بلغني يوم أمس نبأ وفاة الشيخ المسند المدقق محمد الأمين بوخبزة الحسني التطواني رحمه الله وجعل الجنة مثواه، فحزنت وآلمني الخبر، وزاد من حسرتي استشعار شدة الرزية بفقد العلماء، فموتهم ثلمة وشرخ في جسد الأمة، كيف لا وهم مصابيح الدجى ومنارات الهدى وهم من يسلكون بالناس إلى صراط الله المستقيم وهم حملة هم الدعوة والتوجيه والتقويم والتسديد . موت العلماء مصيبة من أعظم المصائب وأبلغها كلما وتأثيرا، خاصة في هذا الزمن الذي عم الجهل فيه وانتشر، وأصبح فيه كل ناعق يهرف بما لا يعرف، فاللهم اجبر كسرنا وعوض الأمة خيرا، وارحم الشيخ بوخبزة وتقبله عندك وارفع درجته في عليين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفرنا لنا وله ولسائر المسلمين. وقفت على شهادات لمعارف الشيخ وتلامذته والمحيطين به، فوجدتها مجمعة على اتصافه رحمه الله بالخلق الجميل، وحسن المعشر، ونكران الذات، وبذله للعلم والتوجيه ابتغاء مرضاة الله وثوابه، لا يرجو من الناس جزاء ولا شكورا، ولا ينتظر منهم مدحا ولا ثناء. وقد استحضرت وأنا أتتبع هذه الشهادات في حق الفقيد ذكرى والدي الشيخ محمد زحل رحمه الله، فقد كان متصفا بالصفات نفسها من حسن الخلق وبذل الوقت في العلم والدعوة مع تواضع قل نظيره وجنوح إلى الظل وإيثار لعدم الظهور. فالفقيدان رحمهما الله تشابها في السيرة وشهد لهما القاصي والداني بحسن النية وصفاء السريرة، ولا عجب فهذا ديدن العلماء الربانيين – نحسبهما كذلك ولا نزكيهما على الله- وقد اقتدوا في ذلك بخير خلق الله أجمعين حبيبنا المصطفى عليه أزكى الصلاة والسلام. في هذا المقام أقف وقفة لأقول: معاشر الدعاة وطلبة العلم، إن باب العلم والدعوة ونشر الخير ثغر من ثغور الدين، وهو أمانة حملكم الله إياها، فكونوا مستشعرين لعظم المسؤولية، وسدوا الخلل وكونوا عوضا للأمة عن الراحلين وعلى نهجهم ونهج نبينا محمد صلى الله عليه وسلم سائرين، وعلى الحق ثابتين غير مبدلين ولا مغيرين، واستعينوا على ذلك بسؤال المولى عز وجل الثبات فنحن في زمن التقلب والفتن أعاذنا الله وإياكم من شرها.وإياكم والاغترار بالذات، والعجب بالعمل ،وحب الظهور، فو الله لقد كان علماء السلف أعظم الناس قدرا و أكثرهم عملا وبذلا للغالي والنفيس من أجل رفع راية دينهم، وما تفاخروا بذلك، بل كان الواحد منهم يعد نفسه مقصرا مخلا بواجبه وما هذا إلا مظهر من مظاهر إخلاصهم وصدقهم مع ربهم. وقد ظهر في هذا الزمان أناس حفظوا كتاب الله، ونالوا حظا من العلم، لكن جعلوه مطية للحصول على عطايا الناس ونوالهم، إذا دعاهم فقير لمناسبة أو وليمة بغية تذكير الناس وترقيق قلوبهم أشاحوا بوجوههم عنه وتعالوا واستكبروا استكبارا، وإذا دعاهم غني تهللت الوجوه واستبشروا استبشارا، فغايتهم الغنيمة والدراهم ،لا التذكير والموعظة ابتغاء ثواب الله وتأدية لزكاة العلم إذ زكاته بذله للناس.ترى الواحد من هؤلاء إذا تلا آيات من كتاب الله في مجمع أو وعظ الناس موعظة لا روح فيها جعل يرقب ببصره عند تفرق الجمع صاحب البيت(الغني كما أسلفت) وينتظر إخراج الظرف أو الشيك من الجيب، فإن خاب ظنه ولم ينل طلبه أصبح من الغد ذاما له وسابا، قاصا خبره وما كان منه على كل من يلقاه، وكأنه أجرم في حقه، وغاية الأمر أن صاحب البيت أحسن به الظن وقال محال أن يرغب الشيخ في أخد أجر على العلم وتلاوة كتاب الله [مع من أنت يا مسكين]. وثلة من هؤلاء يعدد الولائم في الليلة الواحدة رجاء مضاعفة الأجر، أقصد هنا الأجر الدنيوي أما الأجر الأخروي فلا مطمع له فيه فالأعمال بنياتها ،فتجده إذا أتم كلمته أو تلاوته للقرآن وقضى ما عليه قام مغادرا متحججا بعياء مفرط أو دوار أو مرض مباغت ،وكل هذه المبررات ليدرك مناسبة أخرى قبل تفرقها ليزيد من غلة يومه. وثلة أخرى من المتعالمين همهم الطواف بالأسواق، يأتون التجار في محلاتهم يسألونهم تكثرا تصريحا أوتلميحا بأسلوب الإيماء والإشارة... فليتذكرْ هؤلاء الحديث المروي في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يزال الرجل يسأل الناس، حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزْعَة لحم». وفي صحيح مسلم: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقلّ أو ليستكثر». وثلة أخرى يطلبون العلم تكثرا ليباهوا به العلماء ، ويتشدقوا بغريبه على صفحات مواقع التواصل ،ولم يدر بخلدهم يوما هم الدعوة وتعليم الناس وتعبيدهم لرب العالمين. كل هؤلاء أشباه علماء وأشباه دعاة لا ننشدهم و لا نطلبهم، فالأمة محتاجة لعلماء يعتزون بالدين، ويبتغون العزة فيه لا في المناصب والأطماع الدنيوية واللهث وراءها، الأمة محتاجة لمن يحمل همها ويبث العلم فيها ويمضي بأبنائها لبر الأمان في زمن الموجات الإلحادية والأفكار التشكيكية والفتن الآنية التي لا أول لها ولا آخر. فاللهم رد بنا إلى دينك ردا جميلا وأعزنا بدينك ، سبحانك تعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين.