أثار المثقف العلماني أحمد عصيد جملة من النقط في مقاله : (عودة إلى أسئلة الإسلام الصعبة) نتفق معه في بعضها ونعترض على جلها،على أن نتناول مقاله الآخر (أسئلة الإسلام الصعبة) فور ما تسنح به الفرصة..تناول عصيد مسألة العلمانية وضرورة فصل الدين عن السياسة بخطة منهجية لا تخرج عن نطاق التسطيح والعموميات ولم يستطع عصيد أن يواري رغبته الإستئصالية للتيار الإسلامي ولاشك أن هذا ضد الديمقراطية التي يلوكها إذ الديمقراطية في أبسط تجلياتها تقبل بالإختلاف والتعددية ! وللعلمانية مفهومان أحدهما سائد لا تعني الدعوة إليه شيئا يذكر وآخر يعبر عن إطار معرفي نهائي إليه تكون الدعوة وهو الصنم المعبود من دون الله والمطلق الذي لا نسبية فيه ! تراوحت انتقدات "قوى التقليد والمحافظة" بين "السب والشتم والقذف وبين النقد والمعاتبة وحتى الدعاء بالهداية" ! ما يهمنا من هذه العبارة هو أن الدعاء بالهداية لدى عصيد حسب ما أفاده السياق وأداة (حتى)،التي من بين ما تفيده في اللغة معنى (إلى حد)،أن الدعاء بالهداية هو أَََمَر من القذف والسب وأدهى عند عصيد ! وهذه ليست مسألة عابرة نود من خلالها الكشف عن عدائية للدين أو إلحاد ، بل إن المسألة تخفي تصورا ونموذجا كامنا وراء فهم عصيد للعلمانية ويبدو أنه هو من يستعمل التقية في ذلك أو لم يستوعب ! إن السيد عصيد كخصومه من "قوى التقليد والمحافظة" لايخرج عن نطاق التقليد أيضا ، ذلك أن قوى التقليد على خلاف السائد لدى الناس ليست نوعا واحدا بل على نوعين كما أفادنا الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمان: مقلدة المتقدمين الذين يتعاطون إسقاط المفاهيم الإسلامية التقليدية على المفاهيم الغربية الحديثة ، ومقلدة المتأخرين الذين يتعاطون إسقاط المفاهيم الغربية المنقولة على المفاهيم الإسلامية المأصولة كأن يسقطوا مفهوم العلمانية على مفهوم العلم بالدنيا ومفهوم الحرب الدينية على مفهوم الفتح، ويتوسلون في هذه الإسقاطات المختلفة بخطاب يريدون أن تكون له صبغة عقلية استدلالية ، لكنهم يتعثرون على خلاف ما يظنون في القيام بشروطها ! هي فتنة مفهومية كبرى يعيشها عصيد وزمرته من قوى التقليد المتأخرة ! ومن خلال المقال تتضح بجلاء النظرة المسقطة و المنمطة للكاتب للمجتمع الإسلامي إذ يشبهه بمجتمعات أوربا قبل انعتاقها كما يسقط طبيعة الدين الكنسي- الذي شابته مواضعات لا علاقة لها بالمسيحية – على الدين الإسلامي للتوصل إلى ضرورة فك هذا الأخير عن الشأن العام ! ومعلوم أن المسيحية هي مجرد شعائر لا شرائع وكان فصل دين الكنسية من جهة التدخلات الكهنوتية لرجال الدين بعسف شديد في أمور لا قبل لهم بها لا لأن الدين نفسه له آليات للتدخل، فطبيعة المسيحية أن تحصر في الكنيسة، أما الإسلام فشيء آخر من الإجحاف والحيف والفوضوية أن نسويه مع المسيحية التي اكتشف بعض أهلها وقوع التحريف فيها زيادة على مواضعات كهنوتية ! هذا ما يفسر بروز حركات إسلامية تطالب بالأخذ بمبادئ الإسلام دين الشعائر والشرائع. يعزو عصيد سبب تخلفنا واستبداد حكامنا إلى إقحام الدين في مجال السياسة ، وهذه الفكرة حمالة أوجه، فإما أن يكون الدين مستتبعا بالسياسة خاضعا لها بحيث يستغله الحاكم لتبرير سلطاته المطلقة ويكرس تصورا رسميا معينا للدين من خلال قنوات : التعليم والمجالس العلمية والإعلام فتكون دعوة عصيد إلى إلغاء حقل "إمارة المؤمنين" وحينذاك ينبغي أن يوجهها إلى الملك لا إلى "قوى التقليد والمحافظة" وإما أن يكون الدين مقحما بآلياته ثم أثبت فشله ولنا على هذه الفكرة اعترضات. - إن الدين عندنا مستتبع بالسياسة تتصوره الدولة على أنه عقيدة لا شريعة ومن هنا تكون قد ألغت آلياته في تدبير الشأن العام. ونضال الإسلاميين إنما ينصب في إعادة تلك الآليات التدبيرية، ولو تأمل عصيد ورفاقه فإن هذه الآليات لا تتناقض مع العلمانية في مفهومها الجزئي لأنها من منظور الشريعة تختص بمساحة الإجتهاد التي تكيف الشريعة بالمستجدات العصرية باستثناء القطعيات ومن منظور العلمانية تختص بالعلم بأمور الدنيا التي قد يتوافق عليها المجتمع بكل فئاته ولاشك أن المرجعية لا تهم إلا اعتبار المآلات والأخذ بالمقاصد بما يدفع المضار ويجلب