توطئة: لعل الأولى بالتحليل و الدراسة و الاتباع، و إثارة الاقتداء في تاريخ حركات التغيير و المجددين: أولائك الذين واجهوا ظرفا مشابها لما حولنا، و واقعا مماثلا لواقعنا، و اغترفوا من معين الوحي، و اهتدوا بفهم القرون المشهود لها بالخيرية من الرسول صلى الله عليه وسلم، و عاشوا في قلب الواقع الإسلامي بكل مشكلاته و قضاياه و معاناته، و قادوا المسيرة بفقه و فكر و فعل، و كانوا في الطلائع التي تتقدم الصفوف، تعطي الأنموذج لفعل الحلال و منع الحرام، أو بعبارة أخرى: كانوا يصنعون التاريخ، و لم يكونوا من الساقة الذين يخرجون من المعركة، و يسيرون خلف الصفوف، كل همهم الحكم على تصرفات الناس و أفعالهم بعد وقوعها، بالحل و الحرمة، بعيدا عن أي صناعة حضارية، فتحولوا من صناعة التاريخ و مغالبة الأقدار في ضوء السنن الإلٰهية، إلى الاقتصار على قراءة التاريخ و التغني بالأمجاد و الخروج من الواقع. ابن تيمية بين عصره والعصر الحاضر: قد يكون الشيخ الإمام المجدد ابن تيمية – رحمه الله – و مدرسته الفقهية و منهجه الفكري، على رأس قائمة هؤلاء المجددين، من حيث أهمية التعرف على منهجه، نظرا للتشابه الكبير بين ظروف عصرنا و ظروف عصره، بكل ما حمل من تقليد فقهي، و جمود فكري، و وهن حضاري، و غزو ثقافي، و تسلط عسكري ديكتاتوري، و تمزق اجتماعي، و تضليل فلسفي، و هجمات باطنية مغرضة حقودة، و مولاة غير المسلمين، و اختراق سياسي، و إشاعة الثقافات الهادمة لقيمنا، و الافتتان بتقليد الغرب و التخلق بأخلاقه، و توهين قيم الوحي المعيارية، و تمزيق وحدة العالم الإسلامي العقدية و الفكرية و السياسية، و كثرة فرق الضلال والتضليل . لقد اهتم هذا الإمام – رحمه الله – بالحفاظ على الثقافة الإسلامية، والشخصية المسلمة بكل خصائصها، وخاصة عندما رأى من آثار اجتياح التتار للدول الإسلامية، وظهور اليهود والنصارى، ولعل من القضايا المبكرة التي تنبه لها وأدرك خطرها، من الناحية الدينية والثقافية والسياسية والحضارية، قضية التقليد والمحاكاةوالتشبه باليهود والنصارى في اللباس والعاداتوالأعيادواللغة، والانسلاك في منهجهم، والتتبع لسننهم، وما يؤدي إليه ذلك من الانحلال الثقافي.. ولقد توقف – رحمه الله – عند قضية اعتماد اللغة العربية، لغة القرآن، وأهمية تعلمها والتزام النطق بها، وأنها من الدين، ودورها كوعاء للتفكير وأداة للتعبير، وإحدى وسائل تصميم البناء الثقافي، وبيّن موقف الصحابة من ذلك، فكان الصحابة الأجلاء يكرهون أن يتكلم المسلم بغير العربية، على وجه الاعتياد والدوامولغير ضرورة، وما قال – يوما -: نحن منفتحين على الثقافات الأخرى، – لستر عجزه وتخلفه -! لأن اللغة الأجنبية بشكل عام، إذا لم تؤخذ بحذر ودقة، وبعد التحصين وبناء المرجعية، تصبح أحد معابر الغزو الثقافي، لأنها أداة تفكير وتغيير، وليست وسيلة تعبير فقط.. ومن نافلة الكلام، لا ندعي بهذه الإلماحة السريعة، الإحاطة بمنهج ابن تيمية ومدرسته في الإصلاح والتغيير، وإنما هي نوافذ وإضاءات وملامح أساسية لمنهجه، قد تكون قادرة على إعطاء فكرة عن السمات والخصائص البارزة لهذا المنهج، المحددة لبعض منطلقاته الأساس. المحور الأساس الذي انطلق منه الشيخ – رحمه الله – في فكره وفقهه ودعوته التجديدية، هو تنقية التوحيد، والعودة به إلى صفائه، وتحرير مفهوم العبودية بكل أبعادها، لأن تنقية التوحيد وتحرير العبودية، هو الذي يحقق للإنسان السعادة، ويرفع عنه الآصار والأغلال، ويمنحه الأمن النفسي تجاه مسألتي الرزق والأجل، وبذلك ينعتق من كل العبوديات الأرضية، مهما كان نوعها، ويتمتع بالحرية والإرادة. (انظر رسالة العبودية له).. ولابن تيمية – رحمه الله – سيرة حافلة بالعلم والجهاد، والمعاناة والمحن، وقد تضافرت جهود الحكام في عصره مع جهود بعض العلماء لمحاربته والنيل منه، فمنهم من كفره، ومنهم من رماه بالزندقة، ومنهم من وصفه بالفيلسوف الغارق في التشبيه والتجسيم، كما حال الدكتور الناجي لمين المحترم – اليوم – وغيره من بعض المالكية المتعصبين، وبعض العلمانيين والحداثيين يصفونه بفقيه الدم! وهكذا كانت حياته سلسلة من الصراعات الفكرية والفقهية مع خصومه، وقد رافق هذه الحياة الحافلة بالمواجهة، جهد علمي، وانقطاع لا مثيل له إلى المناصحة والدعوة وإعلاء الحق.. حارب في كل الجبهات، وصنف في شتى العلوم والمعارف. ولعل إلقاء نظرة على عناوين مؤلفاته، التي لا يتسع المجال لسردها جميعا، يمكن أن تعطي فكرة واضحة عن سمات شخصيته وطبيعة اهتماماته، وساحات معاركه الفكرية والفقهية.. وقد يكون أبرز ما يميزه، معرفته بمن حوله، واستيعابه لعصره، ومعرفته الدقيقة بمكوناته الثقافية والسياسية. لقد تناول علوم عصره بالدرس العميق، والفحص الدقيق، ثم تناولها بالتأليف والرد، وكانت معركتُه حاميةً مع الفلاسفة، وعلماء الكلام والمنطقوالتصوف المنحرف، وكانت نتيجة ذلك أن ترك ثروة غنية من المؤلفات قد تصل إلى خمسمائة مصنف! ابن تيمية ومعيار الفتوى والاجتهاد: كان معيار الفتوى والاجتهاد عند شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -، تحقيق مقاصد الدين، وتحصيل مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، واعتماد الفقه العملي الذي يعايش واقع الناس ويعالج مشكلاتهم ويبصرهم بالحكم الشرعي، لينضبطوا به، بعيدا عن التجريدات الذهنية في الاجتهاد، التي لا تشكل حاجة عملية، على الرغم من خصوبة ذهنيته، ورصيده الشرعي والعقلي في الرد على الفلاسفة، ودحض مفتريات الفرق الضالة وشبهات الملحدين على مستوى الفكر والعقيدة. وقد كانت له فتاوى واجتهادات فقهية خالف فيها الجمهور، وبعضها خالف فيها أصحاب المذاهب الأربعة، لما تبين له من دلالات النصوص في تحقيق المقاصد وتحصيل المصالح من أبرزها: – جواز إقدام الحائض على الطواف عند الضرورة ولا فدية عليها. – أن الطلاق البدعي – الطلاق في الحيض، أو في طهر بعد وطء قبل أن يتبين الحمل – لا يقع. – وأن طلاق الثلاث المجموعة – في طهر واحد – محرم، ولا يلزم منه إلا طلقة واحدة. – وأنه يجوز إخراج القيمة في الزكاة، للحاجة أو المصلحة أو العدل. وغيرها، هذا عدا عن الفتاوى الكثيرة في المجالات السياسية والاجتماعية، التي كانت ترتكز إلى الانطلاق من النص الشرعي، وتهدف إلى جلب المصالح ودرء المفاسد، إلى درجة يمكن معها اعتبار منهجه في الفتاوى والاجتهادات أقرب ما يكون إلى ما اصطلح على تسميته: السياسة الشرعية. و لعل من أبرز ما يميز منهجه الفكري و مدرسته في التجديد و الإصلاح والتغيير، إعادة الاعتبار لمعرفة الوحي، والامتداد بالرؤية التجديدية، والانطلاق بها من خلال فهم القرون المشهود لها بالخيرية، واعتماد النبوة وسيلة المعرفة الصحيحة، والتركيز على