هوية بريس – إبراهيم الطالب نعيش في المغرب حِراكات كثيرة، ولعل أهم حراك هو الحراك التشريعي، يعمل بوتيرة بطيئة لكن يعتمل كالبركان، ولئن كان البركان يصهر في جوفه الصخور والأتربة والمعادن وكل الأشياء ليلقيها حمما بعد ذلك في وجه البشر والحيوانات، فيحرق الأخضر واليابس، فإن الحراك التشريعي اليوم يعتمل في ردهات البرلمان المغربي، وإن لم يتدخل العقلاء وتنتصر الحكمة سيحرق ما يخرج من فوهته كل مظاهر الحياة في المغرب؛ وأقصد على وجه التخصيص مشروع القانون الجنائي الذي يُفترض في واضعي مشروعه ومن سيصوت عليه أن يعبروا عن الأمة، ويداووا من خلاله ما اعوج من سلوك جانحيها والمخطئين من أبنائها. لكن للأسف ما نراه من مقدمات ومن مقترحات ومن رسائل تقدمت بها مؤسسات دستورية وأحزاب سياسية، ينم عن أن نخبنا لا تزال مستلبة، مقلدة تابعة دون وعي ولا إدراك. فوضع قانون جنائي للأمة هو أمر عظيم لا أرى في الوجود أعظم منه كعمل بشري، فهو يرسم للأمة المغربية الحدود الزاجرة للأعمال التي يراها الضمير الجمعي حراما يجب أن يمنع، وبمفهوم المخالفة يبيح ما عاداها من الأقوال والأفعال والمعاملات، وبهذا هو يرسم مفهوم عفتها ومعاني الصلاح والفساد، ويزجر الفاسدين، ويرسم كذلك بتجريمه وزجره الفواصل بين الجريمة والفضيلة، وبالتالي سيكون له الأثر البالغ على الفرد والأسرة والمجتمع. وما دمنا أمة مسلمة ندين بالإسلام عقيدة وشريعة وسلوكا، ونؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا القانون كما سيؤثر على دنيا المغاربة سيكون له حتما تأثير بالغ على آخرتهم. فالقانون الجنائي المغربي يشتغل في نفس الدائرة التي يشتغل فيها الفقه المالكي والشريعة الإسلامية عموما، لذا من شأن التدخل فيه بشكل تسلطي وسيادي أن يجعل الكثير من المواطنين في دائرة الاتهام والإجرام، أو يجعلهم مجرمين في نظر الشرع والدين ومذهب البلاد، في حين هم بالنسبة للقانون الجنائي غير مخالفين ولا متهمين. فإذا كان هذا القانون يكتسي هذه الخطورة فيحق لنا أن نتساءل عن المرجعية العليا للسياسة الجنائية المغربية؛ وهل نمتلك بالفعل سياسة جنائية؟؟ وإذا ما كانت هناك سياسة جنائية، فهل هناك مرجعية تأصيلية قيمية تضبطها؟؟ وإذا ما وجدت، فهل هي مرجعية تنسجم مع تاريخ المغرب وهويته ودينه؟ أم هناك خليط من المرجعيات؟؟ وإذا كان هناك خليط من المرجعيات فهل هذه المرجعيات متكاملة أم متناقضة؟؟ المتتبع للنقاشات التي صاحبت مشروع القانون الجنائي، والمتفحص لرسالة المجلس الوطني لحقوق الإنسان بصفته مؤسسة استشارية، والمتمعن في خرجات بعض الأحزاب، يوقن بما لا يدع مجالا للشك أن بلادنا تعاني من تناقض صارخ فاضح على مستوى المرجعية، هذا التناقض، تحاول الدولة تصريفه بشكل ترى أنه يوفر لها التوازن، من خلال التحكيم الملكي، عندما يحتدم الصراع بين الأحزاب، أو بالدفع بأن الشأن الديني هو من اختصاص إمارة المؤمنين، حتى تحول دون حصول احتراب أو احتقان بين المغاربة؛ هذا بالنسبة للسلوك الرسمي للدولة اتجاه حسم تداعيات التناقض الحاصل على مستوى المرجعية. أما على مستوى الفاعلين الحقوقيين والحزبيين والجمعويين؛ فهناك تسلط وإرهاب فكري تمارسه التوجهات والأحزاب والجمعيات العلمانية على كل من يدعو إلى تمكين فعلي للمرجعية الإسلامية في الشأن العام، وذلك من خلال ما تحت أيدي فاعليها من مؤسسات رسمية حزبية وجمعوية وما تملكه من نفوذ وتمويلات وميزانيات. فلا أدري لماذا يخشى العلمانيون من فتح نقاش حقيقي حول ازدواجية المرجعية في القوانين المغربية؟؟ ولماذا يمارسون الإرهاب على كل من تسول نفسه الحديث عن المرجعية الإسلامية في التشريعات المغربية؟؟ إننا في الحقيقة نحتاج إلى نخبة فكرية وعلمية وسياسة شجاعة، تضع هذا الملف الذي يعتبر من أكبر الطابوهات العلمانية، التي لا يتردد العلمانيون في تزوير التاريخ والحقائق العلمية، واختلاق الوقائع الكاذبة في سبيل أن تبقى "طابوهات"، ويستمرئون ممارسة الإقصاء والتهميش الذي يصل إلى مستوى الإرهاب الفكري والسلطوي، بل رأيناهم في أكثر من مناسبة يتدخلون لدى وزير الأوقاف الذي لا يتوانى في أن يرفع سيف العزل في وجه كل عالم يطالب بالرجوع إلى شريعة الإسلام واستئناف العمل بها، كمصدر للتشريع والحكم، ويجرؤ على انتقاد التغول العلماني وعبثه بالدين وشريعته. إن التشريع هو حق لله وضع أصوله الكبرى في القرآن الكريم وبيَّنها نبيه، فلم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكمل الله الدين وبيّن المحجة، وأتم بذلك نعمته على البشرية، حتى لا يقول الخلق يوم الدين أنهم لم يبلغهم مرادُ الله وأمْرُه بالامتثال لشريعته. فقال الله تعالى: (وأن احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ) المائدة:49. وعلى هذا الأساس تأسست الدول الإسلامية المتعاقبة على حكم المسلمين، والاستثناء المغربي الذي جعل بلادنا بعيدة عن حكم الأمويين والعباسيين والعثمانيين، لم يكن ليجعلها بعيدة عن الإسلام بشريعته وعقيدته ومنظومة قيمه. ففي بلادنا المغرب الأبي الشامخ، وخلال 14 قرنا، وهو تاريخها الذي عرفت فيه معنى الدولة مفهوما وممارسة، كان يُحكَم طيلتها، بالشريعة الإسلامية، فكان قانونه المدني والجنائي مستمدا من الفقه المالكي؛ الذي كان يقضي به القضاة ويستجيب لحكمه الخاص والعام، ولا يخرج عنه لا السلطان ونوابه ولا الرعية ومؤسساتها الاجتماعية. استمر الحال على هذا طيلة تاريخ المغرب وعلى اختلاف الأسر والدول التي تعاقبت على حكمه، بل حتى في الأزمنة التي كانت تضعف فيها الدولة فتُقصِّر في تعيين القضاة في القبائل والحواضر أو تعجز عن ذلك، كانت القبائل تنصب قضاتها من العلماء من خريجي الجامعات المغربية الكبرى، مثل القرويين أو من تلاميذهم النجباء المعروفين بالعلم والصلاح والاستقامة، فيحكمون بين الناس بالفقه المالكي في المعاملات ويمارسون الفتوى. فلما جاء الاحتلال الفرنسي العَلماني فتت كل البنيات القضائية والاجتماعية والسياسية، وعطل كل المؤسسات القضائية، فتعطل الحكم بشريعة الإسلام عبر سيرورة يعرفها الباحثون، والتي استبدلتها فرنسا بقوانينها التي لا تزال غالبيتها حاكمة في الواقع اليوم، ووضعت وفقها مؤسسات الدولة الحديثة، وهذه الحقائق موجودة مثبتة في الوثائق والمخطوطات ومنها الكثير المطبوع المعروض في المكتبات والخزانات. وبعد "الاستقلال" حالت ظروف معلومة دون استئناف العمل بالشريعة الإسلامية، ومن أهمها ارتهانات الدولة المغربية اقتصاديا وثقافيا للدولة المحتلة لنا بالأمس، رغم مطالبات العلماء التي ضمنوها توصياتهم، ومقالاتهم وكتبهم. إن قضية استئناف العمل بالشريعة الإسلامية ليس مطلبا للحركات الإسلامية فقط، بل هو واجب شرعي، طالب به العلماء عبر التاريخ المغربي الحديث، وفِي ظل ما نعرفه من تفكك اجتماعي وارتفاع لمعدلات الجريمة واتساع للظواهر الاجتماعية المرتبطة بالجنس صار ضرورة ملحة وجبت تلبيتها. فلئن كنّا جميعا نعلم كيف تم إلغاء العمل بالشريعة الإسلامية، وكيف تم تحييدها عن المجال العام، فهذا يجعلنا أمام واجب وطني واجتماعي وشرعي، نبدأه بالدعوة إلى فتح النقاش بين العقلاء من الأحزاب والمفكرين والنخبة العالمة، حتى نتجاوز العقبات الوطنية والدولية التي تحول دون الحسم في قضية المرجعية العليا التي تستند المؤسسات الرسمية إليها في تشريع القوانين وتقديم مشاريعها ومقترحاتها. وبالرجوع إلى الدستور نجده يتحدث أن دين الدولة الإسلام، ثم نتساءل هل الدولة هنا تعني شيئا؟؟ هل تمثلها بنايات الوزارات أم تمثلها سياساتها؟؟ وهل الدين هنا يعني ما يدين له الإنسان أي يخضع له؛ أم هو مجرد تدين طقوسي احتفالي؟؟ وهل الإسلام هنا يعني الإسلام كما عرفه المغرب في تاريخه الطويل؟؟ أم هو الإسلام الشمولي الذي نظم كل مناحي الحياة العامة والخاصة، والذي يعاني اليوم من تسلط المرجعية العلمانية ومزاحمتها له في كل تطبيقاته وتجلياته؟؟ وهل يبقى لهذا النص "دين الدولة الإسلام" معنى إذا ما كانت سياسات وزارات الدولة ومؤسساتها تتقصد الحد من حضور الإسلام في السياسات العامة؟؟ وكيف يمكن أن نقبل بهذا التعامل الرسمي السيئ لمؤسسات الدولة مع الإسلام، رغم أن الإسلام يعتبر السند الشرعي والتاريخي الذي يعطي المسوغ للدولة في المخيال والواقع المغربيين؟؟ إن ممثلي الأمة المغربية في البرلمان اليوم، في محك شديد الخطورة، تُمارس عليهم الضغوط ليستعملوا مباضع التشريح في دماغ الأمة، حتى يتم استنبات تشريعات تقتل العفة والأخلاق في المجتمع المغربي، بعد أن قتل الاحتلال مبدأ التحاكم إلى الفقه المالكي، وألغى الحدود ونظام الحسبة وأضعف التعليم الإسلامي، وجعله مفصولا عن التعليم الحديث، حتى نشأ في المغاربة من يقول: الإسلام لا علاقة له بالسياسة، والإسلام لا علاقة له بالفن والسينما والاقتصاد، والإسلام لا علاقة له بالحرية الفردية، وكأن الإسلام قطعة شعرية نظمها شاعر في صحراء العرب وليس تاريخا لأمة قادة العالم قرونا مديدة. هذا ما يصوره العلمانيون للمسلمين في دراساتهم المستصنمة للنموذج الحضاري العلماني الغربي. هذا النموذج الذي أضحى بعد 18 سنة من الحرب الغربية على "الإرهاب" متسلطا على العقل الجمعي للنخبة في بلدان المسلمين، تسلط يستمد قوته ليس من الإقناع ولكن من الترهيب والتزوير والتلفيق. في جو مثل هذا يستأسد العلمانيون ليضغطوا على المؤسسات حتى تستجيب لمشاريع العلمنة، بدعوى التطور الاجتماعي، الذي يعتبر في ميزان الشريعة والفقه المالكي انحرافات وموبقات تستوجب المزيد من الزجر والعقاب لا الحرية والتحرير. فتوسيع دائرة الإجهاض، ورفع التجريم على الجنس الرضائي حتى يشمل استباحة الزنا واللواط والسحاق، هو إجرام في حق الأمة المغربية المسلمة، هو خيانة كبرى تنضاف لخيانات الذين يمانعون في الرجوع بالمجتمع المغربي إلى هويته ودينه. صحيح أن حجم التحديات المرتبطة بالموضوع كبير جدا، ونعترف بأن الأمر له ارتباطات خارجية مع الأممالمتحدة في منظمتها الدولية التي تتدخل من خلالها في القرارات السيادية، وأن إعلان الرجوع إلى الشريعة الإسلامية يخلق مشاكل عديدة مع كل الدول الغربية التي لها مصالح استراتيجية في بلداننا ستتضرر باستئناف العمل بالشريعة الإسلامية. ونقدر كذلك أن التناقض بين المرجعيات في المغرب هو فرع عن التناقض بين الإسلام والعلمانية في الكون، وأن العلمانية تتخفى وراء الديمقراطية لتفرض قيمها التي تخلع عليها صفة الكونية والإنسانية، لتمنعها من النقد وإعادة النظر والمراجعة. ونعلم أيضا أن هذا