بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من صار على نهجهم إلى يوم الدين؛ وبعد، فإن خير ما تنفق فيه نفائس الأعمار والأوقات، وينشغل به المرء في الفراغات، وتصرف إليه جواهر الأفكار، وتستعمل فيه الأسماع والأبصار، النظر في خير العلوم وأفضلها، وأقربها إلى الله وأكملها، علم الدين المحكم، المبين لما اشتملت عليه الشريعة من الأسرار والحكم، إذ به يعرف الحلال والحرام، ولا يستغني عنه أحد من الأنام، ويستوي في طلبه الخاص والعام. نظر يهدف إلى دراسة وتحليل، وتدقيق وتعليل، مستمد من كتاب رب العالمين، ومرصع بأقوال الرسول المصطفى الأمين، وموشح بفهم علماء الأمة القدماء منهم والمحدثين. ولما جرى ببعض كتب العلم -قديما وحديثا- الذي أرجو من الله أن لا تركد ريحه، ولا أن تخبت مصابيحه، ذكرُ فهومات واستنباطات لنصوص يحار فيها الفهم، ويفرط فيها الوهم، اجتهد فيها المجتهدون، فكانوا بين المقل والمستكثر، فما المكثار سَلم من الاعتراض، ولا المقل أقيل له عثار، فاستخرت ربي أولا، ثم استشرت مع من إشارته سداد، وطاعته رشاد، في أن أكتب تأليفا أتلو فيه تلو الفضلاء، وإن كنت على يقين، أنه لن يدرك الظالع شأو الضليع، وأنه في مثل هذا المقام، تتبين قيمة الأولين السابقين في الفضل، فيخشى المتبع أن يكون كحاطب ليل، أو جالب رجل وخيل، مع ما نعانيه في هذا الزمان من فطنة قد خمدت، وقريحة قد جمدت، وروية قد نضبت، فالمتصدي بعد هؤلاء الذين هم سباق غايات، ولو أوتي من العلم ما أوتي فلن يغترف إلا من فضالاتهم، ولن يستنير إلا بإرشاداتهم، ولن يستضيئ إلا بأنوارهم، ولن يسري مسرى إلا بدلالاتهم. فعزمت أن أكتب في مجال يكثر فيه الوهم ويخون فيه الفهم، الفهم الذي مَن أوتيه فقد أوتي خيرا كثيرا. قال ابن رشد الجد: (في أن العلم ليس في كثرة الرواية قال: وسمعته يقول: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في القلوب. قال محمد بن رشد: النور الذي يضعه الله في القلوب، هو الفهم الذي به تستبين المعاني فيتفقه فيما حمل، فشبه ذلك بالنور وهو الضياء الذي به ينكشف الظلام، فمن لم يكن معه ذلك النور، فهو بمنزلة الحمار فيما حمل من كثرة الروايات يحمل أسفارا. فمن أراد الله به خيرا أعطاه من ذلك النور. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين». وقال الله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا} [البقرة: 269] قال مالك: هو الفقه في دين الله. وقد أثنى الله عز وجل على من آتاه الفهم، فقال: {ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما} [الأنبياء: 79]. والحكم الفهم والفقه، والله أعلم، وبه تعالى التوفيق).[1] وأنا أتصفح كتب الفروع والأصول، وأنقد المقالة بعين المنقول والمعقول، وأنعم النظر في مباني الأصول، لاحت لي نعمة الفهم جلية قد زُحزح عنها الكثيرون، الذين جاءوا بهذر قد أوردوه، وبكلام عجاب قد سطروه، يخالف الصحيح المنقول، والصريح المعقول، والفطرة السوية المعتدلة، فكانوا مضغة سهلة للماضغين وكالباحثين عن حتفهم بظلفهم، والجادعين مارن أنفهم بكفهم، فكانوا من الأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. علما أن الضلال في هذه الأبواب ليس من قبيل التأصيل، وإنما هو من قبيل فهم الدليل، فالكل يدعي وصلا بليلى وليلى لا تقر لهم بذاك. ومن أخطر القضايا التي تمت لهذا الموضوع بالصلة الوثيقة، جريان النصوص على ظاهرها وما يتبع ذلك من أثر بالغ السوء في مكونات الدين الإسلامي الحنيف، عقيدة وشريعة وآدابا. ولا أقصد بالنصوص هنا المصطلح الأصولي للنص وإنما المقصود الخطاب الشرعي المشتمل على آية أو حديث. لذا أردت أن أدلو بدلوي في هذا الموضوع الخطير بعد الاستخارة والاستشارة، فكتبت هذا البحث المتواضع سائلا المولى عز وجل أن يتقبله مني بقبول حسن إنه ولي ذلك والقادر عليه. وقد تكوَّن هيكل البحث من المباحث التالية: المبحث الأول: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في العقيدة المبحث الثاني: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في السياسة الشرعية المبحث الثالث: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في الأحكام المبحث الرابع: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في الآداب الشرعية
