مناسبة هذا المقال، دعوة علماني عنصري مغربي متطرف، المغاربة المسلمين إلى الفطر في نهار رمضان، بزعم أن الصوم قد يتسبب في جفاف حلوقهم، فينتهي الأمر بهم إلى الإصابة بوباء كورونا، علما بأن صاحبنا ليس من أهل الفتوى، ولا يتوفر فيه شرط واحد من شروطها، وليس – في العلم الشرعي – لا في العير ولا في النفير، بل علما بأنه لا يؤمن بالصوم عبادة، ولا يعرف لرمضان حرمة، ولا يخفي عداءه للإسلام، ولا يكف عن غمزه والانتقاص منه، بمناسبة وبغير مناسبة. ومع يقيني بأن دعوة صاحبنا، لا تعدو أن تكون صيحة في واد أو نفخة في رماد، وأن التجاهل أولى بالمشاغبين والسفهاء، فقد تذكرت آلاف الشباب الأغرار، الذين يقلدونه وأمثاله ويتأثرون بهم، ويرون فيهم رموزا للتنوير، وأقطابا للتحرير، وأساطين للحداثة وما بعد الحداثة، وغيرها من المصطلحات الرنانة الفارغة، ومن الشعارات الزائفة، فقررت التعليق ولو بمقال قصير، وذلك أضعف الإيمان. ذكرتني "فتوى" صاحبنا العلماني المشاغب، بصنيع قوم عرفهم تاريخ المغرب، بعد الفتح الإسلامي المجيد، عرفوا بالبورغواطيين، أسسوا إمارة في منطقة تامسنا، على الساحل الأطلسي، ما بين نهري أبي رقراق وأم الربيع، استمرت لأزيد من ثلاثة قرون، من سنة 740م إلى 1058م، إلى أن هزمهم بنو قومهم المرابطون، قبل أن يقضي عليهم الأمازيغ الموحدون قضاء نهائيا. والبورغواطيون، حسب ما نقله المؤرخون، أمثال: البكري وابن حزم وابن خلدون، عن سفيرهم لدى قرطبة – في منتصف القرن 10م– أبي صالح زمور، الذي يعتبر أهم مدون لتاريخهم، هم أتباع صالح بن طريف المطغري، ادعى النبوة، وزعم أنه المهدي المنتظر، وأنه سيرافق عيسى – عليه السلام – في النبوة، وزعم أنه تلقى من الله قرآنا بالأمازيغية، وأنه يوحى إليه في كل خطبه وأقواله، وأن من شك في ذلك فهو كافر، وذكر البكري، بأن "البورغواطيين يقدمون مع الإقرار بالنبيين، الإقرار بنبوة صالح بن طريف وبنيه، ومن تولى الأمر من بعده من ولده، وأن الكلام الذي ألف لهم وحي من الله تعالى لا يشكون فيه، تعالى الله عن ذلك". ويذكر المؤرخون، بأن صالح بن طريف وضع للبورغواطيين قرآنا بالأمازيغية، يقرؤونه في صلواتهم، ويتلونه في مساجدهم، يتكون من ثمانين سورة، سمي أكثرها بأسماء الأنبياء من لدن آدم، أولها سورة أيوب، وآخرها سورة يونس، ومنها سور: فرعون، قارون، هامان، يأجوج ومأجوج، الدجال، العجل، هاروت، ماروت، طالوت، نمرود، الديك، الجمل، الجراد، الحنش، غرائب الدنيا والعلم العظيم، وأضاف ابن خلدون أسماء سور أخرى مثل: نوح، وإبليس، وقال عن سورة غرائب الدنيا: "إنه حرم فيها وحلل، وشرع وقص، وكانوا يقرأونها في صلواتهم". أجاز صالح للبورغواطيين الفطر في رمضان، وفرض عليهم صوم رجب، وشرع لهم عشر صلوات في اليوم، خمس بالنهار وخمس بالليل، وأباح لهم الصلاة بالجنابة إلا من حرام، وحرم عليهم أكل البيض والسمك ما لم يذك، وكره لهم أكل الدجاج إلا للضرورة، وحكم على السارق بالقتل لا بقطع اليد، وأسقط عنهم فريضة الحج، وأباح لهم تعدد الزوجات بلا حد، حتى أن أحد ملوكهم اسمه أبو غافر محمد– حكم في الفترة من 888م– 917م – كان متزوجا من أربع وأربعين زوجة، كما يذكر ابن خلدون، والطلاق