هوية بريس-إبراهيم الطالب لا شك أن تطبيق مقتضيات الإسلام بشريعته وعقيدته، يعتبر عائقا بل سدًّا منيعا يحول دون الهيمنة الأمريكية كما نراها في الواقع، لذا اعتنت السياسة الخارجية الأمريكية بالمسألة الدينية في العالم الإسلامي، وعملت مسترشدة بمراكز دراساتها الاستراتيجية والفكرية على صناعة "إسلام" جديد، أهمُّ سماته أنه يتعايش مع النظم العلمانية، ويستوي لدى أتباعه الكفر والإيمان، ومن شروط قبوله ألا يزعج معتنقوه الغرب ولا الأنظمة الحليفة المستبدة المدعية للديمقراطية زورا، وللإسلام شكليا لا تطبيقيا. صناعة هذا "الإسلام الجديد" اقتضت نسف المفاهيم الدينية والعلمية من خلال حملة شرسة استمرت لسنوات، كان الهدف منها إقناع النخب وأشباه النخب بضرورة المشاركة في هدم البنية القاعدية الجديدة للإسلام الواعي الامتثالي الذي تَشَكل بعد سقوط الخلافة الإسلامية واضمحلال أثر المذهبية واندثار التأطير الديني والروحي للزوايا والطرقية، الإسلام الواعي الذي اشتد وقوي طيلة مدة الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، وهو ما اصطلح عليه ب"الصحوة الإسلامية" وما تعتبره أمريكا وحلفاؤها تطرفا وإرهابا. في هذا السياق وفِي هذا الواقع ظهر العلمانيون الجدد يتمسحون بالعلوم الشرعية والتراث، وأصبح أغلبهم يركب متن علم "المقاصد الشرعية"، لإعادة قراءة الإسلام، قراءة تروم إخضاعه لشروط العلمنة القسرية المؤازرة بسلطة القوة وقوة السلطة، سواء في ذلك القوة الرسمية وما يدور في فلكها من مؤسسات ومجالس ووزارات، أو ما ينشط في حقول معرفية موازية مثل الإعلام والثقافة والحقوق. لكن إذا كانت أهداف أصحاب الإسلام الجديد مفهومة واضحة، وإذا كان الخلاف بين العلمانيين وعلماء المسلمين عاديا وطبيعيا، لتناقض مرجعيّتيهما العقدية والتشريعية، فالذي ليس طبيعيا وليس مفهوما هو خروج بعض "الإسلاميين"، بين الفينة والأخرى، بأقوال و"اجتهادات" تسهل مهمة العلمانيين في هدم ما تبقى من صروح الإسلام في المغرب. فمن المؤسف حقا أن ترى بعض الإسلاميين يخالفون ما جرى العمل به من الراجح في المذهب أو الواضح الجلي من قواعد الشرع والثابت من نصوص الشريعة، تطلبّا للتيسير أو اعتبارا -مبالغا فيه- لتطور المجتمع وتبدّل أحواله، فتراهم يصدرون فتاوى تفتح الذرائع نحو العلمنة دأب العلماء عبر العصور الإسلامية على سدها، بدعوى النظر المقاصدي، وهكذا رأينا فتاوى عند التدقيق تجدها مجرد استجابة للتعسف العلماني الذي يفرض وجهة نظره بالقوة والسلطة. والغريب غير المستساغ في هذه السنين السبعة عشر الأخيرة أنك ترى مَن يجب عليهم أن يأخذوا الدين بقوة، يتعاملون -في مواطن عديدة- مع النصوص الشرعية واجتهادات علماء السلف وخلافاتهم، كما لو أن الخلاف بين علماء الدين والفقه قائم في دولة تطبق نظم الشريعة الإسلامية، ومجتمع منضبط بأحكامها، فيبحثون عن الأقوال الشاذة أو الاجتهادات المرجوحة