أكرمني أخي أحمد الريسوني حفظه الله بهدية ثمينة عنوانها «مقاصد المقاصد: الغايات العلمية والعملية لمقاصد الشريعة» استفدت منها فوائد جمة، وأريد أن أشرك في هذه الدرر غيري، تعميما للخير وإشاعة للعلم النافع، فماذا يريد الكاتب من «مقاصد المقاصد»؟ ولماذا كتب الكتاب؟ وما هي أهم مضامينه؟ وأي إضافة يضيفها إلى مكتبة المقاصد وعلم المقاصد؟ بداية يقر الكاتب بأن مقاصد الشريعة قد شبت عن الطوق وأصبحت علما له استقلاليته وشخصيته العلمية المتميزة، ويريد بكتابه هذا مزيدا من بيان فوائد المقاصد وما تقدمه للبشرية من ثمرات وما تسده من ثغرات، وهذا العلم ليس من النوع الذي يقبع في بطون الكتب ورفوف المكتبات، وإنما هو علم ينساب في حياة الناس، وأضحى «حركة مقاصدية» تحتاج إلى تسديد وترشيد، وقد تجاوز هذا العلم التخصص الأكاديمي واهتمام النخبة العلمية ليصبح «ثقافة مقاصدية» وهي بذلك بحاجة إلى مزيد من تسليط الأضواء على فوائدها وأهدافها، والكتاب يريد من جهة أخرى طمأنة المتخوفين والمتوجسين من هذا «المد المقاصدي» وإشعارهم بأن لهذا العلم أزمته وحدوده وضوابطه تميز بين رجاله و أدعيائه، وأنه لن يجرف أبدا ما هو أصيل وثابت وجميل في الشرع الحنيف. ويقع كتاب «مقاصد المقاصد» في 173 صفحة بحسب طبعته الأولى الصادرة عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر ببيروت 2013، وهو باكورة «مركز المقاصد للدراسات والبحوث» المغربي، والذي عرف نفسه بأنه»مؤسسة علمية محكمة، للدراسة والبحث والتوجيه والتكوين وتقديم الخدمات العلمية في مجال العلوم والدراسات الإسلامية» وجاء هذا العمل في مقدمة وثلاثة فصول:يهم الفصل الأول: مقاصد المقاصد في فهم الكتاب والسنة، ويهم الفصل الثاني:مقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي، ويهم الفصل الثالث:المقاصد العملية للمقاصد وخص منها بالذكر:احتياج السياسة الشرعية إلى مقاصد الشريعة، وكذا ما يخص المكلفين من المقاصد وما يرقي التدين لديهم، ثم تحدث عن نماذج من فقه المقاصد. فذكر في الفصل الأول بمقاصد القرآن الكريم وبدأ ببعض ما نص عليه بشكل مباشر كمقصد توحيد الله وعبادته، ومقصد الهداية الدينية والدنيوية للعباد، ومقصد التزكية وتعليم الحكمة، ومقصد الرحمة والسعادة، ومقصد إقامة الحق والعدل، ثم ذكر بعض ما استنبطه العلماء من الكتاب العزيز مثل ما فعل الغزالي في تحديد ثلاثة مقاصد كبرى:معرفة الله تعالى، ومعرفة الصراط المستقيم، ومعرفة الدار الآخرة، وجمع ابن عبد السلام مقاصد القرآن في «جلب المصالح وأسبابها، ودرء المفاسد وأسبابها» وحصرها البقاعي في بيان العقائد والأحكام والقصص، وتتمثل عند رشيد رضا في المقاصد العشرة من مثل: الإصلاح الديني، وبيان ما جهل الناس من أمر النبوة والرسالة، وبيان أن الإسلام دين الفطرة السليمة والعقل والحكمة والحجة والحرية...ومقصد الإصلاح الاجتماعي والسياسي والمالي والعلاقات الدولية وأحوال الحرب والسلم ومقصد تحرير الرقاب..وذكرها ابن عاشور في عشرة مقاصد أيضا وهي:إصلاح الاعتقاد، وتهذيب الأخلاق، والتشريع وبيان الأحكام، وسياسة الأمة، وأخذ العبرة من قصص الأمم السابقة، وتعليم الناس أمر دينهم، والترغيب والترهيب، وبيان إعجاز القرآن، والتأكيد على دوام الشريعة، وتعويد العلماء على الاستنباط والاجتهاد. وأضاف الريسوني في مقاصد القرآن: مقصد تقويم الفكر، أي تقويم منهج التعقل والتفكير وتسديد النظر باعتبار القرآن حجة وبرهانا، واعتماد منهج الحكمة والتي ليست سوى الفهم السديد للأمور والعمل بمقتضى ذلك، وأول ما تستلزمه هو أن « لا حكم إلا بدليل» ووجوب «استعمال الأفئدة والحواس» واعتماد «منهج ضرب الأمثال» واهتم القرآن الكريم أيضا في المقابل بمواطن الخلل في منهج التفكير من مثل: ذم التبعية والتقليد، والتحذير من اتباع الخرص والظن، واعتبار التسوية بين المختلفات