وقد ختمت البحث بالنتائج والتوصيات وأسماء المصادر والمراجع وأدعو الله تعالى أن يكون ما كتبت في ميزان حسناتي وميزان حسنات والدي الكريمين ومن له فضل علي. المبحث الأول: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في العقيدة قال أبو الحسن الأشعري المتوفى (سنة 324 هج): (فصل في قول أهل الزيغ والبدع: أما بعد: فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدَر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأوَّلوا القرآن على آرائهم تأويلا لم يُنزل به الله سلطانا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين…)[2] فمن المعلوم أن الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد. قال تعالى: "إنا كل شيء خلقناه بقدر" (القمر: 49). وقال تعالى: "وخلق كل شيء فقدره تقديرا" (الفرقان: 2). وقال تعالى: "والله خلقكم وما تعملون" (الصافات: 96). وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا: أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فَرُّوا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه! ولكن صاروا كالمستجير من الرمضاء بالنار! فإنهم هربوا من شيء فوقعوا فيما هو شر منه! فإنه -أولا- يلزمهم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه -على قولهم- والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! وهذا من أقبح الاعتقاد. ثانيا: أنه يلزم على قولهم أنه يقع في ملك الله ما لا يريد. قال عمر بن الهيثم: خرجنا في سفينة، وصحبَنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله فقال القدري: إن الله يريد، ولكن الشيطان لا يريد! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان! هذا شيطان قوي!! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما. ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال: يا هؤلاء إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها علي، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت، فارددها عليه! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك! قال: ولِم؟ قال: أخاف -كما أراد أن لا تسرق فسرقت -أن يريد ردها فلا ترد). [3] قلت: ولو لا ثبوت هذه العقائد في كتب القوم لقلنا إن هذا لضرب من الخيال أو افتراء على أصحاب المقال فاللهم لا شماتة. المبحث الثاني: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في السياسة الشرعية والضلال في هذا الباب يعتبر من أخطر الضلالات، إذ بسببه كُفِّر الأنام، وسُفكت الدماء وفُصلت الأعناق عن الأجسام، وخُرج على الحكام، واشتعلت نارُ الفتنة التي يعجز عن إطفائها الحكماء والعقلاء. ومن أبرز الفِرق التي ضلت في هذا الباب، الخوارج الذين وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأبشع الأوصاف ونعتهم بأقبح النعوت فقال: "الخوارج كلاب النار"[4] وقال: "يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" وقال: " لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"[5] فمن غرائب عقائدهم أنهم كفروا عليا رضي الله عنه وحملوا عليه السلاح، وقتلوا كل من خالفهم، لا يرقبون في مؤمن ولا مؤمنة إلا ولا ذمة، غير مفرقين في ذلك بين رجل وامرأة، ولا بين كبير وصغير، حتى بلغ بهم الضلال مبلغه، فبقروا بطون النساء وذبحوا الأجنة، وكل ذلك فعلوه باسم الدين ودفاعا عن الإسلام زعموا. فنعوذ بالله من سوق الشهوات إلى سوق الشبهات، ومن نقل الخطوات إلى خطط الخطيئات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فالخوارج