطب قوم لم يفسد لسانهم لحن ولا دخيل، واختارها الله -عز وجل- لحمل كلامه في آخر رسالة أرسلها للعالمين، وكان لقوتها تجليات عظيمة بقيت محفورة في صفحة التاريخ. يذكر المؤلف مثالا على ذلك فيقول: "ولم يمض على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة، حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم إلى العربية، حتى تكون مفهومة لدى النصارى"[11]، وما ذلك إلا للقوة التي كانت تتمتع بها هذه اللغة، التي عمرت أكثر من عشرين قرنا "وهو ما لم يكتب في التاريخ للغة أخرى غيرها"[12]، "وكم عز أقوام بعز لغات". ويشير المؤلف إلى أن من عناصر قوة اللغة العربية الذاتية كثرةُ مترادفاتها، التي كان من فضلها أن "مكنت الشعراء من أن ينظموا عليها قصائدهم الطويلة، مع التزام الروي والقافية، كما أنها كانت أداة جيدة لبلاغة الكُتَّاب، وفصاحة الفصحاء؛ فقد استطاعوا أن يتخيروا من الألفاظ المرادفة ما يناسب السجع أحيانا، والترصيع أحيانا، الذي يعرف عند البلاغيين بتوازن الألفاظ مع توافق الأعجاز أو تقاربها"[13]. وأضيف شيئا آخر كان ولا زال مناط خلاف بين أهل اللغة، هل هذا الذي نسميه ترادفا، يفيد اتحادا كليا للفظتين في المعنى، بحيث يتخير الشاعر أو الساجع ما يناسب قافيته أو سجعه، أم إن الأمر أبعد من مجرد استبدال لفظة بأخرى؟ لقد كان علي بن عيسى الرماني (ت384ه) أول من استعمل كلمة الترادف عنوانا لكتاب، وهو كتاب: "الألفاظ المترادفة والمتقاربة في المعنى"، وإن كان قد سبق بثعلب (291ه) الذي ورد عنده أقدم نص لغوي ورد فيه هذا المصطلح صراحةً. غير أن الرماني لم يفصح عن فرق دقيق بين المترادف والمتقارب في المعنى، ولذلك كان يطلق هذا مرة، وهذا مرة، ويعطف هذا على هذا كأنهما شيء واحد. والحق أن التطابق التام بين كلمتين عزيزٌ في اللغة العربية، فأنت حينما تقول السيف والمهند، تلمح في الأول الاسم، وتلمح في الثاني الصفة، وعلى هذا يخرج تعدد الأسماء للمسمى الواحد، وعليه مدار كتب اللغة، ككتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري، الذي قال: "كلّ اسمين يجريان على معنى من المعاني، وعين من الأعيان في لغة واحدة، فإن كلّ واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، وإلا لكان الثاني فضلاً لا يحتاج إليه. وإلى هذا ذهب المحققون من العلماء". قال ابن الأعرابي (ت231ه): "كلُّ حرْفين أوقَعَتْهُما العربُ على معنى واحد، في كلّ واحد منهما معنًى ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخْبَرْنا به، وربما غمض علينا فلم نلزم العرب جهله"[14]، فالإنسان ليس هو والبشر، الإنسان سمّي إنساناً لنسيانه، والبشر سُمّي بشرا لأنه بادي البشرة. ومن الأمثلة التي ضربها أبو هلال العسكري في كتابه الفروق قوله: "الفرق بين التقريظ والمدح، المدح يكون للحى والميت، والتقريظ لا يكون إلا للحي، وخلافه