فيحيونها ويشاركون بها في نقاشات مجتمعية حول قضايا مجتمعية خطيرة تعرف صراعا بين المسلمين والعلمانيين. بمعنى أن القضايا والملفات التي يكثر الجدل بشأنها ليس الخلاف فيها داخل المنظومة العلمية الإسلامية، بل الخلاف فيها بين فريقين ذَوَيْ مرجعيتين متناقضتين: – فريق ذو مرجعية علمانية متغلبة يعمل على ملاءمة النظم القانونية المغربية مع مقتضيات التشريعات الغربية، ويُلاحق ما تبقى فيها من أحكام الإسلام لتغييرها وتعطيلها، كما يعمل على علمنة المجتمع المغربي المسلم، مستفيدًا من عمليات العلمنة الكبرى التي أجراها الاحتلال الفرنسي العلماني، الذي قام بتعطيل الحكم بالشريعة الإسلامية وتعويضها بقوانينه الوضعية البشرية وجعلها الحَكَم بين المغاربة. – وأما الفريق الثاني فينطلق من مرجعية إسلامية تستند إلى المذهب المالكي والشريعة الإسلامية، ويستمد قوته من تاريخ طويل من الحكم بها دون انقطاع، بلغ 13 قرنا هو عمر المغرب منذ كان دولة بمعنى الكلمة إلى غاية احتلاله من طرف فرنسا، كما تستمد هذه المرجعية وجودها وفاعليتها أيضا من القوة الملزمة لما تبقى من أحكام الشرع في قانون الأسرة، الذي يعتبر المعترك التشريعي الوحيد الباقي بين المرجعيتين المذكورتين. العلمانيون في المغرب يعتبرون ما تبقّى معمولا به في القانون من أحكام الشريعة رجعيةً مخالفة لما هو منصوص عليه في القوانين والمعاهدات واللوائح "الدولية"، وترى أحزابُهم ومنظماتُهم وجمعياتُهم أن هذه الأخيرة هي حاكمة على شريعة الإسلام، ويرفضون بقوة أن تستعمل الخصوصية أو الحفاظ على الأعراف أو الدين أو الشريعة ذريعة لعدم تطبيق ما تنص عليه مقتضيات المراجع القانونية الدولية. ثم عندما يحتدم النقاش بين بعض العلماء والعَلمانيين، حول قضية ما، يتدخل بعض الإسلاميين لتيسير المهمة، سواء شعروا أم لا، دون اعتبار لحقيقة الصراع بين المرجعيتين، فيعطون القوة الشرعية لعملية العلمنة من خلال إعمال نظر مقاصدي لا يراعي مآلاته ولا المستفيد منه. وقد رأينا هذا في ملف حكم الردة وتعديل القانون الجنائي خصوصا في ما يتعلق بالإجهاض، وكذلك في إسقاط شرط الولي من عقد الزواج، ونراه الْيَوْمَ في سَن الإلزام بإثبات البنوة عن طريق فحص الحمض النووي، والذي سيجر حتما إلى إلحاق ولد الزنا بأبيه، والذي بدوره سيجر إلى إثبات الإرث لولد الزنا، وبذلك يُفتح الباب على مصراعيه للمطالبة بالعقود المدنية العلمانية التي لا تعترف بالواجبات والحقوق الشرعية خلافا لما في عقود الزواج الإسلامي. وبهذا التسلسل، سيعود الأمر في النهاية إلى هدم الأسرة وإباحة الزنا ورفع العقوبة عن مقترفيها، وهذا التسلسل هو نفسه الذي حصل في الدول النصرانية الأوربية، التي كانت تجرم الزنا وتميز بين الولد الشرعي وغير الشرعي؛ قبل أن يتسلط على تلك الدول الحكمُ العَلماني ويفكك مؤسساتها الاجتماعية ونظمها الدينية تدريجيا. إن فصل الأحكام الجزئية عن منظومتها التشريعية، وتمكين العلمانيين من تفتيت أحكام الأسرة عن طريق ترويج الاجتهادات الشاذة أو الأقوال المرجوحة هو عبث بالدين، وليس قولا بموجب العلم والفقه والنظر المقاصدي. فيجب على العلماء الْيَوْمَ أن يعيدوا التفكير في "النظر المقاصدي" الذي وإن كان يستمد شرعيته من أقوال الأئمة وقواعد الفقه وأصوله، إلا أنه باعتبار المآلات تكون بعض اجتهاداته في خدمة مشروع العلمنة لما تبقى من مؤسسات المجتمع المسلم. فلا يعقل أن نجتهد من داخل المنظومة الإسلامية، -في قضايا وملفات أفرزها إقصاء الشريعة وتفشي التسيب العلماني- لإعطاء حلول لمعضلاتِ واقع غير منضبط بالشريعة؛ لتخرج في النهاية اجتهاداتنا مثل المسوغ العلمي الشرعي لإجراءات العلمنة والتي تعود بالنقض على أحكام الشريعة وضرورياتها الخمسة. فالاجتهاد الشرعي شُرع لإيجاد أحكام فقهية فرعية تثبِّت أصول منظومة الشريعة وتقويها ولا تعود عليها بالنقض، وتجعل التصرفات الفردية والسلوك الشخصي وفق أحكامها منضبطا بمقتضيات الشرع. لقد أتى الإسلام لتصحيح الانحراف العقدي والسلوكي لدى البشر، فأنزل الله العقيدة التي ارتضاها لعباده، والشريعة التي تؤمِّن لهم الحياة والسلم الاجتماعي بينهم، ثم جعل الاجتهاد بعدُ آليةً لتطوير العلم الشرعي ونبذا للجمود وفق الضوابط الشرعية عند حدوث المستجدات، وليس لتسويغ الانحرافات. فالانحرافات يجب أن تُقَوَّم وفق العقيدة والشريعة التي أنزلها الله، ولا عبرة بتطور المجتمع ولا حجة فيه على النصوص والأحكام الشرعية عندما يكون هذا التطور يعني الانحراف، فالانحراف وفشو المعضلات الاجتماعية المخالفة للأحكام الشرعية لا يحتاج إلى اجتهاد في إيجاد حكم لها مخالف للشريعة، بل يقتضي الاجتهاد في وضع البرامج والخطط حتى يستجيب الناس لما أنزل الله فينصلح حالهم. فمتى كان يُشرع الاجتهاد مع النص؟؟ فكل اجتهاد مع وجود النص تكون مخرجاته تيسيرا لتفكيك نظم الشريعة، وتفتيت قيم المجتمع المسلم، وهذه من أكبر الفتن الذي يتعرض لها الإسلام الحق في مواجهة الإسلام الجديد الأمريكي الصنع. لقد استشرف إمام المقاصديين أبو إسحاق الشاطبي هذه الوضعية المزرية "للنظر المقاصدي" الذي يتخذ قنطرة إلى العلمنة حين قال عن كتابه الموافقات: "ومن هنا لا يسمح للناظر في هذا الكتاب أن ينظر فيه نظر مفيد أو مستفيد، حتى يكون ريان من علم الشريعة، أصولها وفروعها، منقولها ومعقولها، غير مخلد إلى التقليد، والتعصب للمذهب، فإنه إن كان هكذا خيف عليه أن ينقلب عليه ما أودع فيه فتنة بالعرض، وإن كان حكمة بالذات، والله الموفق للصواب". فكيف يمكن أن نحصل الحكمة من النظر المقاصدي دون السقوط في الفتنة؟؟ وأي فتنة أعظم من أن تكون مخرجات "النظر المقاصدي" تسويغا لعلمنة ما تبقى من مؤسسات المجتمع المسلم، وإبطالا لأحكام لها ثلاثة عشر قرنا من التطبيق؟؟ وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.