هوية بريس – ذ. إبراهيم الطالب ثلاثة أرواح مغربية تفارقنا عبر بوابة الانتحار في يوم واحد وفي مدينة واحدة تنضاف إلى مئات الأرواح اليائسة القانطة، التي تقرر الانتقال من عالم الظلم ولو بظلم نفسها لنفسها، ظنا منها أن ما ستلقاه بعد الموت لن يكون أتعس مما تعانيه يوميا في مكابدة ضغوط معيشتها اليومية، منهم الأستاذ والموظف وإمام المسجد والمراهقة والكهل والشيخ. أجساد رضع تنهشها الكلاب في مدن المملكة الحالم شعبُها دوما بالكرامة، وأخرى مرمية بين أكوام الزبالات والقاذورات، بعد نشوة عابرة أو صفقة بيعٍ للَذَّة محرمة، من أجل لقمة قذرة، لسد جوعة أو اقتناء دواء لأم مريضة أو أب مشلول. مئات حالات الإجهاض السري والعلني تقتل مئات البشر يوميا في بلد مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وآلاف الأرواح التي أفلت من مباضع تجار الإجهاض المجرمين، تستقر في بطون أمهات بلا أزواج، لِيَلِدْنَها بشرًا مبشرين بالشقاء، أطفالا يخرجون إلى واقع البؤس، ليأخذوا دورهم ضمن صفوف ضحايا الذل والفقر والتهميش والرذيلة. الفقر والجهل والفساد عنوان مدرسة كبرى تُخرِّج كل سنة أفواجا من الشباب الجانح في المملكة "السعيدة"، ينشرون في المجتمع الخوف والريبة من كل شيء، حتى أعمدة الكهرباء يتخيلها الماشي ليلا في شوارع البلاد أجسادا لقطاع الطرق، يخاف حتى من حاويات النفايات أن يكون خلفها شباب مُقَرْقب طامع في سلب فقير بائس مثله، شباب جناة وضحايا في الوقت نفسه، فهم في النهاية أبناؤنا نتاج سياسات الفساد والإفساد طويلة الأمد، نتاج مجتمع ودولة يعيشان التيه الجماعي بكل ما تحمله الكلمة من معنى. هذه ليست مبالغة شطّ بها القلم، بل مَن يتابع الحالة الاجتماعية للشعب المغربي يعلم أن هذه الصورة البئيسة لا تفي بالحقيقة الكاملة للوضعية التي يعيشها المغرب، فلم نتحدث عن زنا المحارم ولا عن اللواط ولا عن الرشوة وظلم المحاكم، ولا عن القهر السلطوي ولا عن إفلاس التعليم، ولا عن تفشي الخيانة الزوجية والقتل. وما دامت كل الموبقات التي ذكرناها تهدد النفس والعقل والمال والعرض والدين فإن الوضع مؤذن بغرق السفينة وهلاك الجميع. وهل يبقى مسوغ للدولة إذا عجزت عن حفظ الكليات الخمس المذكورة؟ أليس حفظها هو ما يعطي للدولة سندها القانوني الذي يوجب على أفراد الشعب طاعتها والانصياع لقوانينها وتدابيرها؟ وهل يسعنا السكوت مع هذه المعدلات المرتفعة لكل تلك الموبقات، دون أن نسائل الدولة عن سياستها الأخلاقية العامة، وهل لها فعلا سياسة أخلاقية؟ أم أنها تنتهج سياسة ليبرالية علمانية ترى في هذه الموبقات آثارا طبيعية لتطبيقات الحرية بمفهومها الليبرالي الموغل في البهيمية؟ إن وضعية كالتي يعيشها المجتمع المغربي المسلم تستدعي أن تعلن الدولة حالة طوارئ قصوى، تستنفر كل وزاراتها من أجل وضع استراتيجية مندمجة تستهدف الرفع من الجانب القيمي الأخلاقي للشعب المغربي، علما أننا بدأنا نسمع الحديث عن الرأسمال اللامادي بين الفينة والأخرى، وذلك منذ أعوام عديدة. ورغم أننا لا يمكننا أن نتحدث عن سياسة أخلاقية مندمجة للدولة، إلا أننا يمكن أن نأخذ الدرس القيِّم الذي ألقاه وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية ضمن سلسلة الدروس الحسنية لهذا العام، مدخلا لمناقشة الموضوع، الذي اتخذ له عنوان: "استثمار قيم الدين في نموذج التنمية" والذي أعلى فيه من شأن القيم والأخلاق الإسلامية المضمنة في القرآن والسنة. ورغم أن عنوان الدرس كان عاما بحيث شمل القيم الدينية بعمومها وشموليتها لكل مناحي الحياة، وعلاقتها بنموذج التنمية الشاملة، إلا أن الوزير أبى إلا أن يوجه الكلام في منحى جعل القيم الإسلامية خادمة للنموذج التنموي، وليست موجهة له ومؤطرة لميادينه المختلفة المتساوقة، ورغم هذا التوجيه المخل بشمولية الشريعة، إلا أنه يمكن أن نعتبر كلام الوزير التوفيق منطلقا لنقاش عمومي