التأبين، لا يكون إلا للميت. وأصل التقريظ من القَرَظ، وهو شيء يدبغ به الأديم، وإذا أدبغ به حسن وصلح وزادت قيمة، فَشُبه مدحُك للإنسان الحى بذلك، كأنك تزيد من قيمته بمدحك إياه، ولا يصح هذا المعنى في الميت، ولهذا يقال: مَدَحَ اللهَ، ولا يقال قَرَظَهُ". وسأختصر مناط صرخة الضاد عند الكاتب في أمرين اثنين: الأمر الأول: مسألة التعددية اللغوية (العامية): خصص المؤلف المحور الرابع من كتابه لتناول هذه القضية الشائكة، قضية غزو العامية لمواقع الفصحى، ومحاصرتها في أهم معاقلها، كالتعليم، والإعلام بأنواعه، والمسرح، والمحاضرات، والإعلانات وغيرها. ورأى أن هذا الإقحام قد يكون عن غير قصد، ولكن قد يكون – أيضا – مدبَّرا ومخططا له من طرف جهات مختلفة. يقول: "بصورة إجمالية يمكن القول: إن الفصحى أصبحت محاصرة بشكل ملحوظ، والمحاصرون يسعون – بقصد أو غير قصد – إلى وضع كل آلية التحطيم، وكل معاول الهدم، وفي طليعتها إقحام العامية، أو بعض اللهجات التي لا تتوفر على الحد الأدنى من المكونات الأساسية للغة"[15]. فالعامية في نظر أنصارها تعبير عن الأفكار بيسر وسهولة، أما العربية فتحوج إلى معرفة النحو، والصرف، والتعبير، مع كثرة معانيها، وألفاظها، واشتقاقاتها، كما يتعللون باصطدام الحركة الشعرية الحديثة بجدار اللغة الفصحى، ومن ثم، طالبوا بإسقاط حركات الإعراب، لأنها تمثل عبئا ثقيلا، وبالرجوع إلى التسكين لأنه عمدة العامية التي هي الأصل، كما زعم أحد أعضاء المجمع اللغوي بالأردن، الذي تحفظ المؤلف عن ذكر اسمه، حيث قال: "لغتنا الحقيقية الفعلية هي العربية العامية وليست الفصحى.. إننا لا نتحدث بالفصحى، ولا نحلم بالفصحى، لأنها ليست لغة حديثنا، ولا لغة تفكيرنا، ولا لغة أحلامنا"[16]. ويضرب المؤلف مثالا على ما يرونه عجزا في اللغة العربية لترجمة المصطلحات الحديثة، مثل الماجستير والدكتوراه. ولم يفت المؤلف أن يعمق حجج المناصرين للعامية بما يرونه دليلا دامغا، وهو أن العامية منحدرة من أصول عربية فصيحة، فهي وجه آخر لها، فلا تعارض، بل دعا أحد مؤيدي هذا القول إلى "تسجيل عامية كل قطر، ويحتفظ بها في مكتبات صوتية، فالزمان آت لأن نحتاجها، ونرجع إليها"[17]. أما غير ما ذكر من الحجج فهو واه لا يستحق التعريج عليه. وهنا سينبري المؤلف لنقض هذه الحجج، بما يشبه الضربة القاضية عن طريق سؤال محرج: "لو فرضنا جدلا استعمال العامية، فأي عامية نعتمد؟ وهي من حيث العدد لا تعد ولا تحصى، بل أكثر من ذلك، فنحن نجدها متعددة في الأمة الواحدة كلهجات فقط، مع وجود اختلاف بين، ذلك أن لهجة البوادي غير لهجة المدن، بل حتى المدن مع بعضها، نجدها مختلفة اختلافا واضحا، وهذا من شأنه أن يبطل العامية التي تفكك ولا توحد"[18]. فاللغة الفصحى -إذن- أداة توحيد بين الشعوب العربية، وإعاقتها إعاقة لكائن حي يتطور على ألسنة المتكلمين بها، كما