فند الدكتور مصطفى بنحمزة، رئيس المجلس العلمي المحلي لوجدة وعضو المجلس العلمي الأعلى، عن طريق مواجهة الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة، ما ذهب إليه الناشط الحقوقي أحمد عصيد عندما صرح بأن الكتاب المدرسي يضم مقررات قد تحرض على الإرهاب، مستدلا برسائل النبي إلى ملوك العالم تشمل دعوة "أسلم تسلم". واعتبر بنحمزة، في مقال مطول خص به هسبريس، بأن الفهم الجيد لرسائل "أسلم تسلم" تفيد بأنها خطاب تحرير بامتياز، و"لا صلة لها بمعنى الحرب إطلاقا، فقد قال صلى الله عليه وسلم لهرقل "أسلم تسلم"، وتولى صلى الله عليه وسلم بنفسه تفسير قوله "تسلم" لما قال: "يؤتك الله أجرك مرتين". وزاد العلامة بأن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل أثار قضية مظلمة تعرضت لها طائفة نصرانية هي طائفة الأريسيين، يوم لم يكن هناك من يجرؤ على أن يخاطب هرقل في شأنهم، أو ينتصب للدفاع عن هذه الطائفة المضطهدة". وهذا نص مقال بنحمزة ردا على عصيد، كما توصلت به هسبريس، حيث جمع فيه قطوفا من بساتين معرفية كثيرة منها التاريخ والدين واللغة واللسانيات والفلسفة.. نقلت الكثير من المواقع الإعلامية ما صرح به أحدهم في بعض الندوات من أن الكتاب المدرسي يحتوي على نصوص تحرض على الإرهاب وتغري به، ومنها قول النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه إلى هرقل (أسلم تسلم)، ومن ثم دعا إلى حذفها من المقررات الدراسية. ومن غير المنطقي أن يتنصل صاحب هذه المقالة بعد ذلك بادعاء أنه لم يتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالإرهاب، وإنما قال: إن قوله (أسلم تسلم) قد يوظف في التحريض على الإرهاب. وهذا قول آخر يجب أن يكون الإنسان عديم الإدراك والفهم ليقبل به، لأن فيه تمييزا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وخطابه، وقول الإنسان ليس إلا تعبيرا عن فكره ورأيه، ولو صح الفصل بين الإنسان وقوله، لوجب تغيير كثير من الحقائق التي استقاها الناس من أقوال أصحابها، ولما صحت إدانة أي إنسان قضائيا بناء على أقواله وتصريحاته، ولست أدري أي مدرسة لسانية تقول بالفصام والقطيعة بين اللغة و الفكر. لأن المقرر هو أن اللغة وعاء الفكر، وأن صلتها هي بالأساس صلة بالأفكار لا بالواقع كما هو، وهي لا تصوره وإنما تصور رؤية الناس اليه. وحيث إن هذه الدعوى تكتنفها أخطاء معرفية من كثير من جوانبها، وحيث إن الاستنتاج الذي انتهت إليه لا تؤدي إليه ولا تبرره على الأقل قواعد تحليل الخطاب والاستمداد منه، وما تتطلبه من دراية بدلالات الألفاظ عموما، وبدلالاتها في ارتباطها بالمعجم وبالحقل المعرفي الذي تنتمي إليه خصوصا، وبدلالاتها في نطاق الزمن الذي قيلت فيه، وبما أن الدعوى قد تجاهلت أيضا مستندا قويا يتأسس عليه التحليل السليم، وهو المستند الذي عبر عنه علماء الدلالة والأصول ببساط القول، وعبر عنه البعض بالقرائن المقالية والحالية، وعبرت عنه الدراسات الدلالة الحديثة بالسياق، فإن ذلك كله يدعو إلى ضرورة إعادة تحليل الخطاب الذي أصبح يحمل تهمة الإرهاب، مثلما حملها الكثير ممن لهم صلة بالنص الشرعي من علماء ومؤسسات علمية وغيرها، ضمن ممارسة فعل التخويف والتحذير من الكلام الذي لا تكون تبعاته في نهاية المطاف إلا إلقاء تهمة الإرهاب التي أصبح البعض يوظفها ويشهرها في وجه المخالف حتى لا يجرؤ على الكلام على حد قول بول فندلي. وأول ما يقتضيه المنهج الإسلامي في البحث في أي