أما قبل.. " لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه " ، من هذا المنطلق وبمنطق الحوار والجدال بالتي هي أحسن ، سأحاول الرد على من فهم بأن عبارة "أسلم تسلم" التي تضمنتها رسالة محمد صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم تحمل بين ثناياها صيغة تهديدية وتحرض إن لم تكن إرهابا على الإرهاب ، وتشكل عائقا من عوائق التواصل مع غير المسلمين وتحول دون تحقق حوار الأديان لأنها ترتبط بسياق كان فيه الدين ينشر بالسيف وبالعنف. فحبا في تحقيق الحق ، وأملا في إرساء مركب الكلام بشاطئ الحقيقة التي يصبو إليها كل حر وعاقل ونبيل .أقول بعد الاستعانة بالعلي القدير ، إن من فهم بأن عبارة " أسلم تسلم " ، تعني التهديد وتحمل في باطنها عنفا وتؤكد على إرهاب معين ، قد وقع في خطإ جسيم لا يقع فيه إلا الغارقون في الجهل ، الراضون بالكسل ، لأنه أسقط سباق ولحاق " أسلم تسلم " ووقف عند حروفها فكان شأنه كشأن من وقف عند " ويل للمصلين " وما أكمل الآية ، وهذا ما لا يجوز في عالم وأعراف الباحثين عن الحقيقة. وذي حقيقة أسلم تسلم «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيين, و(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [آل عمران: 64] رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النبي إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، (2782). ». هذه هي الرسالة التي بعثها النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم مباشرة بعد عودته من الحديبية ، وتأمل بسيط في مفردات الرسالة وفي سياقها التاريخي يثبت لكل باحث لبيب بأنه لا يوجد فيها " تنصيص للعنف " ، وليس ثمة فيها ما يمنع من الاستشهاد بها في باب رحمة الإسلام وعدالته ، ومن قال أنها " ستغدو إرهابية، حتّى لدى المسلمين " ، وأنها " ستستعمل بطريقة سيئة في المناهج التعليمية، لأنها تتنافى والفكرة التي تقول إنّ الإسلام دين تسامح وحوار وسلم " فإنما هو يهرف بما لا يعرف ، ويلقي الكلام على عواهنه دون أن يمنح لنفسه فرصة الثريت والتدبر في معاني الكلمات ودلالاتها من كل الجهات بعيدا عن التسرع القاتل والمثير للفتن . إن عبارة " أسلم تسلم " لم يسبق أن ربطها الباحثون بالتهديد لا من قريب ولا من بعيد ، ولم يدعي مفسرو الشرق والغرب بأنها تدعو للعنف ، ومن شذ عن هذا الرأي بدعوى أن له تفسيرات أخرى يؤكد بها ما نفاه أعداء الإسلام قبل غيرهم عن نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم فإنما هو ناقم على الإسلام حاقد على نبيه ، يظهر حب البحث عن الحقيقة ويأبى قبولها متى وجدها . إن رسالة النبي إلى هرقل تنطوي على دليل قاطع على أنه عليه السلام كان يدرك، عندما بعث رسالته تلك، أن كثيرا من المنضوين تحت إمبراطورية هرقل هم من 'الموحدين' أتباع مذهب أريوس، ولذلك حمّله مسؤولية الإثم الذي يترتب عليه إذا هو لم يسلم، لأن عدم إسلامه سيحول دون إسلام رعيته يقول الدكتور محمد عابد الجابري في مقال معنون بهرقل و إثم الأريسيين وضغاطر والمقوقس . وما حفظ مكانة الطرف الآخر وعدم التقليل من شأنه والإشارة إليه في الرسالة بأنه " عظيم " ، إلا دليل بسيط على أن هذه الرسالة لا تحمل عنفا ، وما ذكر الأجر مرتين إلا دليل آخر على أنها لا تتضمن تهديدا بقدرا ما تحمل ترغيبا ما تفطن له هرقل ولو أنه تفطن في " أسلم تسلم " ،" وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة، لسَلِمَ - لو أسلم- من كل ما يخافه، " يقول الحافظ ابن حجر . هل انتشر الإسلام بالسيف ؟؟؟ ومع أن هرقل وغيره من الملوك ما اعتبروا رسائل النبي صلى الله عليه وسلم لهم تهديدا وإرهابا ، وما لمسوا فيها عنفا بل أثنوا عليه وعليها لما تضمنته من أدب رفيع وخلق عظيم ، ومع أن ثلة من فلاسفة الغرب ومفكريه ومثقفيه يفندون بالحجة والدليل والبرهان القاطع كل قول يروم النيل من سماحة الإسلام وسلميته بإلباسه كرها ثياب العنف وجلباب الإرهاب ، فإن ثلة من الباحثين الذين ترعرعوا في أرض الإسلام ، حادوا وللأسف عن سكة الصواب ، وأحيوا أطروحات قديمة واهية تزعم بأن الإسلام دين انتشر بالسيف والإكراه تحت راية الجهاد في سبيل الله طلبا للدرجات العليا في الجنة ، ومرد هذا الزعم الخاطئ جهل قاتل بأصول وأدبيات الجهاد في الإسلام ، وسوء دراية بتاريخ الدعوة الإسلامية . والقول الحق في هذا الباب هو أن الجهاد في الإسلام والفتح ب" السيف " لم يكن بغاية التوسع بقدر ما كان دفاعا عن النفس ضد كفار ومشركين حاربوا المسلمين عن قرب ( كما هو حال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته مع مشركي قريش ومع قبائل يهودية تربصت بهم الدوائر ) ، و مقاومة لأطماع استعمارية خارجية كانت تريد السيطرة على معظم القبائل العربية والاسلامية ( كما هو الحال مع الفتوحات الموجهة ضد الإمبراطوريتين البيزنطية والكسروية الفارسية) ، وفي هذا السياق يؤكد الدكتور محمد عابد الجابري في مقاله " الجهاد للعدو ...فمن هو ؟؟؟" أن ("حروب النبي" مع مشركي مكة، و"حروب الردة" زمن أبي بكر و"حروب الفتوحات" زمن عمر بن الخطاب وما تلاها، كانت في واقع الأمر عبارة عن مسلسل تاريخي يجد انطلاقته في نزول آية الإذن بالقتال: دفاعاً عن النفس ضد الذين ظلموا لينتهي إلى مقاومة نفوذ الاحتلال الأجنبي) ويضيف نفس المقال أن ما ( ورد في القرآن من آيات أخرى في شؤون الحرب والقتال فهي ليست في الدعوة إلى الجهاد/الحرب بل هي في تنظيم شؤون القتال عند قيام الحرب على الأسس التي ذكرنا: موضوعها وهدفها تشجيع المقاتلين وحضهم على العمل لكسب النصر... ثم إقرار نظام لتوزيع الغنائم ومعاملة الأسرى) ، وهوأمر اتفق عليه جمهور الفقهاء ، إذ أنه لا يجب الجهاد إلا في حالة الدفاع عن النفس، ولا يتعين وجوبه إلا لأسباب فصل فيها العلماء تفصيلا شاملا ، وأسسوا على ضوئها قواعد أثبتت للعالمين أنه " لا إكراه في الدين " ، وأن المسلمين " فتحوا البلاد بأخلاقهم وحسن معاملتهم قبل أن يفتحوها بسيوفهم وعدتهم وعددهم " . نعم رسالة النبي رسالة إرهابية وعليه فإن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم كانت رسالة إرهابية لمن يريدون استعباد الناس ويوهمون أنفسهم بأنهم آلهة في الأرض ، وستبقى رسالة إرهابية لمن يعضون على كراسيهم السلطوية بالنواجذ خوفا من المساواة التي دعا لها الإسلام ، وستظل كذلك في أعين من لا يريدون الإنصات لحقيقة التاريخ التي تحكي عن قصص لتسامح النبي صلى الله عليه وسلم مع أناس أُسروا وهم على شركهم ، فلم يجبرهم على الإسلام ، بل تركهم واختيارهم ، وما قول المشركين لمحمد صلى الله عليه وسلم يوم الفتح حين سألهم " يا معشر قريش، ما تظنون أني فاعل بكم؟" فقالوا "نظن خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم" إلا دليل على " إرهاب " دعوة محمد صلى الله عليه وسلم الذي رد على قولهم بسماحة "اذهبوا فأنتم الطلقاء". نعم رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم رسالة إرهابية لكل النُظُم الطاغية في الأرض والتي تصدُّ النَّاس عن الاستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين ، وهي أيضاً كذلك ، لمن زاغ عن فطرته و أخلد إلى الأرض