أن التمكين لها هو بداية الطريق للتمكين للثقافة الإسلامية، ونشر حقيقة الحياة الإسلامية، المنبثقة عن كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولما سادت اللغة العربية في الأقطار، ساد معها الإسلام، وطبق الآفاقَ عقائدُ المسلمين، وثقافتُهم، وأحوالهُم، تماما كما هو الشأن اليوم بالنسبة للغة الإنجليزية، التي يضطر أي منتج من قطر آخر أن يكتب على منتوجه ألفاظا بالإنجليزية إن هو أراد الترويج لسلعته. وفضلا عن كل ذلك، يقول المؤلف: "إن الاهتمام باللغة العربية الفصحى ينطلق من ارتباطها بالدين الإسلامي، والتراث العربي المتميز"[19]. ويرى المؤلف أن التمكين للغة العربية لا يذيب العامية، ولا يزيحها عن مسرح التخاطب، بل يقرب المسافة بينهما، لتبقى "الطائفة الموهوبة تحاكي هذه اللغة في كتاباتها، وأحاديثها، على اختلاف المراتب والدرجات"[20]. ولم يكتف المؤلف بالدفاع عن لغته دفاعا دوغمائيا، ينزع إلى الانتصار لمجرد الانتصار، بل يسهم في إيجاد الحلول المناسبة، للخروج من هذا الذي سماه مأزقا، والتوفيق بين الرأيين بما يراه مناسبا. يقول: "إن علاج المشكلة اللغوية يحتاج إلى سلوك أكثر من طريق، أول هذه الطرق، ما يعرف بتيسير قواعد اللغة تيسيرا يقوم على نظرة فاحصة، وتأمل عميق، والنظرة الشاملة التي لا تعبث بالأصل، ولا تقطع ما اتصل من تراث حضاري وفكري عريض"[21]. ثم يؤكد أن هذه المهمة لن يستطيعها إلا الجهابذة من أهل اللغة، الذين ألموا بالقديم منها والحديث، ووقفوا على وظيفتها الاجتماعية الخطيرة في حياة الأمة. ويرى المؤلف أن اللغة العربية تدل على الفكر، في حين أصبحت "العامية في لغة الكتابة والخطب السياسية تدل – أحيانا – على انهيار ذلك الفكر، أو هبوط المستوى الخلقي.. إلى درجة الفحش والكذب"[22]، وذكر أن ذلك يتجلى في خطب بعض الزعماء السياسيين، وعلى المسارح، وبعض القنوات الفضائية، مع أن "للكتابة حرمتها، وأن هناك خطوطا حمراء لا ينبغي تجاوزها، أو وطؤها بالأقدام"[23]. أما الذين يتهمون العربية بالتقعر، والشدة، واختيار الألفاظ الحوشية، والأساليب الغريبة، فإنهم يمسكون بخيوط واهية، فقد ولى زمن امرئ القيس، وعمرو بن كلثوم، وسحبان وائل، وقس بن ساعدة، وصار من يتكلفون الحوشي في الكلام في الشعر والنثر قلة نادرة، والنادر لا حكم له، فهذا جمهور الناس، يسمعون خطب الجمعة، والمواعظ، فيتأثرون بها، وينفعلون بها، بغض النظر عن درجة المخاطبين الثقافية. الأمر الثاني: مسألة اللغة وعلاقتها بالشعر الحداثي: وسيركز الكاتب على قضية الغموض التي ركبها هذا النوع من الشعر، حتى صار مستغلقا، لا يكاد يفهمه إلا صاحبه، انطلاقا من مقولة: "المعنى في بطن الشاعر". واعترف بأن الخصام حول هذه القضية قديم، بدأ في العصر العباسي، وناقشها كبار النقاد كالآمدي، والصولي، وعبد القاهر الجرجاني، غير أنه كان غموضا لم يرتق