نص مهما تكن طبيعته، هو توثيقه وإثبات صحة عزوه إلى من نسب إليه أولا، ثم إيراده كاملا وغير مبتسر ليتضح المعنى، ولئلا يحكم على النص بجزء منه. وبخصوص قول النبي صلى الله عليه وسلم (أسلم تسلم)، فقد أثبتت مصادر الحديث الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم وجه إلى هرقل رسالة نصها: من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثمُ الأريسيين، يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون. وقد أثبت د. محمد حميد الله الرسالة النبوية ضمن كتابه مجموعة الرسائل السياسية في العهد النبوي، والخلافة الراشدة ص 109. وقبل تناول دلالات الحديث، فإنه لا بد من قطع الشك باليقين، ومن إيقاف كل التأويلات المصطبغة بالذاتية ببيان حقيقة يجهلها بالتأكيد من لا صلة له بالمعرفة الشرعية، وهي تتمثل في أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه قد نهى في حديث صريح عن قتال الروم أو الاشتباك معهم إلا إذا كانوا هم من يبادئ المسلين. يقول صلى الله عليه وسلم : " اتركوا الترك ما تركوكم". ( سنن الترمذي كتاب الملاحم باب في النهي عن تهييج الترك والحبشة). وبناء عليه، فقد تقرر في الفقه الإسلامي حكم خاص يقضي بعدم إعلان الجهاد على الترك أي الروم، ما داموا لم يبادئوا المسلمين بذلك، وهذا وحده كاف في الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد التهديد بالقتال حين نطق بالحديث، إذ من غير المنطقي أن ينهى عن الشيء وهو يقصده في خطابه. وقد كان بالإمكان أن يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم الروم بعدما تجمعوا في تبوك ثم انهزموا، لكنه لم يمعن في طلبهم، ولم يسع إلى قتالهم. وإذا كان الجيش الإسلامي قد التحم مع الروم ابتداء من السنة الثامنة للهجرة، فإن ذلك قد تم على أرض عربية، لم يكن الروم عليها إلا مستعمرين، وكانت المبادءة منهم، فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم سفيره الحارث بن عمرو بن جبلة إلى ملك بُصرى، لكن شرحبيل بن عمرو الغساني والي الروم على البلقاء، ترصد له فأوثقه ثم قتله، رغم أن السفراء لا يقتلون، لأنهم وسطاء للحوار والمفاوضة، وقتلهم يعني رفض التفاوض وقطع وسائطه، وبسبب هذا الاعتداء خرجت سرية إلى مؤتة وهي واقعة على مشارف الشام، وتسمى الكرك. ولم يكن عدد المسلمين فيها يتجاوز 3000 رجل، فوجدوا جيشا قوامه 200.000 جندي، فأبلى خالد بن الوليد البلاء الحسن في المواجهة والمناورة حتى سلم الجيش. وفي السنة 9 وبعد أن فتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة رأى الروم أن عليهم أن يحسموا الأمر مع الدولة الفتية، فجردوا لذلك جيشا، فلم يجد المسلمون إلا أن يخرجوا لمنعهم مما كانوا يعتزمونه، ولو أن الظروف لم تكن مواتية ولا مساعدة على الخروج، لأن ذلك تم في زمن الحر الشديد، وفي حال جفاف عاشه المسلمون، فاكتتب الناس لتجهيز الجيش الذي سمي جيش العسرة، ووقع اللقاء على أرض عربية هي أرض تبوك، فلما رأى الروم أن عدد المسلمين قد بلغ 30.000 جندي - وهو ما لم يتحقق في بلاد العرب من قبل- تفرقوا في الأمصار فانتهت غزوة تبوك بلا قتال. وإلى جانب هذا فإن الفهم الجيد لنص الحديث ولسياقه يفيد أنه لا صلة له بمعنى الحرب إطلاقا، فقد قال صلى الله عليه وسلم لهرقل (أسلم تسلم) وتولى صلى الله عليه وسلم بنفسه تفسير قوله ( تسلم) لما قال: يؤتك الله أجرك مرتين، وأحسن ما فسر به النص هو الوارد عن قائله