مع أنهم مارقون يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، وقد أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بقتالهم، واتفق الصحابة، وعلماء المسلمين على قتالهم، وصح فيهم الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من عشرة أوجه رواها مسلم. [في صحيحه] روى البخاري ثلاثة منها، ليسوا ممن يتعمد الكذب، بل هم معروفون بالصدق حتى يقال: إن حديثهم من أصح الحديث لكنهم جهلوا، وضلوا في بدعتهم، ولم تكن بدعتهم عن زندقة، وإلحاد، بل عن جهل وضلال في معرفة معاني الكتاب.)[6] المبحث الثالث: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في الأحكام من الفرق الزائغة عن الحق المائلة بأهوائها عن الجادة في هذا الباب، الخوارج كذلك، الذين اتبعوا سبيل غير المؤمنين فضلوا في الأصول والفروع فجاءوا بفقه عجيب وفهم غريب، فمن ذلك أنهم كانوا يرون أن السارق تقطع يده بالبيضة يسرقها، استنادا إلى ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم [7] بدون الرجوع إلى فهم الجيل الفريد جيل الصحابة الكرام الذين أعلنوا القطيعة معه. قال ابن بطال: (وقال ابن قتيبة: احتج الخوارج بهذا الحديث وقالوا: القطع يجب فى قليل الأشياء وكثيرها. قال: ولا حجة لهم فيه، وذلك أن الله لما أنزل على رسوله: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] الآية. قال (صلى الله عليه وسلم): (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده) على ظاهر ما نزل الله عليه فى ذلك الوقت، ثم أعلمه الله أن القطع لا يكون إلا فى ربع دينار فما فوقه على ما رواه الزهري، عن عمرة، عن عائشة قالت: سمعت النبى (صلى الله عليه وسلم) يقول: (لا قطع إلا فى ربع دينار فصاعدا)، ولم يكن يعلم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من حكم الله إلا ما أعلمه الله وما كان الله عرفه ذلك جملة؛ بل كان ينزل عليه شيئا بعد شىء ويأتيه جبريل بالسنن كما يأتيه بالقرآن، ولذلك قال (صلى الله عليه وسلم): (أوتيت الكتاب ومثله معه)، يعنى من السنن. وأما قول الأعمش: إن البيضة فى هذا الحديث بيضة الحديد التى تغفر الرأس فى الحرب، وأن الحبل من حبال السفن فهذا تأويل لا يجوز عند من يعرف صحيح كلام العرب؛ لأن كل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة. وهذا ليس موضع تكثير لما يسرقه السارق ولا من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانا عرض نفسه للضرب فى عقد جوهر وتعرض للعقوبة بالغلول فى جراب مسك، وإنما العادة فى مثل هذا أن يقال: لعنه الله تعرض لقطع اليد فى حبل رث أو كبة شعر أو رداء خلِق، وكل ما كان من هذا الفن كان أبلغ….)[8] ونقل الحافظ ابن حجر عن الخطابي توجيهه للحديث فقال: (وإنما وجه الحديث وتأويله ذم السرقة وتهجين أمرها وتحذير سوء مغبتها فيما قلَّ وكثر من المال كأنه يقول إن سرقة الشيء اليسير الذي لا قيمة له كالبيضة المذرة والحبل الخلِق الذي لا قيمة له إذا تعاطاه فاستمرت به العادة لم ييأس أن يؤديه ذلك إلى سرقة ما فوقها حتى يبلغ قدر ما تقطع فيه اليد، فتقطع يده، كأنه يقول فليحذر هذا الفعل وليتوقه قبل أن تملكه العادة ويمرن عليها ليسلم من سوء مغبته ووخيم عاقبته)[9] وما العلامة ابن حزم رحمه الله من الخوارج ببعيد، فهو مع كونه رأسا في علوم الإسلام، ولم يصل إلى درجة الضلال الذي وقع فيها هؤلاء، إلا أنه لما أدى به اجتهاده إلى القول بنفي القياس مطلقا والأخذ بظواهر النصوص، شذ بآرائه هو كذلك عن الفقهاء ولم يكتف بذلك فإنه لم يتأدب معهم في الخطاب، (بل فجج العبارة، وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله، بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة، وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقادا واستفادة، وأخذا ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجا في الرصف بالخرز المهين، فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزؤون….)[10] فمن آرائه الغريبة: أنه أوجب على من صلى ركعتي الفجر أن يضطجع على شقه الأيمن قبل صلاة الفجر، سواء صلاها في وقتها أو قاضيا لها من نسيان أو عمد نوم. فإن عجز عن الضجعة، أشار إلى ذلك حسب طاقته . ولم يجز له أن يصلي الصبح، إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن. قال رحمه الله: (مسألة: كل من ركع ركعتي الفجر لم تجزه صلاة الصبح إلا بأن يضطجع على شقه الأيمن بين سلامه من ركعتي الفجر، وبين تكبيره لصلاة الصبح. وسواء -عندنا- ترك الضجعة عمدا أو نسيانا؛ وسواء صلاها في وقتها أو صلاها قاضيا لها من نسيان، أو عمد نوم. فإن لم يصل ركعتي الفجر لم يلزمه أن يضطجع، فإن عجز عن الضجعة على اليمين لخوف، أو مرض، أو غير ذلك أشار إلى ذلك حسب طاقته فقط؟)[11] مع أنه رحمه الله لو أعطى للنص حقه من التأمل كما فعل الفقهاء، لاهتدى كما اهتدوا، ولعلم أن الحكمة من هذا الاضطجاع هي الاستراحة من تعب قيام الليل حتى يجدد الإنسان نشاطه لصلاة الفجر فإذا كان متعباً من تهجده فإنه يستريح ويضطجع على جنبه الأيمن، لكن بشرط ألا يخشى أن يغلبه النوم فتفوته الصلاة، فإن خشي فلا ينم. ومن غرائب آرائه رحمه الله أنه أبطل نكاح البكر إذا تكلمت بالرضا أو المنع فقال: (مسألة: وكل ثيب فإذنها في نكاحها لا يكون إلا بكلامها بما يعرف به رضاها، وكل بكر فلا يكون إذنها في نكاحها إلا بسكوتها، فإن سكتت فقد أذنت ولزمها النكاح، فإن تكلمت بالرضا أو بالمنع أو غير ذلك، فلا ينعقد بهذا نكاح عليها.)[12] والأعجب من ذلك أنه يستغرب من مخالفيه فيقول: ( فذهب قوم من الخوالف إلى أن البكر إن تكلمت بالرضا فإن النكاح يصح بذلك خلافا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم- وعلى الصحابة -رضي الله عنهم-، فسبحان الذي أوهمهم أنهم أصح أذهانا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأوقع في نفوسهم أنهم وقفوا على فهم وبيان غاب عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نعوذ بالله عن مثل هذا.)[13] وكذلك أقول إن سياق النص يوضح أن البكر عادة ما تستحيي ولهذا استفهمت عائشة رضي الله عنها بقولها: «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ: تُسْتَأْمَرُ النِّسَاءُ فِي أَبْضَاعِهِنَّ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: إنَّ الْبِكْرَ تُسْتَأْمَرُ فَتَسْتَحِي فَتَسْكُتُ، فَقَالَ: سُكَاتُهَا إذْنُهَا». وعلى كل حال فليس المقصود من ذكر هذه الأمثلة الازدراء بابن حزم، فإنه كما قال الإمام الذهبي: (وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-….. وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكبا على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار…)[14].
المبحث الرابع: جريان النصوص على ظاهرها وأثره في الآداب الشرعية وهو بيت القصيد والحامل لي على الكتابة والتقييد، إذ كانت تمر بي – وأنا طالب في الجامعة – نصوص في الآداب الشرعية، تحمل في طيها أوامر و نواهي ، صرفها العلماء إلى الندب والكراهة من غير ذكر لتعليل واضح ، كما كان صنيعهم مع الأوامر والنواهي في نصوص الأحكام ،حيث لم يكتفوا بالإشارة العابرة وهم يتكلمون عن الصوارف ، بل كانوا يبرهنون بالقرائن المتصلة والمنفصلة وبكل إسهاب وتفصيل، مبينين أسباب عدم حملهم للأوامر والنواهي على ظاهرها. وكانت نتيجة البحث كالتالي: فمن خلال استعراض نصوص العلماء واستقراءها، وكذلك بالرجوع إلى أدلتهم التي استندوا إليها، وبالرجوع كذلك إلى رأي المخالفين لهم وإلى الأدلة التي استدلوا بها، يتبين أن رأي الجمهور وجيه وراجح للأدلة التالية : أولا : الاستقراء الذي يعتبر من أقوى الأدلة على صحة الشيء أو على عدمه، فبعد الرجوع إلى كلام أهل العلم وجدناهم قد نصوا على أن هناك أوامر المقصود منها الإرشاد