المصالح و العلمانية إن حملت الخير للبشرية ستجلب المضار وتدفع المصالح، لكن الواقع يثبت أنها جلبت المضار وأحيانا يكون باسم الإبداع وهنا نترحم على العقل لأن الإبداع يكون مقرونا بالتشييد لا التدمير ! - إن الإسلام بآلية الإجتهاد يلتقي مع الديمقراطية والعلمانية الجزئية لأنه لم يفصل في النظرية السياسية غير أن السياسة الشرعية مؤسسة على مبادئ عامة في تدبير شؤون الدولة بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية وهذا ليس ببعيد عما يدرس في علم السياسة بمعناه المعاصر فتكون السياسة الشرعية نظرية سياسية تقبلها الديمقراطية في إطار الإختلاف ومبدأ التعددية ! - دعوة عصيد التي تبينت سذاجتها إلى نبذ إقحام الإسلام في الشأن العام-إن قصد الوجه الثاني- دعوة سياسية إقصائية استئصالية وحتى غير واقعية لأن الإسلام مقصي حقا ! وأقول أن المشهد السياسي المغربي بكل أحزابه العلمانية المتعددة - ذات "المرجعية الإسلامية"حسب التصور الرسمي- يعرف الأحادية السياسية لا التعددية وطابعها الإقصاء وادعاء تمثيلية الشعب، وليس لفئة المسلمين حزب يمثلها ولن يكون في الظرفية الراهنة لأن الإشكال مرتبط باختلاف منظور الجماعات الإسلامية للدولة الإسلامية فمن يجعلها هدفا ومن يجعلها وسيلة لإقامة الدين ومن يجعلها نتيجة لإقامة الدين ! ثم ماذا يفعل المسلمون المؤمنون بالله بتشريعات الإسلام في أحكام الأسرة و في الميدان المالي والتجاري والجنائي والدولي والمدني وغيرها مما نص على أصوله وكثير من تفاصيله في القرآن والسنة، أليس من حقهم أن يطبقوا مايرضيهم بدل أن يفرض عليهم مالا يرضيهم عنوة وقسرا ! أم أن المسألة حلال علينا حرام عليكم ؟! إن كل هذا وغيره دال بالقطع على أن الإسلام وضع إطار الدولة لكن باستثناء الأحكام الدستورية التي لم يفصل فيها بل هي متروكة لاجتهاد المختصين . - إن عصيد لم يوضح لنا العلمانية التي يدعو إليها ويزعم أنها حيادية قادرة على تمثيلية الجميع وهذا زعم يخالف أبسط أبجديات الديمقراطية، فالعلمانية على خلاف السائد مبهمة والمعنى المتداول لها : فصل الدين عن الدولة بعيد كل البعد عن الواقع ، هناك دراسات تتناول هذا الموضوع من منظور جديد نذكر مثلا دراسة الدكتور المرحوم عبد الوهاب المسيري (العلمانية الشاملة والعلمانية الجزئية) الأمر الذي يزيده إبهاما..وهناك مراجعات للمصطلح أدت إلى التصالح بين العلمانيين والإيمانيين ! - إن عصيد لم يستوعب طبيعة الدين الإسلامي ففيه العقيدة وهي تنظم علاقة الفرد المسلم بالله، وشريعة تنظم علاقة المسلم المحكوم بالحاكم وعلاقته بالمجتمع والمؤسسات فأما من هذه الناحية تكون الدولة عبارة عن مجموعة من الإجراءات القانونية والسياسية والإقتصادية والإدارية وذات طابع فني كشراء الأسلحة ومناقشة الميزانية والإسلام وضع الإطار العام للدولة كما تبين أما الفنيات فتدخل في إطار : "أنتم أعلم بأمور دنياكم" كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام. - إن معنى العلمانية الذي يريد عصيد إيصاله – ربما عن غير وعي وإلمام- ليس هو المعنى الجزئي بما أنه يلتقي مع الإسلام في الفنيات وحتى في التشريعات مادامت العلمانية قد تعني الديمقراطية فإن صناديق الإقتراع قد توصل إلى العمل بالشريعة بسن قوانين تأخذ بها ! فيكون حصر العلمانية في" فصل الدين عن الدولة" استبعادا للمرجعية الأشمل أو ما يطلق عليه بالعلمانية الشاملة التي يواريها عصيد ورفاقه في "النضال". - إن أحمد عصيد انطلاقا من احتقاره الواضح للدعوة بالهداية إذ يعتبرها أسوأ من السب والقذف على ما أفاده سياق تعبيره ،يرتضي العلمانية الشاملة ذات الإطار المعرفي النهائي والمطلق ويدعو إليها وهي تعني فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية عن الحياة العامة والخاصة وهنا يتناقض مع نفسه حين يزعم حيادية العلمانية واحتواءها لكل الفئات لأن المسلمين المغاربة لن يرضوا بفصل القيم الأخلاقية عن حياتهم. غير أن الواقع يشهد باستيلاء العلمانية الشاملة على الحياة بما نعاينه من نتائجها وهذا موضوع آخر لا مجال للكلام فيه. [email protected] http://elmeskaouy.maktoobblog.com face book: hafid elmeskaouy