والتفريق بين المتماثلات من ضعف البصيرة.. وبعد التذكير بهذه المقاصد القرآنية توجه المؤلف إلى ذكر فوائد معرفة تلك المقاصد، فاعتبرها المدخل السليم لفهم الرسالة القرآنية ومعانيه التفصيلية، وبتلك المقاصد يتسدد الفهم لمقاصد السنة جملة وتفصيلا بل و يتسدد بذلك النظر الفقهي والاجتهاد الفقهي، كما أن مقاصد القرآن هي بمثابة الميزان والمعيار الذي يجب أن توزن به الأعمال الفردية والجماعية وتؤطر الأعمال العلمية أيضا فنطمح إلى تفسير القرآن مثلا في ضوء مقاصده فلا نتيه مع تفاصيل لا فائدة منها وليس تحتها عمل، ونميل في الاستنباط إلى ما يجسد عدل الشريعة ومقاصدها الكريمة. وفي مبحث «مقاصد السنة النبوية» أكد أن مقاصد السنة بعد وظيفة البيان والتفصيل والتأكيد لمعاني القرآن هي عين مقاصد القرآن، فوجب أن توضع السنة والأحاديث في إطار تلك المقاصد، ومما يعين على التحقق بمقاصد مقاصد السنة: معرفة المقام الذي صدر فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، هل هو مقام تبليغ ورسالة أم مقام حكم وقضاء أم مقام طبيعة بشرية وتجربة دنيوية ذاتية ونتاج بيئة محلية، أم مقام قيادة وإمامة ونظر في مصالح آنية، أم هو مقام شفاعة ونصح واستشارة... وقد استعرض الريسوني جملة من آراء العلماء في الموضوع فأشار إلى موقف ابن قتيبة الدينوري الذي قسم السنن إلى ثلاث:»سنة أتاه بها جبريل عليه السلام عن الله تعالى...وسنة أباح الله له أن يسنها وأمره باستعمال رأيه فيها...وما سنه لنا تأديبا»ص72.ثم جاء القرافي وزاد هذه التقسيمات «تقريرا وتحريرا وتفصيلا وتمثيلا» وعلى هذه المحجة سار ابن القيم الذي أكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان»هو الإمام والحاكم والمفتي وهو الرسول» ونبه ولي الله الدهلوي إلى أن من السنة «ما هو من قبيل الوحي والرسالة...ومنها ما ليس كذلك وهو أصناف (فمنه الطب)...ومنها ما فعله على سبيل العادة...ومنه ما ذكره كما يذكره قومه، كحديث أم زرع وحديث خرافة..»ص 74. فإذا عرف وجه التصرف سهل معرفة المقصد وتيسر التنزيل على الممارسة والوقائع. الأمر الثاني الذي يعين على معرفة مقاصد «مقاصد السنة» هو معرفة سبب ورود الحديث وسياق مخرجه ذلك أن الغفلة عن هذا الأمر تؤدي إلى «كثير من الاضطراب في الدين والحرج على المسلمين»ص 77. وفي الفصل الثاني»مقاصد المقاصد في الفقه والاجتهاد الفقهي» نوه في بدايته إلى أن المقاصد هي روح الفقه الحي، معتبرا معرفة المقاصد الشرعية على كمالها نصف المسألة الاجتهادية على منهج الشاطبي، ولم يبق بعدها غير «الاستنباط بناء على فهمه فيها» ص87. فالقضية الأساس:استحضار المقاصد على الدوام في دوائرها الثلاث:دائرة المقاصد الكلية لعموم الشريعة مثل حفظ الضروريات الخمس وغيرها من المقاصد العامة، ودائرة المقاصد الخاصة بكل مجال مجال كالعبادات والأسرة والمعاملات المالية ونحو ذلك، ودائرة المقاصد الجزئية التي تخص كل حكم حكم. وفي إطار اعتبار المقاصد في الاجتهاد الفقهي يقترح:التحقق من مقصود النص الشرعي وعدم الركون إلى مجرد ظواهر الألفاظ، ثم تحري الحكمة والمصلحة المقصودة من وراء الحكم المنصوص، بناء على أن الأصل في الأحكام الشرعية المعقولية والتعليل، فمن أخطأ في معرفة المقصد المصلحي في الأحكام أخطأ في استنباط الحكم منها، ولابد للفقيه من التحقق مما قد يظن مقصدا وليس كذلك مثل ما يعتقد بخصوص النصوص الواردة في ذم الدنيا والتقليل من شأنها والتزهيد في متاعها، إذ تركها وإهمالها ينافي مهمة الخلافة والعمارة فيفهم من مقاصد ذلك الرفع من الهمم حتى لا يكون التكالب عليها وعبادتها من دون الله تعالى. ومن ذلك أيضا ما يعتقد من قصد المخاطرة في استثمار الأموال وإنما المقصد الأصلي هو حفظ المال وتنميته. ومن إعمال المقاصد:التمييز بين ما هو مقصود لذاته وما هو مقصود لغيره، حيث ينبني على ذلك جملة