من عقيدة المسلم المقررة والمعلوم من الدين بالضرورة أن الله عز وجل يفعل ما يشاء ولا معقب لفعله وحكمه، فهو سبحانه وتعالى فعال لما يريد، إلا أن هذه الإرادة الشاملة مرتبطة بحكمته البالغة، فلا يصدر منه فعل مهما كان إلا عن عدل وحكمة، ولهذا كان من أسماء الله الدالة على صفاته التي لا تتغير ولا تتبدل، والدالة على أفعاله التي لا تتناقض "الحكيم"، ومن حكمته أنه يتجاوز عن المذنبين المستغفرين ويعاقب المذنبين الغافلين، ويتجاوز عن الخطائين التوابين ويعاقب الخطائين المستكبرين. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة جمعت بين المغفرة وبين العقاب ؛{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 98]، {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3]. 1 عقاب الله الكوني بمظاهر من الطبيعة غير المعتادة وإذا كانت رحمة الله وسعت كل شيء، فإن غضب الله وعقابه سريع على من يستحقه، وقد دل القرآن الكريم على أن الله عز وجل عجّل العقوبة لأشخاص في الدنيا قبل الآخرة كالنمرود مثلا، وعجل العقوبة لجماعة وأمم فسلط عليهم جنوده وأذاقهم صنوف العذاب، وكانت عبارة عن مظاهر كونية من الطبيعة غير معتادة؛ فمنهم من عاقبهم الله جل جلاله بالريح الباردة الشديدة وسلطها عليهم، كما عاقب قوم عاد لما تجبروا في الأرض وعاندوا الحقائق الإيمانية الدالة على ألوهية الخالق ؛ {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) } [الحاقة] ومنهم من عاقبهم الله عز وجل بحجارة منزلة من السماء، كما عاقب قوم لوط لما أشاعوا الفاحشة المقيتة وكانوا أول من اقترفوا كبيرة اللواط فاستحقوا الرجم بالحجارة ؛ {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 82، 83] ومنهم من عاقبهم الله سبحانه وتعالى برجفة وصيحة شديدة فيها صوتُ كلّ صاعقة، كما فُعل بقوم صالح لما استكبروا عن أمر الله وتحدوه بعقر الناقة التي جعلها الله آية على صدق نبي الله صالح عليه السلام، فسلط عليهم صيحة خلعت قلوبهموماتوا جميعا؛ {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)} [الأعراف]، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر] ومنهم من عاقبهم الله سبحانه وتعالى بالطوفان فسلط عليهم الماء من كل جانب؛ من الأرض ومن السماء، كما عاقب به قوم نوح فأغرقهم جميعا إلا من ركب في سفينة نوح عليه السلام {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12)} [القمر: 9 – 12] وهناك أمثلة كثيرة مبثوثة في القرآن الكريم فضلا عما نقلته السنة النبوية الشريفة من أخبار أقوام عُجّل لهم العقاب بسبب ذنوبهم وطغيانهم، ولحقتهم لعنة الله في الدنيا قبل الآخرة، من ذلك ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرها عَنِ الطَّاعُونِ فقال:« أَنَّهُ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ»، وفي الصحيحين أيضا عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الطَّاعُونُ رِجْسٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِى إِسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ». ولكثرة هذه الأمثلة الموجودة في القرآن وفي السنة النبوية استقر في ذهن المؤمن وقلبه أن الأعاصير والزلازل والجفاف وغيرها من أحوال الطبيعة غير المعتادة هي مظهر من مظاهر العقاب الإلاهي، وهذا القول في عمومه قد يكون صوابا وتشهد له ظاهر نصوص شرعية كثيرة منها قوله تعالى:{ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، وقوله تعالى: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، إلا أنه لا ينبغي تفسير ما وقع من هذه المظاهر في مكان ما أو لفئة معينة من الناس اليوم بأنه عقاب من الله تعالى لهؤلاء، لأنه حينئذ سنتكلم بلسان الوحي دون علم ولا برهان، وهذا لا يجوز، ولو لم يخبرنا الله عز وجل في القرآن الكريم عن عقاب أقوام بتلك المظاهر من الطبيعة آنفة الذكر ما جاز لمؤمن بالله أن يجزم بذلك، ولكن إطلاق القول إن من عقاب الله تسليط الجفاف أو الطوفان أو الزلازل أو الأسقام غير المسبوقة على من تجبر وطغى، فهذا جائز وهي سنة ماضية في خلقه، وهو منهاج أهل السنة والجماعة في التفريق بين المطلق والمعين في باب الوعيد، فيطلقون ما أطلقه الشرع على من ظلم وطغى من وعيد شديد، ويتوقفون في المعين لافتقارهم على الدليل الخاص به، والمنهاج نفسه في باب اللعن، يفرقون بين المطلق والمعين فيه؛ فيجوزون قول القائل: لعنة الله على شارب الخمر لورود الحديث بذلك من باب الإطلاق، ولكن لا يجوزون أن يقال: لعنة الله على شارب الخمر المعين فلان من الناس، وقد نهى الشرع عن ذلك. وعليه، فإطلاق القول بأن الله يعاقب بعقابه الكوني أي بمظاهر الطبيعة غير المعتادة الطغاة والظلمة والفجرة هو من أحكام الشرع المطلقة الواجب اتباعها، ولا مخالف لهذا القول من أهل العلم، بل قد يؤخذ بجريرة الظلمة والطغاة الصالحون من الناس؛ فيسلط الله عليهم عقابا يعم جميعهم إلا من يشاء الله له النجاة، يقول الله عز وجل { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) } [الأنفال: 25]، وفي الحديث الصحيح عن زَيْنَب ابْنَةجَحْشٍ قالت: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ ؟ فقَالَ لهاصلى الله عليه وسلم: « نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ ». تحدثنا في الفقرة السابقة عن عقاب الله الكوني بمظاهر طبيعية غير معتادة، ونود في هذه الفقرة أن نتحدث عن عقاب الله من نوع آخر يسلطه الله على المذنبين المتجبرين والطغاة، ويكون ذلك بحرمانهم من الطيبات؛ حرمانا أو تحريما إما كونا وقدرا ويسمى بالتحريم الكوني أو التحريم القدري، وإما شرعا ويسمى بالتحريم الشرعي. 2 عقاب الله بالتحريم الكوني للطيبات من معاني التحريم لغة المنع، وهو المراد به هنا، فيكون التحريم الكوني للطيبات بأن يمنع الله عز وجل من يشاء من خلقه أن يصل إلى الطيبات، فيأمر الله كونا وقدرا بأن تصبح تلك الطيبات ممنوعة ومحرمة على من استحق هذا الحرمان، ويتصور ذلك إما بفقدانها تماما فلا يجدها المعاقَب بعدما كانت متوفرة لديه، أو ببقائها موجودة غير أنها عزيزة المنال وصعبة الحصول يستحيل الوصول إليها قضاء وقدرا، فهو تحريم للطيبات تحريما كونيا، ومن عاقبه الله به فلا مردّ له إلا أن يشاء الله رفعَه، ويكون رفعه بتغيير الأسباب الكونية التي أدت إلى منعه وتحريمه على الخلق. وقد دلت نصوص شرعية على وقوع هذا النوع من التحريم، فمنها: قوله تعالى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة: 26]، ووجه الشاهد من الآية الكريمة أنه لما أمر الله عز وجل بني إسرائيل بالدخول إلى الأرض المقدسة جهاداً مع موسى وأخيه عليهما السلام ورفضوا ونكلوا، عاقبهم الله بأن حرّم عليهم تلك الأرض المقدسة تحريما كونيا، ومنعهم من الوصول إليها، فالأرض المقدسة لا تزال موجودة في مكانها إلا أن بني إسرائيل مُنعوا منها وحرموا طريق الوصول إليها؛ يقول ابن كثير في تفسيره: "حكم الله عليهم بتحريم دخولها قدَراً مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائما لا يهتدون للخروج منه"، وتذكر كتب التفسير"عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أنه قال: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ﴾ الْآيَةَ. قَالَ: فَتَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، يُصْبِحُونَ كُلَّ يَوْمٍ يَسِيرُونَ لَيْسَ لَهُمْ قَرَارٌ". قال ناصر السعدي في التفسير: "وفي هذا دليل على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة". يعني أن الدخول إلى الأرض المقدسة كان ميسرا لو استجابوا إلى أمر الله، وهذا التيسير كان نعمة من الله، فلما عاندوا واستكبروا حُرموا هذا التيسير وعوقبوا بزوال النعمة التي كانت متيسرة وأصبحوا يعيشون في التيه، فحُرّمت على بني إسرائيل الأرض المقدسة كونا وقدرا في تلك المدة المنصوص عليها. وهذا النوع من التحريم لا يزال يقع في الناس إلى اليوم؛ إما أفرادا أو جماعات وأمما، وقد يقع حتى للمسلمين إذا ما اتصفوا بالأوصاف التي يستحقون بها العقاب بالتحريم الكوني، إلا أنه لا يعم جميعهم رحمة من الله وفضله، يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى (14/ 153): "فشريعة محمد عليه الصلاة وإسلام لا تنسخ ولا تعاقب أمته كلها بهذا، ولكن قد تعاقب ظلمتهم بهذا بأن يحرموا الطيبات أو بتحريم الطيبات: إما تحريما كونيا بأن لا يوجد غيثهم، وتهلك ثمارهم، وتقطع الميرة عنهم، أو أنهم لا يجدون لذة مأكل ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس ونحوه كما كانوا يجدونها قبل ذلك، وتسلط عليهم الغصص وما ينغص ذلك ويعوقه، ويجرعون غصص المال والولد والأهل كما قال تعالى: { فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا}…وقال تعالى: { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } فيكون هذا كابتلاء أهل السبت بالحيتان". اه ومن تأمل كثرة الطيبات التي تحيط بالمسلمين اليوم، بل وبالعالم أكمله، ورغم ذلك يعيش معظم الناس في نغص وفقدان للسعادة الحقيقية، فلا يجدون لذة لتلك الطيبات ولا يستشعرون بحلاوتها، كأنما سلبت منها سلبا كونيا، وما ذلك إلا عقابا من الله بفقدان اللذة من تلك الطيبات وتحريمها تحريما كونيا، فإن الطيبات لا تراد لذاتها وإنما للسعادة أو اللذة التي تجلب منها، فما قيمة وجودها مع فقدان أثرها. وقبل أن أنتقل إلى النوع الثاني من العقاب بالتحريم وهو التحريم الشرعي فإني أود أن أشير أن من التحريم الكوني ما يكون أحيانا رحمة ولا يكون نقمة، ويكون مصلحة ولا يكون مفسدة، ويكون خيرا ولا يكون شرا وعقابا؛ من ذلك ما وقع لموسى عليه السلام لما كان رضيعا، فمُنع من المراضع وحرم عليه ذلك قدرا وكونا، وكره المراضع طبعا حتى يعود لأمه وتقر عينها به، وهو تحريم كوني لمصلحة موسى ورحمة بأمه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)﴾، يقول الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير عند تفسير الآية:"والتحريم: المنع، وهو تحريم تكويني، أي قدرنا في نفس الطفل الامتناع من التقام أثداء المراضع وكراهتها ليضطر آل فرعون إلى البحث عن مرضع يتقبل ثديها؛ لأن فرعون وامرأته حريصان على حياة الطفل، ومن مقدمات ذلك أن جعل الله إرضاعه من أمه مدة تعود فيها بثديها". اه ومن هذا النوع -أي التحريم الكوني للطبيات- الذي يكون خيرا على الناس وفي مصلحتهم ما أخبر الله به في القرآن الكريم عن فئة من المؤمنين قليلي العلم وضعيفي الإيمان، الذين تمنوا حظ قارون مما أوتي من القوة و سعة في الملذات وكثرة في الأموال، وهم قد حرموا من ذلك كله كونا وقدرا، ولكن لما طغى قارون وتجبر وأنكر فضل الله عليه عاقبه الله بعقاب كوني إذ خسف به الأرض، علمت تلك الفئة المؤمنة أن ما حُرموا منه من طيبات قضاء وقدرا أو تحريما كونيا إنما كان في مصلحتهم، وكان خيرا لهم، ولهذا جاء في بيان حالهم بعدما عرفوا مصير قارون وعقابه؛ {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)} [القصص]. ويشهد كذلك للتحريم الكوني للطيبات الذي يكون في مصلحة الناس عموم قوله تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى:27، 28]، فبسط الرزق وتوسيعه يعدّ من الطيبات، ولكن في حق بعض الناس قد يؤدي إلى البغي؛ إما في إنفاقه فيما لا يجوز أو بامتناع من أداء حق الزكاة فيه، أو في غيره من أنواع البغي، ولكن رحمة بهؤلاء حرموا البسط في الرزق قضاء وقدرا. يقول ابن جرير في تفسيره: "ولو بسط الله الرزق لعباده، فوسعه وكثره عندهم لبغوا، فتجاوزوا الحدّ الذي حدّه الله لهم إلى غير الذي حدّه لهم في بلاده بركوبهم في الأرض ما حظره عليهم، ولكنه ينزل رزقهم بقدر لكفايتهم الذي يشاء منه". 3 عقاب الله بالتحريم الشرعي: دلت نصوص شرعية على أن الله سبحانه وتعالى عاقب أقواما لما طغوا وتجبروا، وكان عقابه لهم بتحريم عليهم الطيبات تحريما شرعيا، فإن الأصل في الطيبات أن تكون حلالا ومباحا للجميع، ولكن بسبب ظلم قوم وعصيانهم أمرَهم الله وتعبدهم بتحريم تلك الطيبات، وهو تشديد عليهم جزاء لعصيانهم وتمردهم، من ذلك: قوله تعالى:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160] قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)} [الأنعام: 146] فهذه الآيات وغيرها تدل دلالة واضحة على أن الله عاقب اليهود بتحريم الطيبات عليهم تحريما شرعيا، أي تعبدهم الله بالتشديد عليهم لما وقعوا في البغي والظلم والصد عن سبيل الله، ولهذا كانت بعثة محمد عليه الصلاة والسلام رحمة لهم بالدرجة الأولى، إذ نسخت شريعته ما كان محرما عليهم من الطيبات وما كانوا فيه من أغلال وأثقال؛ {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } [الأعراف: 157]. وإذا كان العقاب بتحريم الطيبات متوقفا عن أمر شرعي ويعرف بوحي من الله، فهل لا يزال هذا النوع من العقاب يهدد المسلمين اليوم وقد انقطع الوحي؟ نحن نعلم أن سنن الله الكونية والشرعية لا تحابي أحدا، ومن العدل الإلاهي أن الأوصاف التي استوجبت العقاب بالتحريم الكوني أو التحريم الشرعي إذا ما تحققت في قوم ما فإن مقتضى ذلك أن يحل عقاب الله عليهم بتحريم الطيبات إما تحريما كونيا أو تحريما شرعيا، وقد مضى بنا أن اليهود عاقبهم الله بالتحريم الشرعي لما اتصفوا بصفات الظلم والبغي والصد عن سبيل الله، ولما كان الحديث بلسان الشرع وظيفة العلماء، فإن العلماء ورثة الأنبياء، وهي وظيفة ومهمة ماضية إلى أن تقوم الساعة، فإن العقاب بالتحريم الشرعي للطيبات أو الحلال قد يقع لبعض المسلمين وليس لعمومهم إذا اتصفوا بما يستوجب ذلك، فتكون هناك أشياء معينة هي في أصلها حلال وليست حراما، لكن يأتي من يحرمها بلسان الشرع وينسب ذلك التحريم إلى الشرع، ويصبح تحريما شرعيا بهذا الاعتبار، وهو في حقيقته عقاب من الله بتحريم الحلال والمنع منه على من طغى وظلم وصد عن سبيل الله ونهى عن المعروف وأمر بالمنكر، ويتصور أن يقع ذلك في صورتين اثنتين: الصورة الأولى: أن يأتي من يظن في نفسه أن له الأهلية أن يتكلم في دين الله وهو في حقيقة الأمر جاهل بالدين، فيفتي بتحريم أشياء وهي حلال، فيلتزم الناس ذلك التحريم والحرمان من الحلال والوقوع في الشدة والحرج بناء على أن الشرع هو الذي حرمه. ويشهد لهذا المعنى ما رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ الْعِلْمَ مِنَ النَّاسِ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ فَيَرْفَعُ الْعِلْمَ مَعَهُمْ، وَيُبْقِى فِي النَّاسِ رُءُوسًا جُهَّالاً، يُفْتُونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَيَضِلُّونَ وَيُضِلُّونَ». ومن الضلال تحريم ما أحل الله، بل هو من أشد الضلال،فلا يقل خطورة عن تحليل ما حرم الله، ونحن نرى صورا كثيرة من هذا الضلال في الحياة، أي من تحريم ما أحله الله بسم الدين، ولنكتفي بضرب مثال واحد لأجل التقريب: كما هو معلوم، تجب على المرأة المعتدة من وفاة أمور مذكورة في كتب الفقه، ولكن في الثقافة الشعبية التي منشؤها الفتوى بغير علم واتخاذ رؤوس جهال أنها حرّمت على المرأة المعتدة من وفاة أن تغير ثيابها مدة العدة أي أربعة أشهر وعشرا، كما حرمت عليها أن تستحم وتنظف جسدها وإن كانت في حاجة إلى ذلك، وهذه المحرمات هي في الأصل مباحات جائزة لها، ولكن اتخذت شكل العقاب بالتحريم الشرعي، فصار بعض النساء يتجنبنها وهي عليهن آصار وأغلال. الصورة الثانية: إذا كانت الصورة الأولى بينت أن رفع العلم وإحلال الجهل مكانه هو الآلية التي يتم من خلالها وقوع عقاب الله بالتحريم الشرعي فإن في الصورة الثانية تتحدث عن آلية خفاء العلم على العالم المتحدث هنا بلسان الشرع؛ هو عالم له أهلية الاجتهاد، واجتهاده يدور بين الأجر والأجرين، ولكن بسبب ما استوجب العقاب الإلاهي بالتحريم الشرعي للطيبات، تُعرض على العالم المجتهد المسألةُ ليكشف عن حكم الشرع فيها، فيخفى عليه دليل الحل وتقوى في نفسه شبهة الحرمة والمنع، فيفتي بالتحريم ويقع الناس في حرج وشدة؛"فإن المجتهد عليه أن يقول ما أدى إليه اجتهاده، فإذا لم يؤد اجتهاده إلا إلى تحريم هذه الطيبات لعجزه عن معرفةالأدلة الدالة على الحل، كان عجزه سببا للتحريم في حق المقصرين في طاعة الله ". يقول ابن تيميةفي مجموع الفتاوى (14/ 153):"وكذلك اعتقدوا تحريم كثير من المعاملات التي يحتاجون إليها كضمان البساتين والمشاركات وغيرها وذلك لخفاء أدلة الشرع، فثبت التحريم في حقهم بما ظنوه من الأدلة، وهذا كما أن الإنسان يعاقب بأن يخفى عليه من الطعام الطيب والشراب الطيب ما هو موجود وهو مقدور عليه لو علمه، لكن لا يعرف بذلك عقوبةً له، وإن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وقد قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} { ويرزقه من حيث لا يحتسب } فهو سبحانه إنما ضمن الأشياء على وجهها واستقامتها للمتقين كما ضمن هذا للمتقين. فتبين أن المقصرين في طاعته من الأمة قد يؤاخذون بالخطأ والنسيان ومن غير نسخ بعد الرسول لعدم علمهم بما جاء به الرسول من التيسير ولعدم علم من عندهم من العلماء بذلك". اه ونظرا لكثرة الأمثلة أيضا من هذا النوع من العقاب بالتحريم الشرعي نكتفي بذكر مثال يتعلق بحكم البيع بالآجال مع الزيادة في الثمن، فقد أفتى بعض العلماء المعاصرين بحرمة هذا البيع لشبهة الربا في نظره، وهو بيع عليه اتفاق العلماء بالحلية، ولكن خفي على ذلك العالم دليل الحل وأفتى بالحرمة، وأخذ بفتواه من يقلده من الناس وهي شريحة كبيرة في المجتمع، فوقعوا في ضيق وشدة. ومن الأحاديث التي تدل على عقاب الله للمذنب إما بالتحريم الكوني للطيبات أو التحريم الشرعي لها ما رواه أحمد وغيره بسند صحيح عن ثوبان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: « إِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ.. » الحديث. ولا شك أن حرمان العبد من الرزق بسبب ذنب اقترفه له صور كثيرة منها؛ ما يدخل في التحريم الكوني للرزق، كأن يمنع سبل تحصيل الرزق من معرفة ومهارة أو من التوفيق فيه، ومنها؛ ما يدخل في التحريم الشرعي كأن يسأل عن حكم عمل يريد أن يقوم به ومن ورائه رزق يصيبه، أو يسأل عن حكم مال وصل إليه فيفتيه العالم بالحرمة حسب ما ظهر له من أدلة وإن كان العمل أو المال حلالا عليه. والله اعلم.