إلى درجة التعمية والتعقيد، كما يريده أنصار الشعر الحديث، الذي يرون أن هذا الشعر كلما كان غامضا، كلما تاهت أفكار القراء في فك ألغازه، والتذت بسماع إلغازه. ويضرب الكاتب لذلك مثالا بقول أدونيس: المرايا تصالح بين الظهيرة والليل وخلف المرايا جسد يفتح الطريق لأقاليمه الجديدة جسد يبدأ الحريق في ركام العصور***ما حيا نجمة الطريق بين إيقاعها والقصيدة عابر آخر الجسور[24] ولقد حكَّ كثير من الأدباء والنقاد زناد فكرهم، ليفهموا شيئا من كثير من هذا النوع من الكلام، فلم يصلوا إلى نتيجة. و"الباحث عدنان علي رضا النحوي" – الأديب والشاعر المعروف، وصاحب التآليف العديدة في نظرية الأدب الإسلامي – يقول:"سمعت ذات مرة قصيدة من هذا النوع، استغرق إلقاؤها بحدود نصف ساعة، خرجت منها وأنا لا أعي ماذا يريد الشاعر أن يقول، وسألت عددا من المستمعين، فأسروا لي أنهم لم يفهموا شيئا، وسألت الذين مدحوها وأعلنوا سرورهم بها، ماذا وعيتم؟ فتلجلجوا"[25]. ونظرا لما في كثير من الشعر المنثور أو الحر من الضعف، والجنوح إلى اليسر والسهولة[26]، والتعمية الزائدة عن الحد، رأينا "د. عباس الجراري" يتساءل عن قيمة هذا الشعر قائلا: "لست أدري إذا كان جائزا لنا أن نعتبر هذا النوع من الشعر"[27]. لذلك يرى الكاتب أن هذا النوع "أساء إلى اللغة العربية، لغة، وتركيبا، وعروضا، لأنه ضرب – عرض الحائط – بمعظم الثوابت، وقد لقي فشلا ذريعا لدى كل ذي ثقافة متينة، وفوق ذا وذاك، فإنه يسعى إلى طمس معالم الماضي بكل حمولاته"[28]. لنستمع إلى أحدهم كيف يهزأ بالقديم، ويرميه بأقذع الأوصاف، مفضلا عليه كل جديد: "الشكل القديم عندنا قد بلغ الحال بِبِلاه وتهالكه، وبابتذاله و"عَهارته" حدا يجعل أي جديد خيرا منه، فالشكل القديم ميؤوس منه يأسا باتا، ولا يحمل أي أمل للمستقبل"[29]. ولننظر أيَّ القصائد أشهر وأسير على الألسنة، وأسرع في الحفظ والاستحضار والاستدلال، أهي قصائد "امرئ القيس" و"النابغة" و"عنترة" و"المتنبي" و"أبي تمام" و"البحتري".. أم قصائد "الشعر الحر" أو "الشعر النثري" أو "الشعر المتفلت". ثم لننظر هل ضاق الشعر العمودي عن حمل المعاني، وتبرم بالأخيلة والصور، ألم يتدخل في الحياة العامة والخاصة، وتناول مختلف الموضوعات، واقتحم كل الأغراض، وعبر بصدق ووضوح عن خلجات النفس، ووصفها أدق الوصف؟، "لقد كان القرن الرابع الهجري يعج بالمآسي والخطوب.. وكان العصر حافلا بتيارات فكرية، ومذاهب فلسفية، وفرق دينية، وصراعات سياسية.. فلم يعجز الشعر، ولم يتردد في التعبير عنه تعبيرا واعيا عميقا، ولم يضطره ذلك إلى التخلي عن أوزانه وقوافيه"[30]. وإذا كان الشعر العمودي متهما بالحيلولة دون التعبير عن التقلبات الاجتماعية والسياسية والحضارية.. وعن النزعات النفسية، فهل استطاع الشعر الحر ذلك، أم على العكس منه، وجدنا القيود التي فرضتها وحدة التفعيلة في