الموضوع يشكل حساسية للدولة لارتباطه بالديون والمنح واشتراط الصناديق الممولة والمانحة على الدولة تبني الديمقراطية ومخرجات حقوق الإنسان في بعده الغربي اللاديني، وتفرض نموذجا أحاديا للديمقراطية رغم تعدد نماذجها، لأنه يستبطن كل المفاهيم العلمانية، في الوقت الذي يعلن فيه القيم "الإنسانية والكونية" حتى لا يلقى معارضات من طرف الشعوب الإسلامية. هذا النموذج العلماني الديمقراطية، يجعل بالضرورة مخرجات السياسة تنعكس في واقعنا تشريعات وقوانين علمانية تحكم أموالنا وسلوكياتنا وتمس قيمنا الإسلامية وشريعتنا في بعدها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الأمر الذي يهدد حياتنا وآخرتنا. لكن كل هذه التحديات لا تعفي الدولة ومسؤوليها ونواب الأمة من وضع استراتيجيات وسياسات ترجع للمغاربة مقومات هويتهم، وتهيئ البيئة والشعب المغربي ليكون في مستوى التشريعات الإسلامية التي يسوق لها العلمانيون تشغيبا على أنها ستعيدنا للخيام والإبل، وستكرس تخلفنا وفقرنا، وذلك من محض افتراءاتهم الناتجة عن كرههم للدين وللشريعة، ولا علاقة له بالدين والإسلام، الذي فضْلا عن كونه يوفر الثروة ويبني المجتمع يوفر رأسمال لاماديا يترجم إلى أرقام فلكية اقتصادية بمجرد تفعيل منظومة قيمه. إننا عندما نكتب في هذا الموضوع، نقدر حجم المخاطر والتحديات، لكن في نفس الوقت نراه واجبا علينا وعلى كل من يروم الإصلاح ويبحث عن التقدم والتنمية في ظل مقومات هويَّةٍ تسود وتحكم لا هوية فلكلورية جوفاء، فلا تنمية على وجه الحقيقة دون تحقيق للأمن والسعادة، إذ ما تعيشه التنمية في بلدان الرأسمالية الكبرى في العالم، عاجز عن تحقيق الأمن والسعادة للأفراد والجماعات. وهذا ليس تسطيحا ولا مجازفة، لكن ما يجعل مثل هذا الكلام يواجه بالنقد هو عجز النخب المفكّرة في بلادنا عن التحرر من سلطة الثقافة الغالبة، وخوفها من نقد تطبيقات الديمقراطية في بلدان أوربا وأمريكا، والاكتفاء بإبراز جانب التداول السلمي للسلطة هناك، وتطبيق القوانين فقط. فالإحصائيات المرتبطة بالجانب القيمي والأخلاقي في الغرب مخيفة، وتحذيرات العقلاء تنصب كلها في نقد النموذج العلماني وقطيعته مع الأخلاق والقيم، الأمر الذي جعل إفرازاتها السلبية تهدد الحياة بالنسبة للإنسان الغربي، ويدل على ذلك الارتفاع المهول في جرائم الانتحار والقتل بين الأزواج واستغلال المرأة في الجنس والدعارة وجرائم سرقة الأعضاء البشرية وتجارة المخدرات الصلبة المدمرة، وانتشار الأمراض الفتاكة نتيجة التسيب في ممارسات الحرية وتحرير الشهوة من قيود العقل والدين، والعرف والقيم. إن العقل الجمعي المغربي مدعو اليوم إلى التحرر من عقدة الارتباط بالمرجعية الدينية التي ركبت نفسيته خلال القرن العشرين، والتي ربطت العلم بالبعد المادي والابتعاد عن كل ما هو ديني. عقدة الدين في الفكر المغربي انضافت إليها عقدة الإسلاموفوبيا التي استولت على سلوك كثير من النخب والتي تجعلهم في عداء تام ودائم لكل ما يمت للإسلام بصلة، فيجعلون كل مطلب مرتبط باستئناف الحياة وفق شريعة الإسلام وتصوره للكون والإنسان والحياة داخلا في الإسلاموية والمتاجرة بالدين. هذا التسطيح الذي يحكم الصراع الإيديولوجي والغلو في ممارسة الإرهاب الفكري، يعمق من أخطار معضلة نعيشها في المغرب والتي تقف وراء فشل محاولات التنمية؛ هذه المعضلة هي "إرجاء الحسم في المرجعية الأسمى للتشريعات الوطنية". وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.