هذه المقالة هي مقتطف من بحث علمي أعده و شارك به الطالب الباحث أحمد بزيد بارك الله في مسابقة البحث العلمي المسماة (أولمبياد المقاصد)، بعنوان : ((إعمال مقاصد الشريعة في ترشيد الفقه السياسي وفقه التدين من خلال كتاب مقاصد المقاصد للدكتور احمد الريسوني)) ونال به الجائزة الأولى المسماة (جائزة سلطان الطلبة )، وتسلمها من يدي مدير مركز المقاصد للدراسات والبحوث الدكتور أحمد الريسوني، بحضور عميد الكلية الدكتور بلاوي عبد العزيز في شهر يونيو 2014 ، بمدرج العلامة المختار السوسي /كلية الشريعة بمدينة أكادير. يعرف الريسوني مفهوم السياسة الشرعية في كتابه المسمى (مقاصد المقاصد ) بقوله: « هي كل اجتهاد أو عمل يتعلق بتدبير الشؤون العامة للناس، ويرمي إلى جلب المصالح لهم أو تكثيرها، ودرء المفاسد عنهم أو تقليلها» ، وقديما عرفها ابن عقيل بقوله :« السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد» ، وتشمل السياسة الشرعية - ضمن ما تشمله عموما - إقامة النظام والأمن وتدبير العلاقات الخارجية واعتماد الأنظمة والتدابير والصيغ التنفيذية لأحكام الشريعة ،وفروض الكفايات كالتعليم والصحة والقضاء والحسبة ...لكن كل هذه الوظائف والمجالات نجدها محكومة بسمتين هما: اعتمادها الواسع على الرأي والتجربة والملائمة المرنة للظروف المتغيرة، وقيامها على جلب المصالح ودرء المفاسد،وهذه السمة بالذات هي المرتبطة أساسا بالمقاصد الشرعية، ولا غنى للمشتغلين في المعترك السياسي عن معرفتها و إدراكها كما يقول الريسوني :«إن كل من يقود العمل السياسي ويمارس السياسة الشرعية يجب ان تكون مقاصد الشريعة عنده هي الميزان لما سيتم والمرآة العاكسة لما تم عليه أن يزن ويراقب خطواته،ويقوم مشروعيتها و مردوديتها بمدى ما تحققه وما تخدمه من مقصد الشريعة من الحفظ والتنمية للضرورات الخمس ،ومن إقامة العدل،وحفظ كرامة الإنسان وعمارة الأرض وحفظ الأمن والوئام وتزكية النفوس وطمأنينتها،وإخراج المكلفين من سلطان الهوى والشهوة الى سلطان الشرع والعلم » لكننا نجد الدكتور الريسوني ينتقد غياب هذا النظر المقاصدي في الواقع السياسي المعاصر، وهو ما نجم عنه قصور وخلل كبير سببه البارز هو «ضحالة العلم بمقاصد الشريعة » ، مما يحتم ضرورة التأسيس لوعي مقاصدي في ممارستنا السياسية،لأجل ذلك ينتقل الريسوني عمليا لتحقيق هذا المبتغى من خلال قاعدة كلية جامعة هي : الأمور بمقاصدها وعواقبها ، ولهذه القاعدة استمدادتها من القرآن والسنة ، وامتداداتها الفقهية من خلال قواعد أخرى كالمقاصد أرواح الأعمال و العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني والأمور بعواقبها، وهي - كما يؤكد الريسوني : « تفيد بمجموعها معنى منهجيا كليا مفاده أن النظر الى الأمور وتقويمها ومعالجتها يجب أن يكون بالاستحضار والاعتبار لجوانبها كافة وخاصة منها ما هو جوهري وبعيد الأثر ». ثم يسوق مثالا عمليا لهذا الاعتبار المآلاي من خلال مشهدين من زمن النبوة ، و هما كتابة وثيقة صلح الحديبية وتذمر بعض الصحابة من بنودها وبعض نتائجه الفورية وكلاهما عند النظر في بعده الآني وأثره المباشر نجده مجحفا ومهينا للمسلمين وممكنا لاستعلاء المشركين و محققا لشروطهم،لكن لم يمض وقت كثير حتى بدا أنه كان