هوية بريس – السبت 16 ماي 2015 عالج القرآن الكريم موضوع بر الوالدين والنظام الأسري عموما بأسلوب مانع، اتسم بربط علاقة الآباء بالأبناء بمقاربة الجزاء مرغبا بالوعد ومرهبا بالوعيد، ولا شك أن الواقف على الآي التي تناولت هذه العلاقة المقدسة لن يبذل كثير جهد ولن يصرف من إرسال بصره الوقوف الطويل ليكتشف ذلك المسلك القرآني الذي يبتدأ بالأمر الإلهي في صيغة الخبر الذي يتناول باستيعاب طرفي الإيلاد؛ ثم ما يلبث ربنا جل جلاله أن يفرد الكلام عن الأم في سياق يذكر لها فضل الحمل والمخاض والفصال. ولا شك أنها مواقف ومحطات عاشتها الأم في غياب أي تشكل ذاكري يحفظ لها هذا الفضل في وجدان الأجيال التي تربت وترعرعت بين البطن والحضن والظهر، ولا غرابة أن يتولى هذا الذكر عدلا وفضلا رب الإيجاد والإذن بالإيلاد سبحانه وتعالى. ولا شك أن الأم مدرسة عقدية دورها كان وسيبقى رغم عبث العابثين وتجاسر المترفين هو تبعل الزوج المعيل وتربية الناشئة على معرفة الرسالة الإسلامية التي تدين بها هي أولا وتعمل على تمريرها لهم ثانيا. وقد أدرك المتربصون بالأمة قديما وحديثا هذه المنزلة والأهمية التي تحظى بها المرأة في مقام الدور الحضاري المنوط بالأم أو بمشروع الأم أو مؤسسة الأم، فلا عجب ولا تعجب أن تساق بين يدي مشروعي الإغراب والاغتراب كل هذه الحشود من النسوة المبشرات الواصلات الموصولات بمشاريع الحداثة الحائفة، وأن تؤسس النوادي والمحافل والجمعيات والمنتديات، وأن تغدق الأموال بسخاء مثير، وأن تسال أودية من الحبر مخلفة وراءها ومن بين يديها ركاما من المصنفات والمظان التي سعى مؤلفوها إلى صد المرأة عن سبيل رسالتها وإبعادها عن دينها وتسفيرها عن مسلاخها العقدي باسم التحرير والتكريم والمساواة والنضال من أجل الحقوق والحريات. ولست أدري أي علة اشتراك مسبورة تدفعني بترادف خواطر إلى ربط ما يقع للمرأة اليوم من بسط يد المتربص بنداء الاحتضان وتبني صراخ الجنس الحداثي منها وبث ضجيج شكوى نسوة المجتمع المدني في جغرافيا الإسلام والمسلمين بملمح محاكاة ما وقع أيام النبوة المباركة لكعب بن مالك أحد الثلاثة الذين تخلفوا عن مشهد تبوك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي غمرة تلك القَدَرَة التي صورها القرآن الكريم في أبلغ تصوير حيث قال ربنا جل جلاله: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} وقد بلغت ذروة هذا الضيق سقف الأمر باعتزال الزوجات ونهي النبي عليه الصلاة والسلام صحابته مباشرة الثلاثة بالعبارة والإشارة حيث حكى كعب قائلا: «فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك فطفق الناس يشيرون له حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فإذا فيه: أما بعد فإنه بلغني أن صاحبك قد جافاك ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسيك، فقلت لما قرأتها وهذا أيضا من البلاء فتيممت بها التنور فسجرته بها». ولسنا هنا في معرض بيان الكلام بتفصيل هادف عن هذا الجيل ومواقفه الصلبة القوية التي تكسر على صلد صفوانها كل ميل وإقعاد وصد عن صراط الله المستقيم، ولكن المراد لفت الانتباه إلى حقيقة أن مكر القوم وكيدهم هو اجترار وعود على بدء مستمر بنحو غير منقطع العدوان، وأن العدو كان ولم يزل قريبا من حركاتنا وسكناتنا. ولذلك فكما اعتقد ملك غسان حال علمه بواقعة الثلاثة أن مناخ ما سماه بالمجافاة هو حال يسمح بتسور محراب أخوة العقيدة وخرق صرح التفاف الجماعة حول سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، يعتقد المتربصون اليوم أن فرض ميراث الابنة والأم والجدة، وكذا شعائر التعدد والحجاب والنقاب، وآية الوقر في البيت، وحديث ناقصات عقل ودين هو ثغرة وقعت عليها أيدي المستشرقين قديما وتبقى ثلمة مخوف بالنسبة لعامة المسلمين بله خاصتهم. والغرب اليوم وأبناؤه بالرضاعة من بني الجلدة يمارسون دور ملك غسان بقوله لكعب: «ولم يجعلك الله بدار هوان ومضيعة فالحق بنا نواسيك»، فباسم القوانين الكونية وإنسانية المرأة تتم مواساة المرأة المسلمة في غير حاجة بنزع ثوب الوقار ومحارة الحشمة ودثار الحياء وبرفع شعار المساواة لتتمرد على المعلوم من الدين بالضرورة وعلى القطعي الدلالة من نصوص الوحي ووأد نفسها باسم الحرية في علب النخاسة الليلية تؤثث بها جلسات معاقرة