كما هو معروف، ولا أحد يستطيع أن يتقحم بين النص وصاحبه، أو يدعي أنه أعلم بمراده منه، فيكون معنى السلامة في مخاطبة هرقل، هو حصول الأجر عن الإسلام مرتين، مرة بسبب إسلامه الشخصي، ومرة أخرى بسبب إتاحته ذلك لمن هو تحت سلطته. وفي المقابل فقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم مسؤولية عن عدم إسلام هرقل وهي تحمله تبعة الأريسيين، لما قال: فعليك إثم الأريسيين. ولا أحد يستطيع أن يزعم أن الحديث عن الأجر أو الإثم هو من معجم الحرب والقتال. والحديث يشير إلى ارتباط الإسلام بالسَّلم وبالسلامة، وهذه الألفاظ ذات جذر لغوي واحد، فإذا أصر المتعسف على النص أن يحمِّل كلمة تسلم التي هي فعل مصدره السلام والسلامة معنى التلويح بالحرب، فإن ذلك يجب سحبه على كل الخطابات المماثلة، فيكون معنى قول الله تعالى: عن ليلة القدر بأنها سلام هي حتى مطلع الفجر، أن الليلة لا حرب فيها، وإذا كان القرآن يسمي الجنة دار السلام في قول الله تعالى: ( لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون). فيجب أن يكون المعنى أن الجنة ليس فيها قتال ولا حرب. وإذا كان معنى قول الله تعالى عن أهل الجنة: (تحيتهم يوم يلقونه سلام). وقوله: (لا يسمعون فيها لغوا ولا تاثيما إلا قيلا سلاما سلاما). وإذا كان قول المومنين لمن يجهل عليهم سلاما، كما عبر عنه قوله تعالى: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما). كان المعنى هو أنهم يقولون: ليس بيننا وبينكم حرب. وقد سمى الله الإسلام كله سلاما، فقال: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم). وسمى نفسه سلاما فقال: (الملك القدوس السلام المومن...) وإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " افشوا السلام تسلموا ". ( أحمد بن حنبل 4/286) وقال: "إن السالم من سلم الناس من يده ولسانه".(أحمد بن حنبل 3/440) فهل يكون بالإمكان حمل السلم والسلامة على ما يشير إلى الحرب لفظا أو إيماء، تضمنا أو مطابقة أو لزوما، وهي كل الأوجه التي تدل بها الدلالات على مدلولاتها كما يقرر ذلك المناطقة؟. إن الأصل في السلامة أن يراد بها الخلو من العيب أو النقص، فقد يوصف المعنوي بالسلامة كما قال المتنبي: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى وتحدث الفقهاء عن السلامة من العيوب في البيوع، وفي الاستعمال المغربي يدعو الناس لبعضهم بالسلامة فيقول: من نُقل إليه سلام غيره: الله يسلمك. والأمثلة على هذا كثيرة، ولازالت بعض الشعوب تتحدث عن السلام الأبدي فيودعون ميتهم بقولهم REPOSE EN PAIXوليس فيها إشارة إلى الحرب أو القتال. وفي مجال التعامل بين الشعوب يطلق السلم على الصلح. (كليات أبي البقاء الكفوي ص: 507)، كما يطلق على المسالمة وترك القتال، كما في قول الله تعالى: (ورجلا سلِما لرجل) في القراءة بكسر اللام. ومن ثم يكون حمله على معنى القتال تحكما في دلالة لفظ يحتمل معاني كثيرة. ولعل الذين يسكنهم هاجس الحرب لا يدركون أن من اختار الإسلام قد اختار السلام والسلامة فعلا في نفسه، وفي معاشه وفي علاقاته المجتمعية، وأن من نبذ عقيدة الإسلام لا بد أن يعيش حيرة وحربا داخلية وصراعا شعوريا واضطرابا فكريا وترنحا سلوكيا، وهو ما تعبر عنه أشعار الإحساس بالاغتراب وبالضياع، وما تعبر عنه أيضا حالات اليأس والانتحار، يقول الله تعالى: (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يومنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون). وإن