الشعر المعاصر أشد وطأة من التزام الوزن والقافية؟. ومِن خير مَن عَّبر عن ذلك "نازك الملائكة" حيث قالت: "إنه ينبغي ألا يطغى (أي الشكل الجديد) على شعرنا المعاصر كل الطغيان، لأن أوزانه لا تصلح للموضوعات كلها، بسبب القيود التي تفرضها عليه وحدة التفعيلة، وانعدام الوقفات، وقابلية التدفق والموسيقية"[31]. فإذا أضفنا كون هذا اللون من الشعر غريبا عن بيئتنا، إلى كون كثير منه هزيلا في مبناه ومعناه، وخلوه من الطرب والمتعة الموسيقية، إلى كون كثير من ألفاظه غريبة، أو مترجمة، أو عامية، أو مبتكرة – في نحوها وصرفها – ابتكارا رديئا، لا تعترف بها اللغة العربية الأصيلة[32]، إلى كون جماعة ممن تزعموا نشره والدعوة إليه ممن عبروا صريحا عن ثورتهم على اللغة، ومجابهتهم للقديم، ورفضهم لمقومات الأصالة[33].. علمنا أن هذه الدعوة لم يُرد بها تطوير القصيدة العربية، ولا التحرر من قيودها المألوفة، وإنما هي تعبير عن مبدإ رفض القديم مطلقا -من جهة-، والعجز عن مجاراة القصيدة العربية التي تحتاج إلى كفاية وتمكن -من جهة ثانية. غير أن كل ذلك لا يمنعنا من قبول الشعر الحر الذي انبثق عن دراية وحنكة، وسلمت آلة صاحبه من الابتذال والإلغاز الغامض، فقد ينوع الشاعر المجيد في شكل القصيدة العمودية، وقد يخرج عن الصورة التراتبية المألوفة: صورة الشطرين المتماثلين، ولكنه يركز على وزن معين، تلمس عذوبته، وتحس نغمه، وتطرب بموسيقاه، لأنه في الواقع لم يخرج عن تفاعيل الخليل، وإن غير في ترتيبها، بل قد تلتزم القصيدة تفعيلة واحدة ترتب المعاني بحسبها، فإذا كانت هذه المعاني جيدة هادفة، معانيها أسبق إلى قلبك من ألفاظها، كان ذلك نوع تجديد في بنية القصيدة، لا مشاحة في قبوله، والنسج على منواله. وهذا مما يحسنه فطاحل الشعراء، الذين خبروا مواطن التذوق الشعري، واستكنهوا سر البيان، من أمثال الشاعر: "محمود مفلح" التي يقول في إحدى قصائده[34]: أنا منذ أطلقتُ العنان لأحرفي وبدأت أُطلِق بالقلمْ أيقنت أن الدرب مَذأبةٌ وأن الحرف مَسغَبةٌ وأنِّيَ إن أمت سأموتُ من أجل القيمْ. من أجل هذا صُنِّفت فِيَّ الشكوكُ ووُزِّعتْ فِيَّ التهمْ. وهو الاتجاه المعتدل الذي مال إليه الكاتب، وانتصر إليه، لما روعيت فيه الثوابت النحوية، والصرفية، والدلالية، والبلاغية، وأضيفت إليه معان جديدة، مستمدة من لغة العصر، ومحافظة على الأصل.. ولا بأس من اختراع بحور أخرى تضاف إلى البحور الخليلية، كذلك الشأن بإدخال ألفاظ جديدة أقرتها المجامع اللغوية.. وهذا شيء يستحق التأييد والمساندة"[35]. ثم ختم الكاتب هذا المحور بقوله: "إن الدراسات المستقبلية، كفيلة – إذا توفرت الإرادة – بالإبقاء على الأنفع والأصلح، مصداقا لقوله تعالى: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ" [الرعد:17]. سيبرقُ في العلا وهجي***وتخمدُ ناره الخطرُ فمهما حاولوا قهري***فسوف