واتبع هواه و تخبطه الشيطان بمس ووسوسة ، وهي كذلك لمن حمِّل علما فلم يحمله ، ووقف على حق فلم يبلغه ، وأدرك الصواب فلم ينطق به ، وارتضى لنفسه أن يكون كالحمار يحمل أسفارا . وشهد شهود ... ولأن بعض الباحثين والمثقفين لا يعترفون بالكلام الفصل إلا إذا كان غربيا ، ويضربون بعرض الجدران ما كان من القول الفاصل عربيا فإنني أسوق هاهنا شهادات عن محمد صلى الله عليه وسلم وعن مهمته والظروف التي بعث فيها لعل وعسى القوم عن غيهم يرجعون فلا يعمهون . يقول المؤرِّخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب) وهو يتحدَّث عن سرِّ انتشار الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي العصور التي تلته :" أثبت التاريخ أن الأديان لا تُفْرَض بالقوَّة، ولم ينتشر الإسلام بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت مؤخَّرًا كالترك والمغول، وبلغ القرآن من الانتشار في الهند -التي لم يكن العرب فيها غير عابري سبيل- ما زاد عدد المسلمين إلى خمسين مليونَ نفس فيها ، ولم يكن الإسلام أقلَّ انتشارًا في الصين التي لم يفتح العرب أيَّ جزء منها قطُّ " . ويقول المفكر البريطاني روم لاندو في كتابه " الإسلام والعرب " : ( كانت مهمة محمد صلى الله عليه وسلم هي القضاء على النظام القبلي القوي الذي كان مسؤولاً عن اندلاع نار الحرب، على نحو موصول تقريبًا، بين العرب، والاستعاضة عنه بولاء لله يسمو على جميع الروابط الأسرية والأحقاد الصغيرة. كان عليه أن يعطي الناس قانونًا كليًا يستطيع حتى العرب المتمردون قبوله والإذعان له، وكان عليه أن يفرض الانضباط على مجتمع عاش على العنف القبلي والثأر الدموي لضروب من المظالم بعضها واقعي وبعضها متوهم. كان عليه أن يحلّ الإنسانية محل الوحشية، والنظام محل الفوضى، والعدالة محلة القوة الخالصة") . ويقول الكاتب الإنجليزي المعروف توماس كارلايل في كتابه (الأبطال ): ( إني لأحب محمدًا صلى الله عليه وسلم لبراءة طبعه من الرأي والتصنّع. ولقد كان ابن القفار هذا رجلاً مستقل الرأي لا يعول إلا على نفسه ولا يدعي ما ليس فيه ولم يكن متكبرًا ولكنه لم يكن ذليلاً، فهو قائم في ثوبه المرقع كما أوجده الله وكما أراده، يخاطب بقوله الحرّ المبين قياصرة الروم وأكاسرة العجم يرشدهم إلى ما يجب عليهم لهذه الحياة وللحياة الآخرة. وكان يعرف لنفسه قدرها.. وكان رجلاً ماضي العزم لا يؤخر عمل اليوم إلى غد) . وبعد : لقد علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن التطرف تخلف ، وأن الانحراف في الفهم والعلم زيغ مشين وضلال مبين ، وأمرنا أن نبحث في قواميس البشرية عن أحسن العبارات وأرقاها وأجملها وأعذبها لمجادلة من يخالفنا الرأي ، حتى وإن كانوا من أشد " الخوارج " تعصبا وتعنتا ، وبين لنا أن الإرهاب بالقول أو الفعل ليس من سنته ، ودعانا لما يحيي النفوس والعقول ، وحرم علينا ترويع المسلمين وغيرهم ، ووضح لنا أن فهم أقواله وتفسير أفعاله أمر لا يتصدر له إلا من كان جهبذا نحريرا في العلم والفقه بمختلف ميادينهما وشعبهما ، فأدركنا بفطرتنا وبهداية الله لنا أنه نبي السلم والوسطية والاعتدال والرفق واللين والتسامح ، ومن قال فيه وفي رسالته غير ذلك فهو إما محرف ينتمي لجماعة الغالين، أو منتحل يدين بدين المبطلين، أو مستن بتأويل الجاهلين ، وهؤلاء الأصناف الثلاثة مهما قالوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن رسالته السمحاء التي ترهبهم فلن يكونوا إلا كسفيه ألقى في بحر شاسع حجرا صغيرا ، ... وهل يضر البحر أمسى زاخرا، أن رمى فيه سفيه بحجر ؟؟؟