من العجيب حقا أن لا يتفطن الناظر في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنه قد ختمه بقول الله تعالى: " يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ... " فهل يعقل أن يدعو صلى الله عليه وسلم هرقل وقومه إلى كلمة سواء، وهو يهددهم بالحرب والقتال؟. إن المضمون المركزي الذي حملته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل هو مضمون آخر، هو بالتأكيد أرقى وأسمى مما توهمه صاحب المقالة، لأن مركز الثقل في الخطاب هو قول النبي صلى الله عليهم وسلم: فعليك إثم الأريسيين. ولا أظن أن صاحب المقالة كان بإمكانه أن يحوم حول المعنى العميق الذي سأذكره فضلا عن أن يقع عليه. فقد أثار خطاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل قضية مظلمة تعرضت لها طائفة نصرانية هي طائفة الأريسيين، يوم لم يكن هناك من يجرؤ على أن يخاطب هرقل في شأنهم أو ينتصب للدفاع عن هذه الطائفة المضطهدة. والأريسيون هم أتباع أريوس، وكان كاهنا ليبيا عاش جزءا من حياته في الأسكندرية ثم في أنطاكيا، وكان يعتقد أن عيسى ليست له طبيعة إلهية، وأن المرأة لا تلد الإله، وقد شاهد كيف أن الأمبراطور قسطنطين حاول الاستيلاء على المسيحية بعد أن حقق انتصارات عسكرية كبيرة، فكان هو من سعى إلى عقد المجمع المسكوني المسيحي بنيقيا، أو بقرية العميان على الاصح سنة 325 م، وكان هو صاحب اختيار العقيدة والأناجيل المعتمدة، رغم أنه لم يقرأ في حياته كتابا دينيا واحدا، وقد انحاز إلى عقيدة كنيسة الإسكندرية، التي كانت عقيدة مشوبة ببقايا التثليث المعروف في عقائد مصر القديمة، وانتصر الأمبراطور لرأيها، وأحرق الأناجيل ولم يستبق إلا أربعة منها، وحكم على أريوس بالهرطقة وبالخروج عن المسيحية، واضطهد أصحابه، ثم إنه تظاهر بالرغبة في عقد لقاء بين أريوس وأسقف كنيسة الإسكندرية، فاستدعاه لكنه دس له السم فمات في الطريق، وكان كل ذلك من أجل ضمان بقاء مصر تحت نفوذه ومن أجل استفادته من غلالها ومن عنبها خصوصا. وقد تمت ملاحقة الأريسيين واستئصالهم، فلم يعد أكثر الناس يعرف عنهم شيئا كثيرا، حتى كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم معلنة عن وجودهم ومنبهة إلى قضيتهم، وكانت داعية إلى تحرير هذه الطائفة المضطهدة، وإلى إقرار حقها في إعلان عقيدتها وفي ممارسة شعائرها كما تريد، ولهذا قلت إن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم كان خطابا أسمى، لأنه كان رسالة تحريرية بامتياز. وعبر زمن طويل استمرت قضية الأريسيين في الظل حتى عثر الأب ويليام كازاري (ت 1997) على صندوق في خرائب أثرية في الشمال الغربي لمدينة حلب، وكان يحتوي على ثلاثين رقا من جلد جيد، كتب عليها الراهب هيبا سيرته الذاتية وقصة أريوس بلغة سريانية قديمة. وكتب حواشيها راهب عربي من أتباع كنيسة الرُّها النسطورية من غير أن يذكر اسمه خوفا على نفسه. وقد اشتغل على هذه المادة الروائي المصري يوسف زيدان، وألف منها رواية فكرية وتاريخية هي رواية عَزازيل، وهو اسم إبليس في السريانية والعبرانية والعربية القديمة. فأثارت ضجة كبيرة في الأوساط المسيحية بمصر. وقد صور الرق الثاني من رواية عزازيل وهو المسمى بيت الرب مأساة أريوس بكل دقة. (عزازيل ص 20 ط. 9). ومن المفيد الرجوع إلى الرواية فهي ممتعة في أسلوبها ومفيدة في مضمونها باستثناء المقاطع التي أراد لها صاحبها أن تكون ساخنة، وهي تتحدث عن علاقة