أمور من مثل:أن ما كان من قبيل الذرائع والوسائل والتوابع اعتبر أخفض رتبة وأقل لزوما مما هو من قبيل المقاصد الأصلية، وأن ما حرم سدا للذريعة يباح للمصلحة الراجحة، وما حرم لذاته لا يباح إلا للضرورة. ومن مقاصد المقاصد في الاجتهاد:مراعاة المقاصد العامة للشريعة عند كل تطبيق جزئي، ليكون منسجما معها، وكذا مراعاة المقاصد الخاصة بالمجال الذي تنتمي إليه المسألة، سواء مقاصد العقوبات أو السياسة الشرعية والولايات العامة ونحو ذلك، ثم مراعاة مطلق المصالح المشروعة وترتيب الأحكام ودرجتها بقدر المصلحة أو المفسدة، وفي الاجتهاد والاستنباط مراعاة المقاصد عند إجراء القياس، لأنه محفوف بعدد من الاحتمالات الظنية، والمقاصد تنفع عند الترجيح، وكذلك الشأن في الاستحسان وغيرها من الأصول. ومن إعمال المقاصد اعتبار المآلات والعواقب في الزمن القريب أو البعيد، مثل فتوى جواز شراء البنوك الربوية وتحويلها إلى مؤسسات إسلامية والدخول على ما تبقى من معاملاتها غير المشروعة، وفتوى منع المسلمين في الدول الغربية من زواج غير المسلمات لمآلاته على الأسرة والأبناء وحرمان المسلمات هناك حيث لا يجوز لهن الزواج بغير المسلمين. وفي الفصل الثالث تناول المقاصد العملية للمقاصد وركز فيه على نقطتين: همت الأولى السياسة الشرعية، وهمت الثانية تدين عموم المكلفين، واعتبر السياسة الشرعية هي «التدبير الأمثل للمصالح العامة، بما يحقق مقاصد الشريعة وما يتلاءم معها»ص135. وبما هي ضوابط لتولي الحكم والمسؤوليات، وأنظمة وتدابير وصيغ تنفيذية لأحكام الشريعة، وتنظيم أمر فروض الكفايات، وإقامة أنظمة القضاء والسهر على المصالح الاقتصادية والاجتماعية، وتدبير السياسات والعلاقات الخارجية وحفظ الأمن الداخلي..فإنها محكومة بالاعتماد الواسع على الرأي والتجربة والملاءمة المرنة مع تغير الظروف والأحوال، ومحكومة أيضا بقاعدة جلب المصالح وتكثيرها ودفع المفاسد وتقليلها. وفي كل ذلك تبقى المقاصد «الزاد الأكبر والعمدة الأساس للسياسي المسلم...(وهي عنده) الميزان لما سيتم والمرآة العاكسة لما تم»ص136-137. وتنفع تلك المقاصد والممارسة النبوية لها في كثير من جوانب السياسة الشرعية من مثل تقديم تنازلات شكلية أو خفيفة، وتحمل أضرار قريبة ومؤقتة بالنظر إلى العواقب إذا ترجح أنها ستكون مربحة بمقياس المبادئ كما حدث في صلح الحديبية، ويجوز تولي المناصب الحرجة كالمؤسسات السياحية والإعلامية والفنية وهي تعج بالفواحش والمنكرات وكذا إدارة الأموال العمومية التي يكثر فيها السلب والنهب وتولي القضاء حيث الحكم أحيانا كثيرة بغير الشرع، ونحو ذلك من المناصب العامة حيث يتم إعمال النظر الكلي المآلي واعتبار الغرض الإصلاحي وتقدير ما يرجى من جلب المصالح وتقليل المفاسد. وتناول في النقطة الثانية الخاصة بالمكلفين أثر المقاصد في ترقية تدينهم بدءا بمستوى فهم تلك المقاصد والمؤهلة لأن تبسط لعموم الناس إذا تيسر تعليمها لهم إذ «المقاصد أسهل من الفقه ومسائله وأحكامه الدقيقة»ص 149، فتعلمها وفهمها»مظهر لمحاسن الشريعة ومفيد لتعظيمها وتقديمها»ص155 ويزيد الإقبال عليها ويساهم في تسديد وترشيد القيام بالتكاليف وحسن تطبيقها.. وفي الأخير بسط الريسوني نماذج من فقه المقاصد أخذها من كتاب «لباب اللباب...» لابن راشد القفصي والذي سمى التكاليف أحكام تشريف، ثم بين محاسن ومقاصد كل من الطهارة والزكاة والصيام والحج ونحو ذلك. والخلاصة أن «مقاصد المقاصد»عمل موفق مبارك، وعلم نافع ممتع، يفيد المجتهدين، ويضع البوصلة بين يدي المتبحرين، ويرشد السالكين في دروب السياسة فيهتدون، ويضع عن العباد العاملين إصر الإحساس بالتكليف، ويرقى بهم درجات في التشريف، فيزدادون حبا في الأعمال وإحسانا في الأداء، بارك الله في كاتبه وزاده مددا من عنده. وجعلنا جميعا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين.