هوية بريس – الخميس 25 يونيو 2015 معلوم أن مدار المقاصد الشرعية على دراسة المصالح من جهة؛ بمعرفة مدى وقوعها وتحققها، والموازنة بين جنس المصالح بمعرفة أقواها من حيث التطبيق، ومحاولة تكثيرها وإيجادها ما أمكن ذلك. ومعرفة المفاسد من جهة ثانية، ومدى تحققها، ومعرفة قوتها، هل هي مساوية لجنسها من المفاسد أم أقل منها خطرا؟ وهل تفوق المصالح من حيث قوة تأثيرها حالا أو مآلا؟ فيعمل المجتهد على درئها والتقليل منها ما أمكن ذلك. وقد يؤول الحكم المفتى به إلى مفسدة راجحة، أو إلى مصلحة راجحة؛ فإن كان الأول وجب النظر في الحكم بما يحقق المصلحة، وإلا وقع الحكم على خلاف مقصود الشارع، إذ أن المقصد الأسمى من وضع الشرائع هو تحقيق مصالح العباد في الدارين، ومخالفة هذا المبدأ مخالفة للشرع جملة وتفصيلا. ولأن الشريعة أنزلت للبشرية وتستمر في حياتهم عبر القرون والأجيال، فإنها تتضمن مصالح مستمرة تعطي من خلالها استمرارا للنص في الزمان والمكان. ومما يوضح ذلك أن علماء الشريعة عبروا عن هذا بتعبيرات مختلفة، لكنها تحوم على معنى جلب المصالح ودرء المفاسد كقولهم: – "الشريعة نفع ودفع – الشريعة جاءت لجلب المصالح وتكثيرها ودرء المفاسد وتقليلها – الشريعة إنما وضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل – حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله، وحيثما كان شرع الله فثم المصلحة"1. والمجال السياسي بحاجة إلى هذه النظرة المصلحية التي تجلب المصالح للعباد وتدرأ عنهم المفاسد، باعتماد التطبيق المقاصدي القائم أساسا على هذا المبدأ العظيم، ومبررات ذلك كثيرة منها: – طبيعة النصوص والأدلة والآثار المنطوية على مقاصدها ومصالحها جلبا، ومفاسدها وأضرارها درء. – طبيعة الحوادث والمستجدات الكونية والإنسانية، التي تقتضي المعالجة الشرعية لها وفق المنظور المقاصدي المتين، ومن ثم فإن تطبيق المقاصد في حياة الناس أمر لا بد منه ولا محيد عنه". وكل أحكام الشريعة بلا استثناء قائمة على جلب المصالح ودرء المفاسد، في جميع مجالاتها المختلفة. وسنقف على بعض النماذج التي أوردها سلطان العلماء وبائع الأمراء، في كتابه قواعد الأحكام: ففي باب العقوبات باعتبارها بابا من أبوب السياسة الشرعية نجده يقرر على أن: "الزواجر مشروعة لدرء المفاسد"2. فما شرعت العقوبات إلا حفظا على الدين، بدرء ما يشوبه ويؤثر عليه، حفاظا على مصالح الناس، لذلك فإن العقوبة الشرعية بمثابة تأديب للمكلف للكف عن ما يهدد مصالحه الدينية والدنيوية. والدليل على أن العقوبات كلها مصالح تحفظ أحد الضروريات الخمس أو كلها أو بعضها، أن العقوبات لا تقع إلا إذا توفرت فيها الشروط والأركان، فلا يجلد أحد في حر شديد، ولا تجلد المرأة وهي حاملة أو مرضعة… وفي باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، باعتباره يحقق مقاصد الشرع ويسعى إلى الحفاظ عليها من جانب الوجود ومن جانب العدم، يقول: "الأمر بالمعروف وسيلة إلى تحصيل مصالح ذلك المعروف… والنهي عن المنكر وسيلة إلى دفع مفسدة ذلك المنكر"3. يقول الشاطبي: "والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين، وإظهار شعائر الإسلام"4. وداخل باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتباره من أصول السياسة الشرعية؛ لأنها قائمة على هذا الأصل، لا تستقيم دولة عادلة إلا باعتماده، نجده يربط هذا الأصل بإقامة العدل، كما نجده يحدد مقاصده، فيقرر أن أعظم قاعدة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي الآية الكريمة: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ"5. وهذه القاعدة هي قاعدة مقاصدية بامتياز لأنها قائمة على موضوع المصلحة والمفسدة وكيفية الموازنة بينهما من جهة، وبين جنس كل واحدة منها من جهة أخرى، يقول العز بن عبد السلام في سياق حديثه عن وسائل التي تعرف بها المصالح والمفاسد: "الذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم"6. فأكد -رحمه الله- أن الطب الذي وضعه الله عز وجل، شأنه شأن الشريعة فهما قائمان أساسا على مصلحة العبد ولا يتصور أن واضع الطب لمصلحة الناس يمكنه وضع الشرع كذلك لغير مصالحهم، فهما معللان بجلب منافع الناس في العاجل والآجل، وإن شرع الطب للتداوي وللصحة في الدنيا فإنه وضع الشرع للتداوي به في العاجل والآجل أيضا، وذلك لإقامة الصحة العقلية والقلبية قبل السلامة الجسدية، لتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية، يقول العز -رحمه الله-: "والسعادة كلها في اتباع الشريعة في كل ما ورد وصدر، ونبذ الهوى فيما يخالفها. فالغاية الكبرى من إنزال القرآن هو إقامة مصالح الناس والسعي إلى تحصيلها، ولذلك فإن كل من تعبد لله عز وجل حسن العبادة فإنه يرزقه من حيث لا يحتسب وهذه مصلحة كبيرة للعبد جزاء طاعته. 1- أحمد الريسوني: الاجتهاد بين النص والمصلحة والواقع، ص:30. 2- قواعد الأحكام، 1/150. 3- القواعد، 1/112. 4- الموافقات، 1/237. 5- سورة النحل، الآية:90. 6- قواعد الأحكام، 1/8. * باحث في العلوم الشرعية.