ما تشهده الساحه المغربيه هذه الأيام من جدل كبير يثيره الحداثيون في موضوع الحريات الفردية يقتضي البحث في الأيديولوجيا التي تحرك هؤلاء، فلابد أن يكون لهم محرك فكري أو عقدي أو نفسي يوجه البوصلة ويحدد المواقف.. فتحرك هؤلاء مع جلد وصبر وإصرار على الوصول إلى أهدافهم لا شك أنه منبثق عن إديولوجيا يؤمنون بها؛ مع أنهم في الظاهر يستعرون من ذلك ويتهمون غيرهم أنهم يتحركون وفق إديولوجيات معينة، ويجعلون ذلك تهمة تقتضي محاكمة هذا الشخص فكريا بل وقضائيا أحيانا. إذا نظرنا إلى الايديولوجيا بأنها "ذلك النسق الكلي للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامة، والتي تفرز أنماطا معينه للسلوك الإنساني والتي تفسر الأسس الأخلاقيه للفعل الواقعي وتعمل على توجيهه، أو أنها النسق الفكري الذي يبرر السلوك الشخصي ويضفي المشروعية على نظام قائم، أو العمل على قيامه مع الدفاع عنه"؛ فإننا نجد الحداثين بأطيافهم ينطلقون من إيديولوجيا معينه سنرسم بعض معالمها من خلال هذا المقال. وهذا الأمر يقتضي الرجوع إلى رواد هذه الحركة، والقراءة في أفكارهم ومرتكزاتهم التي ينطلقون منها ويتابعهم عليها جمهور الحداثيين من الرعاع، ونعطي تصورا للمستمسكات الفلسفية والعقديه التي ينطلقون من خلالها. بالنسبه للحداثيين في الدول الإسلامية لا شك أن هناك رموزا يعتبرون كالآباء الروحيين للحداثين منهم أدونيس ونذير العظمه ويوسف الخال وخليل حاوي وأضرابهم فهؤلاء يعتبرون مرجعيات إيديولوجية للحداثه العربية وكتاباتهم رسمت الطريق للحداثيين العرب. وكتابات هؤلاء الرواد جلها كانت في مجلات وجرائد أو برامج على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، وهذا يبين استثمار وتوظيف الإعلام في الطرح الحداثي منذ بدايه انتشار هذا الفكر، فأدونيس مثلا أنشأ مجلة (مواقف) ووظفها توظيفا خبيثا في نشر الإديولوجيه الحداثيه، ففي وقت كانت الأمه تنزف مما يسمى بالنكسه كانت كتاباته كالخنجر المسموم الذي يجهز على البقيه الباقيه من نخوة الأمه وتمسكها بهويتها. فلو رجعنا إلى أول عدد من مجلته نجد فيها افتتاحية تنضح بالحقد الحداثي، حيث جعل تراث الأمه وهويتها غرضا لسهامه ففي أول مقال نشر في افتتاحية العدد الأول يقول أدونيس عن المنهج الذي رسمه لمجلته :(( هكذا تطمح (مواقف) إلى أن تكون استباقا. كل استباق إبداع.الابداع هجوم: تدمير ما نرفضه وإقامه ما نريده))، وهذا يظهر قناعه الرجل بضروره الهدم لهوية الأمة وموروثها، وهذا من أهم ما صار عليه الحداثيون إلى يومنا هذا، وقد ظهر هذا المعنى في كتاباته اللاحقه حيث وجه سهامه إلى مقدسات الأمه ورموزها وهويتها، ودعا قراء مجلته إلى فعل ذلك، فنجد من كلامه في هذه المجله مثلا قوله عن مقدسات الإسلام ورموزه:" انها مناخ للمجابهة إنها فعل المجابهة، تزول في هذا الفعل هالة القداسة. لن تكون هناك موضوعات مقدسة لا يجوز بحثها" وهذا النص يبين ان الحداثه تنظر إلى مقدسات المسلمين على أنها ساقطه القداسة فلا غرو ولا غضاضة في توجيه النقد بل والنقض إليها والهدم لمعالمها لتشييد البناء الحداثي، فكل قديم مرفوض في الايديولوجيا الحداثية. وقد ظهر هذا بشكل واضح فيما كان ينشر على صفحات هذه المجلة