فتحا مبينا للإسلام والمسلمين. والعبرة من هذا الأمر كما يقول الريسوني:« أنه لا بأس أحيانا أو لا بد من تقديم تنازلات شكلية أو خفيفة، ومن تحمل أضرار قريبة ومؤقتة إذا علم أو ترجح في تلك الحالة أن العواقب البعيدة والنتائج الكبيرة ستكون مربحة ومريحة فهذا من أهم قواعد السياسة الشرعية والفقه الرشيد» ، وهذا المبدأ هو الذي صيغ في القاعدة الأصولية المشهورة :« ارتكاب أخف الضررين وتفويت أدنى المصلحتين »، ونجد إعمال النبي صلى الله عليه وسلم له في قوله لعائشة رضي الله عنها: « لولا حداثة قومك بالكفر لنقضت البيت، ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه السلام » ، فإعادة بناء الكعبة على قواعد النبي ابراهيم عليه السلام مصلحة لكن نفور أهل مكة من الإسلام بسببها مفسدة، فاقتضى الأمر ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها مراعاة للمآل . ومن القضايا الراهنة ذات الارتباط بهذا السياق المآلي «تولي المناصب» المختلطة بالفساد والحرام كتسيير مؤسسات سياحية أو إعلامية أو فنية تعج بالفواحش والمنكرات أو إدارة أموال وممتلكات يكثر فيها النهب والسلب والتبذير أو غيرها من المجالات والوظائف التي تشتمل على مفاسد ومحرمات وفيها مظالم و تعسفات، لكن الداعي الى توليها والاشتغال فيها هو الاصلاح والمصلحة العامة، فهذه كلها يحتم النظر المآلي اعتبار الفرض الاصلاحي وتقدير ما يرجى تحقيقه ، على عكس النظر الجزئي و الحرفي من الأدلة الشرعية المفضي الى القول بالتحريم، وذلك لعدة اعتبارات يلخصها لنا الريسوني بقوله : « وبهذا الميزان قد يترجح - في حالات معينة - القول بالجواز أو الاستحباب أو حتى الوجوب وذلك لأن اجتناب الصالحين والمصلحين لتولي مثل هذه لمناصب يجعل إصلاحها ميؤوسا منه ويجعلها لا تزداد على مر الأيام إلا فسادا، بينما توليهم لها يقلل من حجم الفساد ويردعه وينمي فيها الصلاح ويشجعه ..» ثم نجده يعمل النظر المآلي في هذا الواقع الفاسد إذا لم يتول المناصب صالحون بقوله : «ومعلوم أن المؤسسات والمرافق العامة إذا فسدت لا يقف فسادها في ذاتها، بل تصبح مصدر إفساد لعموم المجتمع والعكس بالعكس وهذا يضاعف من أهمية العمل على انتشالها وإصلاحها ويجعله مطلبا شرعيا وشعبيا » . إن الناظر في واقعنا اليوم يجد كثيرين يعدون هذا الأمر «ركونا » لأهل الفساد والضلال ومداهنة و ولاءا لهم .ويعتبرون تولي المناصب والوظائف المحفوفة بالحرام ميلا الى الظلم والاستبداد وتطبيعا معه ورضا واعترافا به مستدلين بالنهي الوارد في قول الله تعالى : ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود /113] لذلك كان لزاما علينا في هذا المقام تحرير معنى الركون في الآية وما المراد به في اللغة ؟ وما المراد الشرعي من النهي الوارد في الاية ؟وهل يتنافى مع القواعد الشرعية المقتضية جلب المصالح ودرء المفاسد والموازنة بينهما عند التعارض ؟ يأتي الركون في اللغة على معاني متعددة : فقد يفيد الميل إلى الشئ والسكون عليه ،وقد يأتي بمعنى الإطمئنان الى الشئ والرضا به وعدم مفارقته ، وأما في الشرع فإن المتأمل في أقوال المفسرين يجدهم إنما أرادوا بالركون الوارد في الآية الرضا بالظلم والمشاركة فيه دون نية تدافع أو مدافعة له بقصد رفع الضرر وجلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها كما هو مقتضى فقه الموازنات والمآلات، والنظر المقاصدي الرشيد والسديد . يقول الإمام الشوكاني في تفسير الاية : ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ [هود /113] :« وأما مخالطتهم والدخول عليهم لجلب مصلحة عامة أو خاصة، أو دفع مفسدة عامة أو خاصة مع كراهة ما هم عليه من الظلم وعدم ميل النفس إليهم ومحبتها لهم، وكراهة المواصلة لهم لولا جلب تلك المصلحة، أو دفع تلك المفسدة فعلى فرض صدق مسمى الركون على هذا، فهو مخصص بالأدلة على مشروعية جلب المصالح ودفع المفاسد . وقال النيسابوري في تفسيره: قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة، أو تحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم، ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخلة في الركون » يقول الدكتور سعد الدين العثماني معلقا على الشبهة التي تثار حول فهم المراد من الركون في الآية، بسبب الغفلة أو الجهل بالأصول، خاصة في ميدان العمل الدعوي و السياسي: [ إن الكثيرين لا يزالون يجعلون من آية هود ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ متكأ لإدانة كل خطوة يتعاون فيها دعاة الإسلام مع غيرهم على طاعة أو خير ا أو يستعينون بهم لتحقيق مصالح أو درء مفاسد عنهم ...وهكذا يتضح كيف طبق المفسرون قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد في فهم هذه الاية، ونتيجة الغفلة أو الجهل بهذه الأصول حمل لفظ الركون هنا كما حملت الآية ما لا يحتملان، فاعتبر مجرد المطالبة بحق من الحقوق القانونية المشروعة ركونا الى الظالمين، مع أن المنهي عنه في الآية هو الميل القلبي الى الظالمين ومحبتهم ومساعدتهم في ظلمهم ، أما غير ذلك فهو إما مباح وإما مستحب أو واجب إن رجحت منفعته ومصلحته للمسلمين ودعوة الإسلام ] وهكذا تتبين حاجة الفكر والممارسة السياسية الى ترشيد وتسديد مقاصدي ينفي عنها تأويل الغالين وانتحال المبطلين، ويجعلها مهتدية على نور من ربها، و محققة لمقاصد الشريعة ومصالحها في الحال المآل. أحمد بزيد بارك الله : مجاز في الشريعة والقانون /معد ومقدم برنامج دين ودنيا بقناة العيون الجهوية المراجع : 1 - مقاصد المقاصد الغايا ت العلمية والعملية لمقاصد الشريعة ، ص61 2 - إعلام الموقعين عن رب العالمين ، لمحمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751ه) . تحقيق: محمد عبد السلام إبراهيم الناشر: دار الكتب العلمية - ييروت الطبعة: الأولى، 1411ه - 1991م . 4/283 3- مقاصد المقاصد ص63 4 [1] - مقاصد المقاصد ص63 5 [1] - مقاصد المقاصد ص 65 6 [1] - صحيح البخاري ،باب فضل مكة وبنيانها، عن عائشة برقم 1585 . 2/146 7 [1] - مقاصد المقاصد ص66 8 [1] - مقاصد المقاصد ص 66 9 [1] - محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقى : لسان العرب - دار صادر - بيروت الطبعة الثالثة - 1414 ه 6/218 10 [1] - محمد بن علي بن محمد بن عبد الله الشوكاني اليمني ، فتح القدير الجامع بين فني الرواية من علم التفسير : دار ابن كثير، دار الكلم الطيب - دمشق، بيروت الطبعة: الأولى - 1414 ه 2/602 11 [1] - سعد الدين العثماني : في فقه الدين والسياسة ص 101