مقدمة : تعتبر قيمة التضامن من بين القيم الحضارية الضاربة جذورها في تاريخ المجتمع المغربي ومن أكثرها استمرارية. إذ تمتد جذورها إلى الأصول القبلية الأمازيغية من حيث الانتماء والتعاقدات الاجتماعية العفوية ، لتتعمق أكثر مع انتشار الإسلام الذي أكسب العادات التضامنية عمقها الإيماني الروحي ، بينما استمر بعدها التعاقدي من خلال التشريعات والأحكام الفقهية .ولعل أوضح المؤشرات الدالة على تجذر هذه القيمة ما نجده من عادات في حاضر المغاربة موروثا عن ماض ممتد مثل "التويزة" و"أكادير" و"العكوك" و"الخطارات" و"الشرط" و"الوزيعة" …الخ . [1] غير أن التطورات الراهنة التي يعيشها المجتمع المغربي ، وفي قلبها التحولات القيمية المصاحبة للنفس الاستهلاكي المتعاظم ، أحدث ارتباكات واضحة في ممارسة هذه القيمة كغيرها من القيم . وهو ما يتطلب من جهة تعزيز البعد التربوي الإيماني المحفز ، وفي نفس الوقت تطوير البعد التعاقدي المرتبط بالقوانين والمؤسسات . ومن هنا ربما يستمد التقرير الذي هو موضوع هذه المقالة أهميته في سياق عالمي ومحلي أصبح في أمس الحاجة إلى صنف ثالث من السلوك الاقتصادي يساهم في معالجة بعض اختلالات القطاعين العمومي والخاص . فهل بإمكان الاقتصاد الاجتماعي والتضامني الإضطلاع بهذا الدور ؟ 1. الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ، المفهوم ، الجدوى والسياق : * في المفهوم : بعد الإشارة إلى عدم وجود تعريف موحد ومتفق عليه ، يمضي التقرير في بناء مفهوم خاص به يرتكز على الحقوق الأساسية كما يحددها الإطار المرجعي للميثاق الاجتماعي للمجلس ، ويقدمه كالتالي :
" يعبر الاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ عن مجموع الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية التي تنتظم في شكل بنيات مهيْكَلَة أو تجمّعات لأشخاص ذاتيين أو معنويين، بهدف تحقيقِ المصلحة الجماعيّة والمجتمعيّة، وهي أنشطة مستقلة تخضع لتدبيرٍ مستقلّ وديمقراطيّ وتشاركيّ، يكون الانخراطُ فيه حرّا. كما تنتمي إلى الاقتصاد الاجتماعي والتضامنيّ جميع المؤسسات التي ترتكز أهدافها الأساسيّة بالدرجة الأولى، على ما هو اجتماعيّ، من خلالِ تقديمها لنماذج مستدامة ومدمِجة من الناحية الاقتصاديّة، وإنتاجها سلعاً وخدمات تركّز على العنصر البشريّ، وتنْدرج في التنمية المستدامة ومحاربة الإقصاءِ "[2]
وهو تعريف يستند- حسب التقرير – على عناصر تهمُّ مجتمعا متوازنا في علاقاته الداخليّة، ومنفتحا على محيطه الخارجيّ. مجتمع يشكّل فيه العامل البَشَريّ ثروته الدّائمة، ومصدره الرئيسيّ لتحقيق التنمية.