يلوكُهم قَهْرُ ومهما كمموا صوتي***يسافرُ من فمي نَسرُ وإن هم حاولوا محوي***فسوف يقهقه الفجرُ فليس تنالُ من عزمي***شباكُ الضرِّ والغدرُ ولن يقتاتَ زيدٌ من***شراييني ولا عَمرُو وأهتفُ إنّ لي نسلاً***وبالأبناءِ أفتخِرُ ثبت المصادر والمراجع: القرآن الكريم. الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه/د. عباس الجراري/مكتبة المعارف/الرباط/ط:1979.2. الأدب والحياة/الخلاصة أحمد/مطبعة النجاح الجديدة/البيضاء/ط:1/1410ه/1990م. ديوان الأعشى/طبع القاهرة/ شرح د. محمد حسين. الشعر المتفلت من التفعيلة إلى النثر/ د. عدنان علي رضا النحوي/ جمعية منتدى الحوار الأدبي/ البيضاء/ ط:2/1422ه/2001م. صفحات مضيئة من تراث الإسلام/أنور الجندي/دار الاعتصام/القاهرة/1979. قضايا الشعر المعاصر/نازك الملائكة/دار العلم للملايين/بيروت/ط:7/1983. قضية الشعر الجديد/د. محمد النويهي/المطبعة العالمية/القاهرة/1964. المزهر في علوم اللغة العربية/ جلال الدين السيوطي/ تحقيق : محمد أحمد جاد المولى – محمد أبو الفضل – علي البجاوي/ مكتبة دار التراث/ الطبعة الثالثة. النقد الأدبي الحديث/ د. غنيمي هلال/ دار العودة/ بيروت/ ط:1/1982.. جريدة "المسلمون"ع:279 – 8/6/1990. [1]– ص:10. [2]– ص:10. [3]– ديوانه طبع القاهرة – شرح د. محمد حسين – ص:177. [4]– ص:18. [5]– ص:7. [6]– ص:16. [7]– ص:16. [8]– ص:17-18. [9]– ص:19. [10]– ص:19. [11]– ص:34. [12]– ص:34. [13]– ص:51. [14]– المزهر للسيوطي، ج: 1، ص:314. [15]– ص:63. [16]– ص:64. [17]– ص:65. [18]– نفسه. [19]– ص:66. [20]– نفسه. [21]– ص:67. [22]– ص:68. [23]– نفسه. [24] – ص:79. [25] – "الشعر المتفلت من التفعيلة إلى النثر" – د. عدنان علي رضى النحوي – ص:60. [26] – "النقد الأدبي الحديث" – د. غنيمي هلال" – ص:374. [27] – "الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه" – ص:221. [28] – ص: 82. [29] – "قضية الشعر الجديد" – د. محمد النويهي – ص: 93. [30] – "الأدب والحياة" – الخلاصة أحمد – ص: 106. [31]– "قضايا الشعر المعاصر" – ص: 34. [32] – تقول نازك الملائكة في معرض ردها على الذين ركبوا "الشعر الحر"، ونادوا بإهمال القافية:"وكان هذا صدى للشعر الغربي، وهو قد عرف الشعر المرسل الذي يخلو من القافية منذ مسرح شكسبير. والشعر الغربي اليوم أغلبه بلا قافية.. على أننا لا نملك إلا أن نلاحظ الذين ينادون بنبذ القافية، هم – غالبا – الشعراء الذين يرتكبون الأخطاء النحوية واللغوية العروضية الشنيعة، مما يخشى معه أن تكون مناداة بعضهم بنبذ القافية تهربا إلى السهولة، وتخلصا من العبء اللغوي الذي تلقيه القافية على الشاعر" – "قضايا الشعر المعاصر" – ص: 36. [33] – "صفحات مضيئة من تراث الإسلام" – أنور الجندي – ص: 179. [34]– تنظر: جريدة "المسلمون"ع:279 – 8/6/1990. [35]– ص:81.