يأخذ بالدرس والبحث موضوع الخسائر الفادحة التي يتكبدها المجتمع المغربي، على مختلف المستويات والميادين، حين لا تستجيب سياساته العامة لمقتضيات منظومة القيم الإسلامية، التي لا يمكن بتاتا فصلها عن التشريع الإسلامي، إذ القيم في الإسلام لا تنفصل عن العقيدة والتشريع. ولأن وزيرنا يعرف تماما أن هذا الفصل غير متوافق مع طبيعة الإسلام، ولأنه كذلك يعرف أن الفصل ذاته هو أساس العَلمانية التي زحفت على التشريع في المغرب منذ دخول الاحتلال العلماني الفرنسي، فإنه آثر مرة أخرى أن يضبط منظومة القيم الإسلامية ليس بالصحة والثبوت عن الشارع الحكيم، بل "بالإرادة الحرة المفضية إلى توافق الجماعة" حسب قوله. وهو بهذا يقفز في درسه الحسني على حاكمية "القاعدة الإيمانية" التي تكسب منظومة القيم خاصية الإلزام والإطلاق والثبات والاستمرار، فنراه بكل جرأة وأمام الملك يُلزم الدولة بتحمل مسؤوليتها في توجيه البناء والإصلاح من خلال اعتماد قيم الدين في وضع النموذج التنموي، لكنه سرعان ما يستحضر الواقع المغربي الذي تتغول فيه الهيمنة العَلمانية الداخلية والخارجية، فينصح بمصادرة المكانة الرئيسية للقيم في النموذج التنموي الذي يقترحه، حيث جعلها مقيدة "بالإرادة الحرة المفضية إلى توافق الجماعة". ونسائل الوزير: هل الجماعة لها مرجعية فكرية وعقدية واحدة منسجمة حتى نضمن أن الخلاف حول القيم سيكون خلاف تنوع داخل المرجعية الإسلامية، وليس خلاف تضاد يكون معه من شبه المستحيل أن يستفيد المجتمع من نموذج تنموي مبني على منظومة قيم إسلامية حقيقية غير منفصلة عن قواعدها الإيمانية؟ إن وزير الأوقاف يعلم قبل غيره أن كثيرا من التدابير والقرارات والقوانين التي تتخذها الدولة أو ورثتها عن دولة الاحتلال تخالف منظومة القيم والتشريعات الإسلامية مخالفة صريحة، ومنها الربا والقمار والخمور، وهي تجارات أصبحت مصادر تمويل للخزينة العامة وتنظم قطاعاتها الدولة، والجميع يعلم يقينا أن استثمار القيم الإسلامية في بناء نموذج التنمية يقتضي تصفية تلك القطاعات لأنها مسؤولة عن كثير من الجرائم والموبقات والخسائر المادية واللامادية. فعندما يقيد الوزير فاعلية منظومة القيم في النموذج التنموي "بالإرادة الحرة المفضية لتوافق الجماعة"، ينزع عنها صفة الثبات، وهذا غاية ما تطمح إليه العلمانية، فالقيم الإسلامية مثلا، تحرم الزنا من منطلق قيمة العفة بمفهومها الإسلامي، حفاظا على الأسرة والنسب باعتبارهما أصل المجتمع المسلم وحاضنته التربوية الأولى، وتتعلق بهما أحكام شرعية عديدة كأحكام الولاية والحضانة والإرثوغيرها، في حين نجد العَلمانية تجعل موبقة الزنا حرية فردية واجبة الصون والحماية، من منطلق مبدأ الحرية الذي فصَله الغرب وفلاسفته -ومنهم الذين ذكرهم الوزير في درسه-، عن قيود الميتافيزيقا والدين والأخلاق، وجعلوا للحرية قيدا واحدا، وهو ما شرَّعه الإنسان من قوانين لنفسه، معتبرين أن الدين والأخلاق منتج بشري لا ثبات فيه ولا إلزام، وبهذا يقبل التجاوز أو النسخ، وإذا كان كذلك فكيف يكون ملزما للجماعة والدولة؟ إن جل الجرائم الكبرى التي ذكرناها في الاستهلال، والتي تنخر جسم المجتمع المغربي وتهدد سلمه الاجتماعي، وتجعله يعيش حالة اللاأمن في مدنه وحواضره ترجع بالأساس إلى غياب سياسة أخلاقية حكومية، وغياب هذه السياسة سببه الأساسي هو هذا التناقض والالتباس في المرجعية الدينية للدولة، فالدستور يحدثنا أن "دين الدولة الإسلام"، لكن على أرض الواقع جل -إن لم نقل كل-القوانين التي تشرعها الدولة تبنى على أساس مرجعية عَلمانية صرفة، وتتحكم في مصدر تشريعها ليبرالية وفيَّة للتصور الغربي للكون والإنسان والحياة، بل يلاحظ الجميع أن تلك العلمانية والليبرالية تزحف على ما تبقى من شريعة الإسلام لتلائمه مع مقتضيات الحرية بمفهومها المنفلت من قيود الشريعة الإسلامية. لذا يبقى التناقض المذكور سببا