أم الخبائث، ومجالس الخنا، فتستنسخ أنوثتها كوجبة لإشباع نزوات المتهارشين من الذئاب والكلاب البشرية، من الذين يرفضونها كزوجة ثانية ولا يتوانون عن أكل محنود لحمها، وذائب شحمها، وإلباسها سفور الموضة وقياس خصرها وردفها، وابتسامة ثغرها، وبياض سنها، وتتويجها بعد هذا بتاج الجمال واستشراف حشرها عارية كأي سلعة وراء الواجهات الزجاجية في أرقى الشوارع الغربية معروضة للبيع البخس لطلاب المتعة العابرة، والترويج لبضاعتهم بدء من كبسولة «الشمبوان»، وانتهاء بعروض أفخم السيارات عبر توظيف وجهها في مقاربة استشهارية بين حجم العرض والطلب. وتقريبا لهذا الزيف الحداثي يحضرني ما كتبه محمد قطب رحمه الله في كتابه «واقعنا المعاصر» إذ قال: «في مظاهرة النسوة في ميدان النيل -ميدان التحرير حاليا- وأمام ثكنات الجيش الإنجليزي سنة 1919م تجمعت النسوة أمام ثكنات قصر النيل وهتفن ضد الاحتلال وبدون مقدمات ظاهرة، خلعن الحجاب وألقين به على الأرض وسكبن عليه البترول وأشعلن فيه النار وتحررت المرأة». وليس يدري المرء أي علاقة بين تحرير مصر من الاحتلال وتحرر نسوة مصر من حجابهن، خاصة إذا عُلم أن ما وقع كان سنة 1919م بينما لم تنل مصر استقلالها الصوري الذي أبقى على القواعد العسكرية البريطانية إلا في سنة 1922م، مع التنبيه على استمرار التدخل البريطاني في الشؤون المصرية الداخلية والخارجية إلى اليوم، ولكنها لعبة الإجمال ودعوى الكمال في ثوب الركس والنذالة والنقصان وحرص المترفين على الميل بإيماننا وإمائنا كل الميل. كما ليس يدري المرء كيف يتسنى له الجمع بين ركام الأضداد الذي خلفه هؤلاء، فقد يسجلون حضورهم وضجيجهم ويرفعون ويرفعن عقيرة المواجهة من أجل القفز على حقيقة سن اقتدار الفتاة على تحمل عبء ميثاق الزوجية، لكنهم يغيبون ويتغيب ركزهم وركزهن وأعراض الصغيرات بله الصغار يتاجر بها في أروقة الفنادق المسجلة وفي رياضات المدن السياحية، بل تجدهم وتجدهن يشعلن السروج احتجاجا على عقوبة الإعدام وتطبيقها في حق القاتل المغتصب ثم يسجلون مناورتهم في لون أفقع من الأسود فيطالبون بتحرير قانون إجازة الإجهاض. فانظر إلى عجيب المفارقة بين صراخهم من أجل حياة كل مغتصب أفاك أثيم وضجيجهم بالمقابل منادين بإعدام البراءة في مهدها قبل الاستهلال الأول، حتى إذا عجزوا وعجزن وجدتهم وجدتهن يسجلون ويسجلن حضورهم وحضورهن إلى جانب الأم العازبة، تلك التي يعرّف الغرب مفهومها بأنها التي تجد نفسها وحيدة مع طفل أو أطفال بعد موت أو فراق أو هجران الحليل أو الخليل، مع وضع خط عريض تحت مسمى «الخليل» المقصود أصالة في مقام هذا الدرك، وإلا فكل المعطيات على الأرض تذهب إلى استحالة وضع قيد العزوبة إلى جانب الأم ولو بعد موت الحليل. هذا وإن عقيدتنا تفتح أمامنا هامشا من الاطمئنان مصدره أن الغلبة استشرافا هي في صف حظنا بعد صبرنا ومصابرتنا، سيما وأن ارتفاع حالات الطلاق المتكتم على أرقامها بقصد لا بغيره، وكذا ارتفاع طابور العنوسة بين صفوف النساء يعضد من صحة وسلامة ما استشرفناه من مآلات مفاوز. وليس ثمة ما نزكي به هذا الاستشراف وحتمية وقوعه أفضل مما حكاه الأستاذ الكاتب عبد الفتاح إسماعيل غراب في كتابه «العمل التنصيري في العالم العربي» عندما قال: «ومن التجارب التي قامت بإجرائها بعض المنظمات التنصيرية على النساء خاصة لاختبار عملها التنصيري أثناء احتلال فرنسا للجزائر ومن أجل القضاء على القرآن في نفوس شباب الجزائر، قامت فرنسا بتجربة عملية فتم اختيار عشر فتيات جزائريات مسلمات من قبل الحكومة الفرنسية وأدخلتهن في مدارسها ولقنتهن الثقافة الفرنسية وعلمتهن اللغة الفرنسية وألبستهن الثياب الفرنسية… وبعد أحد عشر عاما من الجهود هيأت لهن حفلة تخريج رائعة دعي إليها الوزراء والمفكرون والصحفيون. ولما بدأت الحفلة فوجئ الجميع بالفتيات الجزائريات يدخلن بلباسهن الإسلامي الجزائري… فثارت الصحف الفرنسية وتساءلت: ماذا فعلت فرنسا في الجزائر إذا بعد مرور مائة وثمانية وعشرين عاما؟ فأجاب لكوست -وزير المستعمرات الفرنسي- بحسرة: «وماذا أصنع إذا كان القرآن أقوى من فرنسا». ولا شك أنها لحظة انتصار قابلة للتكرار والعود بشرطه، وهو الكائن بإذن الله وحوله وقوته مصداقا لقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}. [email protected]