حاجة البشرية إلى النبوة على أنها الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة والهداية الكاملة ( انظر المجلد الثاني من الفتاوى )، وأن الأنبياء هم الأدلاء على ذات الله وصفاته الحقيقية، وهم الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله تعالى المعرفة الصحيحة، التي لا يشوبها جهل ولا ضلال، ولا سوء فهم ولا سوء تعبير، وأن هذه المعرفة لا يستقل بها العقل، ولا يغني فيها الذكاء، ولا تكفي فيها سلامة الفطرة، والإغراق في القياس العقلي والتأمل الفلسفي، وأن سر ضلال الفلاسفة، واعتمادهم في ذلك على عقلهم وعلمهم وذكائهم ومهارتهم في بعض العلوم والصناعات، حتى ليمكننا القول: إن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – استطاع لحد بعيد، حل المعضلة المزمنة بين العقل و الوحي، و خلّص الفكر الإسلامي من الثنائية و الانشطار الثقافي و الخيار بين الوحي و العقل، و العلم و الإيمان، و إعادة فحص و اختبار المقدمات المغلوطة التي كانت مطروحة على سبيل التقابل و الثنائية بين العقل و الدين، أو بين العلم و الإيمان، و أعاد بناءها الصحيح، و صوّب المعادلة، لتتحول من التقابل و الثنائية إلى التكامل و الوحدانية، و للتوسع في ذلك انظر أهم ما ألف في ذلك : درء تعارض العقل و النقل بتحقيق المرحوم الدكتور محمد رشاد سالم، طبعة دار قرطبة الممتازة، في تسع مجلدات . أو ما سماه هو موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، في الوقت الذي كان يخضع فيه العالم الإسلامي أو العقل الإسلامي للاجتياح الفلسفي والجدل الكلامي، وتغييب معرفة الوحي، فجاء إنتاج ابن تيمية ومنهجه الفكري بحق، يشكل الترسانة الفكرية التي حمت الثقافة الإسلامية من الاجتياح، كما وصف ذلك بعض الباحثين المسلمين المعاصرين، فلا دين بلا عقل، ولا عقل بلا دين. سعة الأفق المعرفي عند ابن تيمية: اجتهاده مع وجود النص: قضية أخرى على صلة بأهمية الارتكاز على معرفة الوحي وإعادة الاعتبار إليها، والتي كانت من أبرز محاور اهتمام شيخ الإسلام – رحمه الله – وهي في غاية الأهمية، لأن الفقه بها وحسن إدراكها، يعتبر من التفكير العلمي والموضوعي، وهي: أن ابن تيمية – لما تعيش مع مؤلفاته بعض الوقت – تجده لم يقصر النظر على تحرير النص الشرعي، والاجتهاد في بيان دلالاته ومقاصده، وإنما اجتهد وبذل جهدا مقدورا في فحص واختباروبيان محل النص وخصائص مورده، وحدود وقوع التكليف، وربط ذلك بمدى توفر الاستطاعة، تجده يكرر عبارة: في حدود الإمكان الكثير من المرات! فكان له اجتهاد في مورد النص، كما أن له اجتهادا في تحرير النص و تبيين مقاصده و مدلولاته، لأن الأمر لا يتعلق فقط بمعرفة حكم الشرع و ما يطلبه منا، و التأكد منه، و الانطلاق لإنجازه، بل يتعلق باستكمال أبعاد أخرى تخص ساحة التنفيذ و التنزيل على واقع الناس، و كيفياته، و منهجيته و مرحلية الإنجاز، خصوصا عند تراجع مستويات التدين، و انتقاص آثار النبوة في الخلق، و ضعف صلة الناس بالإسلام فهما و ممارسة، حيث يحتاج الاجتهاد و العمل إلى بصيرة نافذة و عقل راجح، و فقه نضيج، يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة التي يفرزها الصراع و التدافع بين الحق و الباطل، و الصواب و الخطأ، و المصلحة و المفسدة، و هو ما عناه العلماء بقولهم : ليس الفقيه هو من يعرف بأن هذا مصلحة و هذا مفسدة، بل الفقيه هو الذي يعرف خير الخيرين و شر الشرين . وقد يكون من المفيد أن نجلي هذه الفكرة بإيراد نص كلام لشيخ الإسلام نفسه، يقول – رحمه الله -: «العالِم تارة يأمر، وتارة ينهى، وتارة يبيح، وتارة يسكت عن الأمر أو النهي … كما قيل: إن من المسائل مسائل جوابها السكوت، كما سكت الشارع في أول الأمر عن الأمر بأشياء، حتى علا الإسلام وظهر. فالعالِم في البيان والبلاغ كذلك، قد يؤخر البيان والبلاغلأشياء إلى وقت التمكين، كما أخر الله سبحانه إنزال الآيات، وبيان الأحكام، إلى وقت تمكّن الرسول صلى الله عليه وسلم من بيانها. فالمحيي للدين و المجدد للسنة، لا يبلّغ إلا ما أمكن علمه و العمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقّن جميع شرائعه، و يؤمر بها كلها، كذلك التائب من الذنوب، و المتعلم، و المسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، و يذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، و إذا لم يطقه، لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، و إذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم و الأمير أن يوجبه عليه ابتداءً، بل يعفو عن الأمر و النهي بما لا يمكن علمه و عمله إلى وقت الإمكان، كما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات، وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، ومن هنا يتبين سقوط كثير من الأشياء، وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب والتحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهيوإن كان في الأصل»(مجموعالفتاوى: ج 20 ص 58-60.. هذه النظرة الفقهية الدقيقة لمحل تنزيل النص، و مدى توفر الشروط و الظروف لهذا التنزيل، أي توفر الاستطاعة بمعناها الشامل، ليقع التكليف – حيث لا يكلف الله نفسا إلا وسعها – التي يمكن أن نسميها : « فقه المرحلة »، أو فقه الحالة التي عليها الناس، و وضع الإجابات الشرعية لكيفية التعامل معها، لا تعني القبول بالواقع، و عدم تنمية القدرات و الاستطاعات للارتقاء بمستويات التكليف، و بلوغ حالة القوة و التمكين، و إنما تعني – من بعض الوجوه – تعامل الشريعة مع حالة الناس التي هم عليها، و الارتقاء بهم من خلال تنفيذ ما يطيقون من أحكام، أي يتربون و يرتقون و تتطور استطاعاتهم، من خلال ما يقع عليهم من أحكام التكليف، بذلك يكون الحضور المستمر لأحكام الدين في حياة الناس، مهما كانت استطاعاتهم و مستويات تدينهم صعودا و هبوطا. اجتهاد ابن تيمية مع النص، ولم يكن ذلك منه انتقاصا لتطبيق الشريعة، وإنما هو تطبيق للشريعة في حدود الاستطاعة وواقع الناس في الحالة التي هم عليها، وتأهيل للمجتمع من خلال أحكامها، أما رفع الشريعة بحجة عدم تأهل المجتمع لأحكامها، والبدء بتحضير المجتمع ليصبح محلا لتطبيقها، فتلك القضية خطيرة جدا، ذلك أن التأهيل إنما يتم ضمن أحكام الشريعة نفسها، الملائمة للمجتمع في حالته الراهنة.. فالمشكلة تكون عند عدم فقه الحالة التي عليها الناس (محل الحكم)، والأحكام الشرعية التي تتلائم مع استطاعتهم في تلك الحالة. لأن غياب الاستطاعة تعني من بعض الوجوه، أنهم ليسوا مكلفين في هذه المرحلة إلا بهذه الأحكام، فتطبيق الشريعة بالنسبة لهم حدوده في هذه الأحكام، التي يقع بها التكليف. ولعل من فقه شيخ الإسلام ونظراته الدقيقة، أن دراسته لمحل تنزيل الحكم الشرعي، وتحديد استطاعته، التي تستدعي نوع ومستوى التكليف، عادت بفقه جديد للنص الشرعي نفسه، أو بمعنى آخر: إن محل الحكم الشرعي عنده، كان له الأثر الكبير في إعادة النظر بمقاصد النص نفسه وتحليله وتعليله، وعدم الاقتصار على تفسيره وبيان معناه المقصود، فمثلا في قوله تعالى: ⟪ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ⟫ القصص:26.. يعني أن القوة والأمانة، أو بمعنى آخر: الإخلاص والصواب، أو التدين والتخصص، هما صفتان المطلوب توفرهما في كل مسؤول ولكل مسؤولية.. لكن إذا كانت الحاجة قائمة والظروف تستدعي مباشرة بعض المهمات، ولم تتوافر الكفاءة المطلوبة من القوة والأمانة، نرى هنا أن فقه ابن تيمية العملي والواقعي، النظر في طبيعة الوظيفة وطبيعة المهمة، فبعض المهام والأعمال تتطلب مزيدا من الأمانة والحرص والحماية وعدم التفريط، كالقيام على الأموال وما في حكمها، فيرجح لهذا العمل: الأمين، وهناك أعمال تتطلب قوة وشكيمة وحِدة وصمودا وثباتا وتضحية، كالأعمال العسكرية والقيادية، فيُختار ذو القوة، كل هذا في عدم توفر القوة والأمانة معا، وهي الصورة الأمثل التي لابد من الانتهاء إليها، لكن لا يقف الفقيه عاجزا عن التعامل مع الحالة القائمة للناس، ضمن إطار الأحكام الشرعية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في كتابه السياسة الشرعية، تحت عنوان: قلة اجتماع الأمانة والقوة في الناس: (اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر، وعجزالثقة. فالواجب في كل ولاية، الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قُدم أنفعها لتلك الولاية، وأقلهما ضررا فيها، فتُقدَّم في إمارة الحروب الرجل القوي الشجاع، وإن كان فيه فجور فيها، على الرجل الضعيف العاجز، وإن كان أمينا، كما سئل الإمام أحمد، عن رجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر وصالح ضعيف: مع أيهما يغزى؟ فقال: أما الفاجر القوي، فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف، فصلاحه لنفسه، وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر. فإذا لم يكن فاجرا، كان أولى بإمارة الحرب ممن هو أصلح منه في الدين، إذا لم يسد مسده. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يستعمل خالد بن الوليد على الحرب، منذ أسلم، وقال:(إن خالدا سيف سله الله على المشركين). مع أنه أحيانا كان قد يعمل ما ينكره النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه – مرة – رفع يديه إلى السماء وقال:(اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد، لما أرسله إلى جذيمة فقتلهم وأخذ أموالهم بنوع من الشبهة، ولم يكن يجوز ذلك.. وكان أبو ذر رضي الله عنه، أصلح منه في الأمانة والصدق، ومع هذا قال له النبي صلى الله عليه وسلم:(يا أبا ذر إني أراك ضعيفا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي: لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم) رواه مسلم. نهى أبا ذر عن الإمارة والولاية، لأنه رآه ضعيفا، مع أنه قد رُوي:[ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء، أصدق لهجة من أبي ذر]. ويقدم في ولاية القضاء، الأعلم والأروعوالأكفأ، فإن أحدهما أعلم، والآخر أروع، قُدم – فيما قد يظهر