رئيسا يجعل الدولة عاجزة عن وضع سياسة أخلاقية حكومية. ولنظهر أثر هذا التناقض على مستوى مرجعية التشريع، نأخذ مثلا ملف الزنا بوصفها انتهاكا صريحا للقيم الإسلامية ولنصوص القرآن، فرغم أن القانون الجنائي يجرمها ويعاقب مرتكبها، فإننا نرى الدولة عاجزة تمام العجز عن محاربة الزنا، رغم الدمار الهائل الذي ينتج عن ممارستها، سواء على مستوى الفرد أم الجماعة، ورغم أنها تُكلف ميزانية الدولة المليارات سنويا، هذا مع وجود قناعة لدى الجميع أن الزنا هي المسؤولة بالأساس عن ارتفاع معدلات الإجهاض السري والعلني، والتخلي عن الأطفال نتاج العلاقات الجنسية المحرمة، ومسؤولة كذلك عن انتشار "السيدا" وباقي الأمراض المتنقلة جنسيا، وكذا عن ارتفاع معدل الانتحار والقتل انتقاما للشرف وتوسع دائرة العنوسة، وغيرهامن الآثار المدمرة. فإذا كان عجز الدولة هذا، فرعا عن عجزها عن وضع سياسة أخلاقية حكومية، فهل مرده إلى الخصاص في جانب التشريع والتخطيط والتمويل أم إلى أسباب أخرى؟ أكيد أن الأمر لا علاقة له بالمال ولا بالتشريع ولا بالتخطيط، بل لأن الحديث عن أي سياسة أخلاقية حكومية سيثير إشكالية تناقض المرجعية على مستوى الحكم والتشريع، سيثيرها بقوة نظرا لارتباطه الوثيق باللوبيات الاقتصادية والحقوقية التي تتضرر مصالحها وتصوراتها بقوة، إذا ما تم اعتماد منظومة القيم الإسلامية في النموذج التنموي، هذا دون ذكر الإكراهات الخارجية، وتدخلات جهات خارجية ترعى مشاريع العلمنة في المغرب من خلال الشروط التي تفرضها مع مِنَحها وقروضها، ومن خلال الرقابة التي تمارسها على الشأن الحكومي عبر تقارير خارجياتها وتوصياتها. الوزير التوفيق بصفته مسؤولا عن الشؤون الإسلامية التي يقع موضوع القيم في صلبها يدرك جيدا هذه الإكراهات لهذا نراه يقول في الدرس الحسني المذكور: "..فالفكرة السائدة عند المسلمين حول مركزية دور الفرد في الدين أبانت عن محدوديتها، إذ تبين ضعف التزام الأفراد في عدد من الحالات، لأن الأفراد محكومون بظروف البيئة السياسية والاقتصادية، وللدولة وسائل ليست لغيرها في وضع القانون المناسب، وفي التصرف لخلق البيئة السياسية والاجتماعية المناسبة للتدين العام، ومعلوم أن من وسائل الدولة لإيجاد هذه البيئة المناسبة توفير الأمن والاستقرار والتعليم والتأهيل، لأن العمل بالقيم عند الفرد ليس فطريا ولا طبيعيا، بل هو مرهون بتقوية الوازع للتغلب على نوازع النفس، ولكن درجة الامتثال للقيم مرهونة أيضا بكثير من إكراهات الحياة يقع الاقتصاد في صلبها" اه. فإن كان الامتثال للقيم مرهونا بإكراهات الحياة التي يقع الاقتصاد في صلبها، وإذا كان الاقتصاد في المغرب ليبراليا، والعلمانية مهيمنة على مرجعية التشريع فهل يبقى معنى للحديث عن استثمار لقيم الدين في نموذج التنمية؟ اللهم إن كان السيد الوزير يريد أن يوظف الدين وقيمه لترقيع الثقوب الليبرالية السوداء، وهنا نكون في دائرة من قال الله فيهم: "أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۖ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ". فالخزي والعذاب قد استشرى في المجتمع المغربي، ولا حل له سوى في حل إشكالية التناقض في المرجعية الدينية والعقدية بامتثال الواجب الشرعي الذي يتضمنه نص القرآن ولا يخالفه الدستور حين ينص على أن "الإسلام دين الدولة"، وما دام التناقض مستمرا على مستوى مرجعية التشريع، فسيستمر العجز عن وضع سياسة أخلاقية حكومية ويستمر معها الارتباك الكامل في وضع الحلول وتحديد الاستراتيجيات الناجعة، وبهذا ستستفحل كل الجرائم التي ذكرناها في المقدمة. وأخيرا نقول: صحيح أن الحلّ ليس سهلا داخليا وخارجيا، لكن إذا صح العزم كانت الإرادة السياسية، وإذا كانت الإرادة السياسية كان التخطيط، وإذا كان التخطيط كان التوفيق يا معالي الوزير أحمد التوفيق. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.