والرجعة في شريعتهم بلا حد، كما حرم عليهم "نبيهم" رأس كل حيوان، وجعل الدية من البقر عوض الإبل، وغير ذلك من الشرائع البعيدة عن الإسلام بعدا بينا. والذي يتأمل ديانة البورغواطيين الخوارج، يجد فيها تحريفا واضحا للإسلام عقيدة وشريعة، وهو تحريف مقصود الغرض منه كما يظهر، إيجاد نموذج"إسلام"محلي خارجي مختلف، وممايز للإسلام "الأموي" "العربي"، ولو اقتضى الأمر تحريف قطعيات الإسلام، والتصرف في أحكامه المعلومة من الدين بالضرورة، مستغلين في ذلك أخطاء ومظالم بعض ولاة بني أمية، في بلاد المغرب والأندلس. هذا النموذج الديني المحلي، سيمثل غطاء ثقافياإيديولوجيا "مقدسا"، لمشروع "الخروج" السياسي، المتمثل في إنشاء إمارة بورغواطة المستقلة والخارجة عن حوزة الخلافة الإسلامية الأموية. اليوم، يأبى التاريخ إلا أن يعيد نفسه، فيظهر قوم من بني جلدتنا، أكثرهم من فراخ اليسار الجذري، المتشبعين بالمقولات الماركسية الإلحادية، مثل "لا إله والحياة مادة"، و"الدين أفيون الشعوب"، و"الحقد الطبقي"، و"ديكتاتورية البروليتاريا"، وغيرها، كانوا ماركسيين وفرنكفونيين لعقود من الزمان، وقضوا سنوات في كنف المنظمات اليسارية المتطرفة، مثل "23 مارس" و"إلى الأمام" وغيرها، لكنهم تعرضوا لصدمة إيديولوجية تاريخية، بسقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، فوجدوا أنفسهم بلا إيديولوجية ولا مشروع سياسي، فغيروا المعطف الماركسي الإلحادي بمعطف عرقي محلي، ومن يومها وهم يحاولون –بوعي أو بغير وعي–إحياء النموذج التاريخي البورغواطي، وعادة إنتاج تجربة "الخروج" و"الانفصال" البورغواطية، في أبعادها اللغوية والثقافية والسياسة، فرفعوا شعارات: الأرض، واللغة، والثقافة، والهوية، وتعصبوا لها، وبالغوا فيها، فأعلنوا العداء للإسلام، والحرب على اللغة العربية، وكفروا بكل ما هو "عروبي" "شرقي"، فأنتجوا خطابا انفصاليا متشددا، ينطوي على غير قليل من التعصب العرقي، والهوس الهوياتي، والحرص المرضي على التميز اللغوي والاختلاف الثقافي، في مجتمع مغربي متعدد الروافد والأعراق، حصل بين مكوناته من التماهي والانصهار، ما حكم على الخصوصيات والتمايزات بالذوبان والانصهار، وما صنع من المغاربة شعبا واحدا وموحدا، ولو كره المتعصبون. وفي ختام هذا المقال، وبمقارنة سريعة بين البورغواطيين القدامى والجدد، يتبين أن السلف كانوا أذكى بكثير منخلفهم الأغبياء، لأنهم – على ضلالهم وكثرة تحريفاتهم – كانوا حريصين على الحفاظ على نوع من الانتماء الشكلي للإسلام، وعلى تحقيق طموحاتهم السياسية من خلاله، بصفته مرجعية عليا للأمة المغربية. وأما البورغواطيين الجدد، فقد حجبت المقولات الماركسية البالية عقولهم، وأعمى التعصب العرقي بصائرهم، فحملهم الحقد والغباء على إعلان الحرب على الإسلام من أول يوم، فدخلوا في صدام مع الشعب، وتحولوا إلى نخبة معزولة مكروهة، لا هي حققت طموحا سياسيا، ولا هي كسبت شيئا يذكر في معركة الهوية والقيم، ولذلك فهي تحاول – الآن – مراجعة خطابها العلماني المتطرف الفاشل، وتسعى إلى مخاطبة المغاربة من خلال مرجعيتهم الإسلامية، كما فعل صاحب "فتوى" إباحة الفطر في رمضان، لكن هيهات هيهات، لقد فاتهم القطار.