حكمه، ويخاف في الهوى – الأروع، وفيما يدق حكمه، ويخاف فيه اشتباه: الأعلم، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال:(إن الله يحب البصر النافذ، عند ورود الشبهات، ويحب العقل عند حلول الشهوات) انظر كتاب السياسة الشرعية ص ص: 29-34.. ———————————————————————– ملاحظة: حديث إن الله يحب البصر النافذ إلخ.. وقع في نفسي شيء منه فرجعت لتحقيقه: ضعفه الحافظ العراقي في تخريج الإحياء، أما ابن تيمية يذكره كثيرا في الفتاوى وقال إنه مرسل، واعتبره الأمين الشنقيطي في أضواء البيان من المراسيل ج:4 صفحة 188.. غير أن أبا حفص المُسندي القاهري الأثري قال: الحديث ضعيف السند، فيه عمر بن حفص العبدي، ولا أعلم أنه يكون مرسلا. أخلاق المعرفة وغايات العلم: كيف تعامل ابن تيمية معهما: لعل من القضايا المهمة التي عرض لها شيخ الإسلام – رحمه الله – وضع المنهج الصحيح للتعامل معهما، المنهج الذي يضمن لها السداد والصواب: الاهتمام بخلق المعرفة والعلم، والنظر في غايتهما ومقاصدهما، ذلك أن الاهتمام بخلق المعرفة وأمانتها، لا يقل عنده عن الاهتمام بالمعرفة نفسها، لأن العلم بدون توفر الخلق وتحديد الأهداف والمقاصد، سوف ينقلب إلى لون من البغي والظلم والفساد وتفريق الدين، ويكون سببا للفرقة والتنازع والتآكل، بدل أن يكون سببا في الوحدة والتكامل والقوة.. فقيام الحضارة، والتحرك في الإصلاح وتجديد أمر الدين، لابد له من الكتاب: (العلم والمعرفة الصحيحة عن طريق النبوة)، ولابد له أيضا من الميزان: (العدل والالتزام بخلق المعرفة ومقاصدها)، وذلك انطلاقا من قوله تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ» الحديد 25.. ذلك أن غياب الميزان واهتزاز المعيار ولو كان صاحبه على شيء من العلم، فإن علمه يقوده إلى البغي والتطفيف، وبخس الناس أشياءهم، وإلحاق الأذى والسوء بهم، كما يؤدي إلى عدم الإنصاف، وشيوع فقه الحيل والمخارج الشرعية وأكل الحقوق، وغياب فقه المقاصد وميزان الاعتدال، كما يودي إلى التعصب والغلو والتشرذم، وغلبة النزوع الحزبي والطائفي.. وعند فقد الميزان، تصبح الكبائر المهلكة من الهنات واللمم، إذا وقعت من جماعتي وحزبي وطائفتي! وتنقلب الهنات واللمم إلى كبائر إذا وقعت من الآخرين. ولا شك أن هذا من أمراض التدين المغشوش، التي عرفتها بعض الأمم السابقة، وقص الله علينا تاريخها وسبب هلاكها في القرآن، لتأخذ الأمة المسلمة حذرها. صور البغي و الجور التي تتسلل إلينا، دليل على غياب الميزان و اهتزاز المعيار، حتى و لو كنا على شيء من الفقه والعلم، حيث أصبح الحق يُعرف بالناس، و لا يُعرف الناس بالحق، و لا نزال نرى امتداد الكثير من فرق الرفض و الخروج و المغالاة تتحرك في الساحة تحت شعار العلم و الجدل العلمي، فانقلبت المعادلة، و أصبحت معرفة الوحي تبعا لهوانا، بدل أن يكون هوانا تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم، و هذا لا يعني أن ابن تيمية – رحمه الله – كان يتنكر للاختلاف في الرأي و الفقه، لأن الاختلاف ظاهرة صحية و طبيعية، و من سنن الله في الخلق، لكن الاختلاف المحمود هو الذي يُتحلى بأدبه، و يكون اختلاف تنوع لا اختلاف التصادم المذموم.. نختلف وتتعدد وجهات نظرنا، لكن لا نفترق، فلابد أن تكون لنا أصول وقواعد، لنعرف كيف نختلف، كما نعرف كيف نتفق. و الحمد لله رب العالمين.