لا الوجوب، و نواهي المقصود منها الإرشاد والأدب لا التحريم، وهذا أمر راسخ في أذهانهم بل حتى عند الصحابة رضي الله عنهم. فما الصارف اللفظي الذي جعل أبا بكر رضي الله عنه لا يمتثل لأمر النبي عليه الصلاة والسلام وهو يأمره أن يظل في مكانه ويؤم الناس ، وما الصارف اللفظي الذي جعل أبا بكر رضي الله عنه يدرك أن أمره عليه الصلاة والسلام في هذه النازلة ليس للوجوب وإنما هو للأدب. فالقول بوجوب الأخذ بظواهر الأمر يفيد تخطئة أبي بكر رضي الله عنه ويستلزمه، وهو الأمر الذي لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك لا أحد خطأ عليا رضي الله عنه وهو يمتنع عن امتثال أمر الرسول بمحو اسمه في صلح الحديبية لأنه عليه الصلاة والسلام لم يخطئه، وعدم معاتبته له إقرار منه عليه الصلاة والسلام على فهم علي رضي الله عنه. فهذه الصوارف المعنوية كانت حاضرة في عقول الصحابة رضي الله عنهم، ومستقرة في أذهانهم قبل عصر تدوين الأدلة والتأصيل لها. ثانيا: بكثرة إمعان العلماء في نصوص الوحيين، والإدمان في النظر فيهما، تصبح لديهم ملكة يفهمون من خلالها أن الأمر ليس في درجة واحدة، وذلك راجع إلى علمهم بالمقاصد وإحاطتهم للمعاني والمناسبات، فقهموا من الأوامر أو النواهي قصد الشارع بحسب الاستقراء، وما يقترن بها من القرائن الحالية أو المقالية الدالة على أعيان المصالح في المأمورات والمنهيات، فإن المفهوم من قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة )[15] المحافظة عليها والاستدامة عليها، ومن قول النبي عليه الصلاة والسلام : " أكلفوا من العمل ما لكم به طاقة "[16]، الرفق بالمكلف مخافة السآمة وليس المقصود نفس التقليل من العبادة ، أو ترك الدوام على التوجه لله .[17] وهذا شبيه بصنيع المحدثين الذين أشربوا حب الحديث حتى اختلط بعروقهم ودمائهم، فكانوا- وقبل أن يعرضوا حديث النبي على القواعد والأصول- يجزمون أنه ليس بحديث، إنها الدربة والملكة المكتسبة من كثرة النظر والإمعان في أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام. قال ابن كثير : (النوع الثامن عشر : المعلل من الحديث وهو فن خفي على كثير من علماء الحديث، حتى قال بعض حفاظهم: معرفتنا بهذا كهانة عند الجاهل. وإنما يهتدي إلى تحقيق هذا الفن الجهابذة النقاد منهم، يميزون بين صحيح الحديث وسقيمه، ومعوجه ومستقيمه، كما يميز الصيرفي البصير بصناعته بين الجياد والسيوف، والدنانير والفلوس،. فكما لا يتمارى هذا، كذلك يقطع ذاك بما ذكرناه، ومنهم من يظن، ومنهم من يقف، بحسب مراتب علومهم وحذقهم واطلاعهم على طرق الحديث، وذوقهم حلاوة عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم التي لا يشبهها غيرها من ألفاظ الناس. فمن الأحاديث المروية ما عليه أنوار النبوة، ومنها ما وقع فيه تغيير لفظ أو زيادة باطلة أو مجازفة أو نحو ذلك، يدركها البصير من أهل هذه الصناعة.)[18] ثالثا : الحكم للغالب من المعلوم أن العلماء استقرؤوا النصوص الشرعية، فوجدوا أن الأحكام تبنى على الغالب، وأن النادر لا حكم له. قال القرافي : (الأصل اعتبار الغالب وتقديمه على النادر وهو شأن الشريعة، كما يقدم الغالب في طهارة المياه وعقود المسلمين ويمنع شهادة الأعداء والخصوم لأن الغالب منهم الحيف.)[19] وبعد جمع ما تيسر جمعه من أحاديث في باب الآداب الشرعية ، وبعد النظر في معانيها ومدلولاتها تبين ما يلي : أولا : أن جميع هذه الأحاديث كان رأي جمهور العلماء فيها ، هو عدم حمل ألفاظ الأمر والنهي التي جاءت فيها على ظاهرها، وأنها مصروفة بمقتضى دلالة الحال . ثانيا : اتفق فقهاء الأئمة الأربعة على أن الأوامر والنواهي الواردة في معظم هذه الأحاديث، ليست على إطلاقها خلافا للظاهرية ومن سلك مسلكهم. ثالثا : أن بعض الأحاديث التي حمل العلماء ألفاظ الأمر والنهي الواردة فيها على ظاهرها. إنما كان ذلك بالاستعانة بالقرائن والمناسبات لا بظاهر الأمر أو النهي حقيقة. فإن جرى عمل جميع فقهاء المذاهب غالبا وجمهورهم دائما على عدم حمل الأوامر والنواهي على ظاهرها ، وذلك في نصوص الآداب الشرعية ، فإن عملهم حجة يجب المصير إليه، والذي دل على أن دلالة الأمر والنهي في نصوص الآداب ، تختلف عن دلالة الأمر والنهي في نصوص الأحكام ، فالأصل في الآداب أن تحمل على الندب في الغالب ولا مانع من حملها على غيره عند اقتضاء الحال والله تعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الخاتمة تشتمل خاتمة البحث على أهم النتائج والتوصيات: أولا: أهم النتائج 1 ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يضعه الله في قلوب من شاء من عباده 2 النور الذي يضعه الله في القلوب، هو الفهم الذي به تستبين المعاني 3 المعلوم أن الذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد 4 يلزم على قول القدرية والمعتزلة أنه يقع في ملك الله ما لا يريد، وهذا من أقبح الاعتقاد 5 الخوارج ضلوا في بدعتهم، ولم تكن بدعتهم عن زندقة، بل عن جهل وضلال في فهم معاني الخطاب الشرعي 6 الخطأ في باب الأحكام أهون بكثير من الخطأ في باب العقيدة 7 الأخذ بظواهر النصوص مطلقا، وفصلها عن المعاني والمناسبات، يعتبر فسادا في الفهم يؤدي إلى فساد في التطبيق 8 الأحكام تبنى على الغالب، والنادر لا حكم له ثانيا: أهم التوصيات 1 الإمساك عن الخوض في أمور الشريعة خاصة، لأن المخطئ إما أن ينسب إلى البدعة، أو إلى الكفر والعياذ بالله. 2 كما أوصي كل من تتشوف له نفسه إلى الفتوى في أحكام الشرع الحنيف، بمعرفة قصود الشارع المرتبطة بنصوصه وأن يكون أهلا لدفع التعارض الظاهر بين الأدلة، أو الترجيح عند تعذر الجمع بينها. أهم المصادر والمراجع 1 القرءان الكريم 2 الإبانة عن أصول الديانة، أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، تحقيق: فوقية حسين محمود، (القاهرة: دار الأنصار، 1397ه، ط 1). 3 الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة، أبو عبد الله بن محمد بطة العكبري 387ه دار الراية المملكة العربية السعودية 1418ه ط2، ت: عثمان عبد الله آدم الأثيوبي 4 الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي، (دار النشر: دار الكتب العلمية بيروت 1998م الطبعة الأولى، ت: خليل منصور 5 الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث أبو الفداء إسماعيل ابن كثي، دار النشر: مؤسسة قرطبة 6 البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، تحقيق: محمد حجي وآخرون، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1408 ه – 1988 م، ط 2). 7 سنن ابن ماجة، أبو عبد الله محمد بن يزيد القزويني، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي دار الفكر بيروت 8 سير أعلام النبلاء، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي، المحقق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، ( مؤسسة الرسالة، بيروت 1405 ه – 1985 م، ط 3 ) 9 شرح العقيدة الطحاوية، صدر الدين محمد بن علاء الدين ابن أبي العز الحنفي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عبد الله بن المحسن التركي، (بيروت: مؤسسة الرسالة، 1417ه – 1997م، ط 10) 10 شرح صحيح البخارى لابن بطال، ابن بطال أبو الحسن علي بن خلف بن عبد الملك،، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، (السعودية، الرياض: مكتبة الرشد، 1423ه – 2003م، ط 2 ) 11 صحيح البخاري للإمام أبي عبد الله البخاري ت 256 ه ط دار الفكر بيروت 1981 وط 3 دار ابن كثير بيروت1987 ت: دكتور مصطفى ديب البغا 12 صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج النيسابوري ت 261 ه . ط دار الفكر بيروت . ط دار إحياء التراث بيروت، ت: محمد فؤاد عبد الباقي 13 فتح الباري شرح صحيح البخاري، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي، تحقيق: محمود بن شعبان بن عبد المقصود، مجدي بن عبد الخالق الشافعي، إبراهيم بن إسماعيل القاضي، السيد عزت المرسي، محمد بن عوض المنقوش، صلاح بن سالم المصراتي، علاء بن مصطفى بن همام، صبري بن عبد الخالق الشافعي، (المدينة النبوية: مكتبة الغرباء الأثرية، القاهرة: مكتب تحقيق دار الحرمين، 1417 ه – 1996 م، ط 1). 