البئيسة، فقد انبرى الحداثيون لإعمال معاولهم في صرح الإسلام، ولم يكلوا من تسميته بالتراث أو الموروث تزهيدا فيه، بل صرحوا بوجوب نفض اليد منه، يقول أدونيس في العدد السادس: ما نطمح إليه ونعمل له كثوريين عرب هو تأسيس عصر عربي جديد . نعرف أن تأسيس عصر جديد يفترض بادئ ذي بدء الانفصال كليا عن الماضي، نعرف كذلك أن نقطة البداية في هذا الانفصال- التأسيس هي النقد: نقد الموروث ونقد ما هو سائد شائع (…) إن ماضينا عالم من الضياع في مختلف الأشكال الدينية والسياسية والثقافية والاقتصادية، إنه مملكة من الوهم والغيب تتطاول وتستمر، وهي مملكة لا تمنع الإنسان العربي من أن يجد نفسه وحسب، وإنما تمنعه كذلك من أن يصنعها). وهذا كلام خطير يجسد أول معالم الإديولوجيا الحداثية والذي ظهرت آثاره المدمرة على المجتمعات الإسلامية اليوم، فالقوم لا يؤمنون بشيء اسمه الدين أو الهوية بل يجعلون هذه الأمور وهما وأساطير ينبغي التخلص منها والتنكر لها لأنها أغلال و حواجز تحول دون نهضة الأمة و تطورها، فالذين يخرجون علينا كل يوم ليصفوا دواوين السنة بالأساطير، ويوجهون سهامهم إلى كنوز الأمة من جهود أئمتنا وعلمائنا في مختلف العلوم إنما يعملون بمقتضى هذا المعلم الأساس في الإديولوجيا الحداثية، فهذا المعلم يجلي حقيقة القوم التي لا يصرحون بها الا قليلا، وهي أنهم أعداء لهذا الدين محاربون له شأنهم شأن إخوانهم في الغرب، فكلامهم واحد و منهجهم واحد فمثلا مقارنة بسيطة مع مقولة لماركس: (نقد الدين شرط لكل نقد)، نجد أدونيس يقول في العدد السادس: (النقد الثوري للموروثات العربية شرط لكل عمل ثوري عربي)، علما بأن الموروثات العربية إنما هي كناية عن الدين الإسلامي وهي نوع من التورية التي سرعان ما تجاوزوها إلى التصريح. ومن المفارقات الغريبة المتصلة بهذا المعلم أن الحداثيين في بلداننا الإسلامية ينتقدون بشدة موروثنا الديني والثقافي الإسلامي ويريدون اطراحه، إلا أنهم يتكلفون البحث في تراث ما قبل الاسلام ويستشهدون بكلام فلاسفة اليونان والإغريق و غيرهم معتزين به بكل مساوئه الوثنية وأساطيره الانتروبولوجية، بل أدونيس نفسه استعار اسمه من أساطير ما قبل الميلاد وتنكر لاسمه العربي، والرجل كان ينادي جهارا بالتطبيع مع المثقفين الصهاينة، بل طبق ذلك عمليا و اجتمع ببعضهم مما كان سببا في طرده من اتحاد الكتاب العرب في دمشق، فهذا الحداثي و إخوانه من بعده يتنكرون لديننا و ينادون باتخاذه ظهريا غير أنه لا أحد منهم تعرض للأساس الذي قامت عليه دولة الصهاينة والادعاء الكاذب المبني على الإرث الديني في أرض فلسطين، والمستند إلى تراث و آثار مزعومة وتاريخ موغل في القدم. بل تجدهم يسارعون في إخوانهم الصهاينة ويحتفون بهم، وحداثيوا بلدنا علاقتهم بالكيان الصهيوني متينة ولا يجدون أدنى حرج في إظهارها بل والتبجح بها، فإديولوجيتهم تحركهم للحرب على الإسلام لا على غيره. لقد دأب الحداثيون في بلدنا على توجيه سهامهم لدين الإسلام على اعتبارهم له موروثا وتراثا ينبغي نقده، و قد بذلوا جهودا مضنية في سبيل التنفير منه و إسقاطه من قلوب بعض المغاربة و استثارة حقدهم عليه بتصويره موروثا فرض على أجدادهم بقوة السلاح؛ وفي مقابل ذلك يهتمون