هيبا بأكتافيا. وإن كانت قد أحدثت ضجة بين المسيحيين في مصر. وإذا كانت الرسالة النبوية ليس فيها معنى التهديد بالحرب كما بينت، فليس معنى ذلك أن الاشتباكات لم تقع في التاريخ بين المسلمين والروم، وهذا موضوع يجب التمييز فيه بين النصرانية باعتبارها دينا، وبين سلطة الإمبراطورية الرومانية المستعمرة لأجزاء من أرض العرب وغيرها. فأما عن صلة الإسلام بالنصرانية في عهد الرسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعده، فقد كانت صلة جيدة، لأن القرآن تحدث عن عيسى عليه السلام 25 مرة بالإسم، و20 مرة بصفات المدح والثناء. ولأنه دافع عن طهارة مريم وسماها صديقة، وسميت سورة منه باسمها. ولأنه صور المظالم التي تعرض لها النصارى في نجران، لما تحدث عن قصة أصحاب الاخدود الذين حفروا أخدودا في الأرض، وأضرموا فيه النار وألقوا بالنصارى فيه، فقال الله عنهم: قتل أصحاب الاخدود النار ذات الوقود إذ عليهم عليها قعود وهم على ما يفعلون بالمومنين شهود. فتعاطف المسلمون معهم شعوريا، وأسفوا لمأساتهم. ولأن القرآن واسى النصارى بعد هزيمة الروم أمام الفرس، وبشرهم بوقوع النصر، وذكر أن يوم النصر سيكون يوما يفرح فيه المومنون بنصر الله، قال الله تعالى: (ألم غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المومنون بنصر الله). ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بأقباط مصر خيرا، وذكر أن لهم نسبا ورحما، لأن هاجر أم إسماعيل هي منهم. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على ملك الحبشة وكان نصرانيا، وقال عنه: إنه ملك لا يظلم لديه أحد، وهاجر المسلمون إليه، وكان هو من تولى خطبة أم حبيبة لتكون زوجا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي أعطاها صداقها بتوكيل من الرسول صلى الله عليه وسلم وقد أسلم النجاشي . وقد وادع المسلمون نصارى الحبشة ونصارى النوبة، ووادع معاوية بن أبي سفيان نصارى أرمينية. وخلال التاريخ الإسلامي حافظ المسلمون للنصارى على حقوقهم الدينية والمدنية، ونشأ عن ذلك فرع فقهي خاص هو علم السير، وهو علم اختصت به الأمة الإسلامية، ولم تسبق إلى مثله من قبل أن يعرف الناس أي قانون دولي، وهو فقه يحدد بكل دقة حقوق غير المسلمين في الدولة الإسلامية وأساليب التعامل معهم. وخلال التاريخ الإسلامي كله مُكن النصارى واليهود من ممارسة شعائرهم، فوجد في الشرق العربي في زمن المأمون أكثر من 11.000 كنيسة، على حين أنه لم يبق في الأندلس - بعد استيلاء إيزابيلا وفردناند - مسجد واحد ولا مقبرة تدل على أن المسلمين مروا من هناك. لكن علاقة الدولة الإسلامية بالإمبراطورية الرومانية هي موضوع سياسي آخر لا يمكن تكوين فكرة صحيحة عنه إلا من خلال استحضار معلومات أساسية منها: إن الإمبراطورية الرومانية قد مثلت في بعض الأجزاء من بلاد العرب، وفي الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط قوة استعمارية غاشمة. وقد حكم الرومان أجزاء من البلاد العربية شمالا وجنوبا حكما مباشرا، أو من خلال تنصيب كيانات سياسية موالية لها، وحامية لحدودها ومنفذة لإرادتها، فكانت في مملكة تَدْمُر حامية عسكرية رومانية في عهد القيصر طيباريوس، وكانت تَدْمُر تابعة لحكمه. ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام د جواد علي ج 3 ص 86). وكانت مملكة كندة متقلبة في ولائها بين الفرس والروم، ويدل على ذلك أن كندة لما قتلت حجرا والد امرئ القيس، لجأ امرؤ القيس إلى القيصر يستنجد به ويطلب منه العون العسكري للثأر لأبيه، لكنه يبدو أن هذا الطلب شكل عبئا على القيصر، فألبسه درعا مسمومة، فتمزق ببعض الطريق، وقد خلد امرؤ القيس هذه الرحلة فقال: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه *** وأيقن أن لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما *** نحاول مُلكا أو نموت فنُعذَرا وكانت مملكة الغساسنة تابعة لحكم الروم، فلم يكن بإمكان ملكتهم ماوية أن تنصب قسا إلا بإذن الروم، وقد عمل الروم على تنصير العرب ( المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام 3/396). فإذا كان الأمبراطور الروماني هو رأس هذه السلطة الاستعمارية التي تتحكم في بلاد العرب، فهل يكون توجيه الخطاب إليه ولو بلغ مستوى إعلان الحرب عملا إرهابيا؟ أم إنه يجب أن يعتبر خطابا تحريريا لأمة واقعة تحت نير الاستعمار؟ هذا بالضبط ما قاله الاستعمار لكل حركات التحرير والمقاومة. أما الحقيقة الثانية المبرزة لتدخل الروم في شأن الدولة الإسلامية الفتية، ومنذ زمن مبكر، فيمكن التقاطها من حديث القرآن عن قصة مسجد الضرار الذي كان مسجدا في الظاهر، لكنه كان في حقيقته مركزا اتخذته جماعة من المنافقين المرتبطين بالروم مكانا لتجميع خصوم الإسلام ولتكديس السلاح فيه، وقد بني هذا المسجد بسعي من أبي عامر الراهب الذي التحق بالروم، فأوكلوا إليه تجميع القوة المناوئة في انتظار جعلها قوة ضاربة تنقض على المدينة في الوقت المناسب، وقد بني المسجد قريبا من مسجد قباء، وحينما أنهى أصحابه العمل به، دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن يصلي لهم فيه ليترسم بذلك، لكن الله تعالى أنبا رسوله بحقيقة هذا المسجد، فأمر عليه السلام بنقضه. يقول الله تعالى: الذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المومنين، وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل، وليحلفن إن اردنا إلا الحسنى. وقد نجد دليلا آخر على تدخل الروم في التفاصيل الجزئية للأحداث الجارية في المدينةالمنورة، حينما نسترجع قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك، ثم التزموا الصدق ولم يعتذروا بالكذب، فأمر الله نبيه أن يقاطعهم المسلمون، فكان كعب بن مالك وهو أحد الثلاثة يصلي مع الناس ويخرج إلى الأسواق فلا يكلمه أحد، حتى سمع يوما نبطيا من الشام يناديه، ثم دفع إليه كتابا من ملك غسان الموالي للروم جاء فيه: إنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحَقْ بنا نواسك، فقال كعب: وهذا أيضا من البلاء، فأخذ الكتاب فسجره في النار. وهذه الواقعة تدل على متابعة الإمبراطورية الرومانية لتفاصيل الأحداث بالمدينة اعتمادا على ما يُسَرِّبُه إليها رجال مخابراتها والمرتبطون بها سياسيا. وبالإضافة إلى ما سبق فقد كانت للروم مناوشات عديدة مع المسلمين، وكانت تتوالى وتكثر بقدر ما يحقق الإسلام من انتصارات، وما يمثله من زحزحة للاستعمار عن جهات كثيرة من بقاع الأرض. وقد يكون مفهوما أن يرى غير المسلمين في فتوح الإسلام أنها كانت غزوا وفرضا للإسلام بالقوة، وهو أمر متوقع، لأنه متولد عن الإحساس بالخيبة من انسحاب السلطة السياسية الرومانية عن الشرق وعن شمال إفريقيا. لكن ما ليس مفهوما هو أن يتبنى من يعيش خلال الأمة الإسلامية، ويرتبط مصيره بمصيرها هذا المنطق المؤيد لاستمرار السلطة الرومانية على أرضه وبلاده، وينحاز لها رغم ما تمارسه من استعمار.