14 المحلى بالآثار، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري، (بيروت: دار الفكر، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي). 15 مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، تحقيق: شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، (مكان النشر ؟: مؤسسة الرسالة، 1421 ه – 2001 م، ط 1). 16 منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية الحراني، تحقيق: محمد رشاد سالم، (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1406 ه – 1986 م، ط 1). 17 الموافقات، إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبي، المحقق: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، (مكان النشر؟: دار ابن عفان، 1417ه- 1997م، ط 1). الهوامش: [1] – البيان والتحصيل 17/294 . [2] – الإبانة عن أصول الديانة 1/15 . [3] – ينظر بتصرف شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز مؤسسة الرسالة 1/323 . [4] – أخرجه بهذا اللفظ ابن ماجة في سننه وصححه الشيخ الألباني 1/61 وفي رواية عند الإمام أحمد : (دخل أبو أمامة الباهلي دمشق فرأى رءوس حروراء قد نصبت فقال: «كلاب النار كلاب النار، ثلاثا، شر قتلى تحت ظل السماء، خير قتلى من قتلوا» ثم بكى فقام إليه رجل فقال: يا أبا أمامة هذا الذي تقول من رأيك أم سمعته؟ قال: إني إذا لجريء كيف أقول هذا عن رأي؟ قال: قد سمعته غير مرة ولا مرتين. قال: فما يبكيك؟ قال: أبكي لخروجهم من الإسلام هؤلاء الذين تفرقوا واتخذوا دينهم شيعا ) المسند مخرجا 36/654. [5] – عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: بعث علي رضي الله عنه، إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين الأربعة الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم المجاشعي، وعيينة بن بدر الفزاري، وزيد الطائي، ثم أحد بني نبهان، وعلقمة بن علاثة العامري، ثم أحد بني كلاب، فغضبت قريش، والأنصار، قالوا: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا، قال: «إنما أتألفهم». فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية محلوق، فقال: اتق الله يا محمد، فقال: «من يطع الله إذا عصيت؟ أيأمنني الله على أهل الأرض فلا تأمنوني» فسأله رجل قتله، – أحسبه خالد بن الوليد – فمنعه، فلما ولى قال: " إن من ضئضئ هذا، أو: في عقب هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ") أخرجه البخاري في صحيحه 4/137 ومسلم في صحيحه 2/742. [6] – منهاج السنة النبوية 1/68. [7] – عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لعن الله السارق، يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده» قال الأعمش: «كانوا يرون أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أنه منها ما يسوى دراهم» أخرجه البخاري في صحيحه 8/159 ومسلم في صحيحه 3/1314 [8] – شرح صحيح البخاري 8/401 [9] – فتح الباري 12/82 [10] – سير أعلام النبلاء ط الرسالة 18/186 وما بعده [11] – المحلى بالآثار 2/228 . [12] – المحلى بالآثار 9/57. [13] – المصدر السابق نفسه 9/58. [14] – سير أعلام النبلاء ط الرسالة 18/187. [15] – سورة البقرة الآية ( 43 ) [16] – أخرجه الإمام مالك في موطئه : ت عبد الباقي 1/118 والإمام أحمد في مسنده: ط الرسالة 42/299 وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع 1/266 [17] – ينظر : الموافقات للشاطبي 3/412 [18] – الباعث الحثيث إلى اختصار علوم الحديث ص 64 [19] – الفروق 4/104