كثيرا بتراث المغرب قبل الإسلام وينبشون في موروث وثني ما فتئوا يظهرونه للناس جميلا ويعظمونه في أنفسهم و يزينونه بمكر ويبثون وشائج الحنين إليه في نفوس عرق من الأعراق المكونة للمجتمع المغربي، وكل هذا من الهدم للدين والهوية لإقامة صرح الحداثة البئيسة. ومن المعالم التي ترتبط بهذا الجدل الكبير الذي يثيره الحداثيون في الساحه المغربية مفهوم الحرية فهي عندهم كسر الحدود حتى ولو كان ذلك مغرقا في مخالفة الأعراف والأخلاق والدين، ويجعلون تقييد الشهوة والإرادة في الإنسان من الأغلال التي يفرضها الموروث الديني الذي ينتقدونه ولا يقبلونه معيارا في تمييز الصحيح من الخطأ. فهم يريدون حرية مطلقة تحقق متعه الذات كالبهائم. ومن المفارقات المضحكة أن يتبجح هؤلاء بالرقي ويرمون غيرهم ممن يجعل الأخلاق والأعراف والشريعة مقيدات أصيلة للحرية بالبهيميه، وهذا قلب للحقائق ومن المغالطات وتسميه للاشياء بغير أسمائها وهي صفة تميز الطرح الحداثي؛ وصح فيهم قول القائل (رمتني بدائها وانسلت)، والذي يهمنا هاهنا هو أنهم في إديولوجيتهم ينطلقون من أن الانسان هو الذي يعطي للأشياء تفسيراتها حسب ما يشتهي ويختار، وهذا من مفاهيم الوجودية ف(الانسان يفسر كل شيء كما يشاء) كما يقول رمز الوجودية سارتر، ومن هذا المنطلق يعطي الحداثيون مفهوما للحرية يخدم جانبهم الشهواني، بل ويفسرون على ضوئه الوجود الانساني فيجعلونه وجودا ذاتيا لا يقبل التحكم و التقييد من خالق أو مخلوق. فالانسان عندهم هو مركز الكون و تحليلاته وتفسيراته قطعيه لذلك فهم ينظرون إلى الدين على أنه شيء معرقل للحياه ويجعلون هذه القيود الاخلاقيه والقيميه تناقض الحرية الإنسانية ويزعمون أن كسرها يحل مشاكل العالم، ولذلك فهم يصفون المجتمعات الإسلاميه بالمنافقه لا لشيء إلا لأنها تقر بمشروعيه تلك القيود وضرورتها ولو وجد من يخالفها فردا كان أو جماعة؛ والأخلاق يعطونها تفسيرا بنوه على مفهوم الحرية عندهم، يقول سارتر (يجب أن نجعل الاختيار للاخلاق مثل صياغة تحفة فنية)، فكل يصوغ هذه الأخلاق كما يحب ويشتهي، فلا تقل للزاني أو اللوطي قد خالفت الأخلاق بل هو صاغ خلقه كما يشتهي وله الحرية في ذلك. فجدير بنا أن نؤكد على أن هؤلاء ينطلقون من إديولوجية مناقضة تماما لمفاهيم الإسلام وحقائقه فالحرية في الاسلام هي الفعل الإرادي المطابق للفطرة التي خلق الله الناس عليها والغاية التي من أجلها أوجد الله الإنسان؛ فكل ما دل خلق الله على القصد إلى ضده فهو ممنوع و لا حرية للإنسان في مقارفته ولو كانت فيه شهوته ورغبته، وتكوين الانسان وخلقته تدل على أن له غايه من هذا الوجود وقد بينها الله عز وجل عن طريق ارسال رسله وإنزال كتبه، كما أن العقل دل عليها وهذا كله لا تبث إليه الإديولوجيا الحداثية بصلة.. والشريعة جاءت بقانون أخلاقي جعلته حاكما على القانون الطبيعي بخلاف الإديولوجيا الحداثية الانسية فلا تعترف الا بالقانون الطبيعي وما خالفه تجعله نفاقا يغطي به الناس حقيقتهم وواقعهم. فحينما يتجرد الإنسان من كل القيود حتى الإلهية منها فلا شك أن حريته المطلقة ستجعله يعبد شهوته و يسوغ لنفسه مقارفة الفواحش بل والجرائم، فهو لا يعترف بالقانون الأخلاقي المبني على مراعاة المصالح و المفاسد العامة والخاصة، يقول دستوفسكي (اذا لم يكن الله موجودا فكل شي يجوز، أي أن الانسان عندئذ يصبح مجرما، يرتكب ما يشاء من الجرائم كما تمليها عليه شهواته). ومن السمات الظاهرة في الطرح الحداثي احتقار الآخر وازدراؤه وهذا من آثار الوجودية، "فكل ما في هذا الوجود وجوده تافه إلا بقدر ما يسعى إلى تحقيق وجود هذا الإنسان". وهذا نتيجة إرث أنطولوجي وفلسفي استورده حداثيوا بلداننا من الغرب الذي ينظر إلى الذات والآخر بمعياري الهيمنة والاستيلاب، فالآخر ليس إلا منغصا إذا لم يخنع للهيمنة و يستسلم للإستيلاب و قد لخص ذلك الوجودي سارتر بقوله (الجحيم هو الآخرون). فالحداثة تنطلق من الأنا الممجد لذاته ضد الآخر، بل يسعى الحداثي إلى إشباع احتياجاته ولو اقتضى ذلك الهيمنة على الآخر وسلبه ذاتيته. والناظر بعمق إلى مواقف الحداثيين في بلداننا يرى بوضوح كيف أن الآخر حتى من يزعمون الدفاع عنه وتبني قضاياه كالمرأة والطفل ليس إلا أشياء ينبغي رصها بأناقة في أيقونة الأنا الحداثية حتى تشبع حاجتها الذاتية وتسبل عليها كينونة حريتها البهيمية. أما الآخر الممانع الذي يفرض ذاته وفق إديولوجية مناقضة فليس له إلا فلسفة القوة والتسلط والعنف بألوانه، وفي سبيل ذلك تكون الأخلاق مجرد سخافات تافهة. وهذا يفسر حملات الحداثيين المسعورة على المتدينين وشيطنتهم ومحاولة إسقاطهم وإزاحتهم من المشهد تماما فهم في نظرهم ليسوا إلا ذاك الآخر العنيد الذي يفسد مجد الأنا الحداثية فينبغي تدميره بأي سبيل. والحداثيون في بلداننا الاسلامية غارقون في تيه الأنا ويتمتعون بصلافه وجه تهون عليهم مواجهة مكونات المجتمع الذي يتحفظ على طرحهم مع أنهم أقلية جاءت بكل أسباب العار في معايير الأغلبية من كسر للقيود الأخلاقيه والعقليه وتنكر للأعراف والدين والتقاليد بل والقوانين واهتمام بتحليل الجوانب القذره في الإنسان ومع هذا كله يعتبرون أنفسهم فوق هذه المعايير كلها ويحتقرون غيرهم ممن يؤمنون بالقيود الأخلاقيه والتقاليد بل والقوانين أحيانا، ويتهمونهم بالنفاق و الانفصام.. ولا عجب فمن يعش مثل انتكاستهم العقدية والخلقية لاشك أنه يرى الإقرار بالفضيلة والتمسك بالأخلاق جرما كبيرا، وقد أخبرنا الله عن سلفهم الموغل في القدم كيف جسدوا هذا المعلم الإديولوجي الحداثي تماما كما يفعل حداثيوا بلداننا اليوم فبعد سعيهم لأدلجة الآخر وبعد تمسكه بذاتيته الطاهرة لم يجدوا بدا من السعي إلى شيطنته ولو بالرمي بالطهرانية لإزاحته وإقصائه من المشهد قال الله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}. فهذا تماما ما يفعله الحداثيون اليوم مع المصلحين ودعاة الفضيلة. وأختم مقالي هذا بأن الطرح الحداثي كان ولا زال بابا إلى الانسلاخ الكلي من عرى الإسلام والضياع في دروب المادية والوجودية والإلحاد بألوانه، وقد استطاعوا أدلجة عدد من شباب هذا البلد خلال السنوات الماضية عبر تنظيماتهم وجمعياتهم وترسانتهم الإعلامية، وهم اليوم يطمعون في أدلجة المجتمع بأكمله ويبذلون جهودا مضنية في سبيل ذلك عبر الضغط المستمر لسن قوانين تخدمهم وتقضي على آخر القيود التي تحول دون إحكام قبضتهم على مجتمع عملت فيه معاولهم طويلا و على جميع الأصعدة..