وزيادة في توضيح المفهوم يسرد التقرير مجموعة من الخصائص يتميز بها الاقتصاد الاجتماعي و التضامني عن غيره، وتتجلى على الخصوص في كونه : * اقتصاد يقوم على تجمّعات ذات مصلحة جماعيّة؛ * اقتصاد يدْمِج في الوقت ذاته رأس المال المادّي ورأس المال غير المادّيّ؛ * اقتصاد يتمحور نمطُ إنتاجه حول التنْمية المُستدامَة والمُدْمِجة؛ * اقتصاد تعمل مؤسّساته وفْق القيَم والمبادئ الكوْنيّة ذات الغاية، والمُناهِضة لكلّ أشكال الإقصاء؛ * اقتصاد موازٍ، وليْسَ اقتصَاداً تكْميليّا أو بديلاً، ذو صيغَة مُقاولاتيّة تُدْمِج، بكيْفيّة تَضَامنيّة، عنْصر رأس المال وعنصر العمل بدون حدود قطاعيّة ودون حدود ترابيّة
* بخصوص الجدوى : يلخص التقرير جدوى هذا النوع من الاقتصاد في كونه يتيح الانتقال من مفهوم " النمو الاقتصادي " إلى مفهوم " الاقتصاد المدمج " ( بكسر الميم ) . وتفصيل ذلك أنه : " من المتعارَف عليه، عُمُوماً، أنّ النموّ الاقتصاديّ لأيّ بلد هو التطوّر الذي يعرفه إنتاج السلع والخدمات فوق تراب هذا البلد خلال فترة محددة. وبالتالي، فإنّ المؤشّر الأكثر استعمالاً لتقييم هذا النموّ هو الناتج الداخلي الخامّ. وإذا كانتْ هذه الأداة الإحصائية، التي ابتدعها الخبير الاقتصاديّ " سيمونْ كوزنتسْ"، تمكّنُ منْ تتبّع تطوّر النشاط الاقتصاديّ، فإنها لا تأخذ في اعتبارها تطوّر الاكتفاء الاجتماعيّ والبيئيّ. وبالفعل، إذا كانَ النموّ الاقتصاديّ يسْعى إلى تغيير مُستوى معيشة الأفراد عن طريق الرّفْع من دخلهم، وفي الوقت نفسه الزيادة في ثروات بلدانهم، فإنّ هذا الهدف لا يزال بعيد المنال لأنّ مُستوى المعيشة ونوعية حياة هؤلاء الناس لا يتطوّران بنفس الطريقة، الأمْر الذي تترتّب عنه فوارقُ اجتماعية داخل نفس المجال الترابيّ. والشيء نفسه ينطبق على الفوارق القطاعية والجغرافية. وعليه، فإنّ بعض الشرائح من الساكنة تظلّ مهمّشة، وبعض الصناعات مهملة، وبعض المناطق الجغرافية غير مُستغّلة. غير أنّ التجربة قدْ برهنتْ على أنّ الاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ أفضى إلى خلق توازن عن طريق الحدّ من حجم الفوارق الاجتماعيّة والصناعيّة والمجالية. كما أنّ هذا الاقتصاد المُوازي قدْ أعْطى الانطلاق لدينامكية الإدماج الاجتماعيّ متجذّراً بذلك داخل أسس نموّ مدْمِجٍ. وبالنّظر إلى الرّهانات الجديدة للتنْمية، فإنّ النموّ المُدمِج يلتقي بكيفية مباشرة مع أهْدافِ الألفية للتنمية، كما يهدف إلى تحسين التماسك الاقتصاديّ والاجتماعيّ والمجاليّ. من هنا، إذنْ، نتحدّث في الوقت ذاته عن الإدماج "[3] * أما في ما يتعلق بالسياق : فهو يتضمن مستويين : * مستوى عالمي : حيث يوضح التقرير أنه " إذا كانت المبادراتُ الأولى، التي تمكّنت من إرْساء بنيات تعاونية وتعاضديّة، تعود إلى (رُوّاد رُوشْدالْ المنْصفون) في أنجلترا سنة 1844 ، و (فريد ريش فيلهلم رايفايزنْ ) في ألمانيا سنة 1847 ، فإنّ المبادرات الحقيقيّة لمْ تبدأ إلاّ مع ظهور آثار الأزمة التي عرفها نظام الدولة- الرّاعية والاقتصاد المختلط خلال الربع الأخير من القرن العشرين، حيثُ أعربت بعض الدول الأوروبية عن اهتمامها بالتنْظيمات النّموذجية للاقتصاد الاجتماعيّ، مثل التعاونيات والتعاضديات، أو التنْظيمات غير الهادفة للربْحِ، مثل الجمعيات والمؤسسات عموماً. وخلال الأزمات التي شهدتها مراحل متعدّدة من التاريخ، انتشرت هذه الأشكال التنْظيميّة وتزايد الاهتمامُ بها من طرف المنتظم الدولي، ممّا ساعد على ظهور وهيْكلة الاقتصاد الاجتماعيّ والتّضامني باعتباره قطاعاً جديداً من قطاعات الاقتصاد. وحاليا يشهد قطاعُ الاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ تطوُّراً ملحوظا يتميّز بالأساليب المجدّدة التي باتتْ تفرض نفسها لمواجهة الأزمات المتكرّرة للنظامِ رأس المالي، ومختلف الصعوبات التي تجعل هذا النظام غير قادرٍ على ضمان نموّ مدْمِجِ يحدّ من التفاوتات. وقد أصبح هذا الاهتمام المتجدد بقيم التضامن، التي تتجسّد في العمل الجمعويّ والتعاونيّ والتعاضديّ، واقعا ملحوظا خاصة بعد ظهور الأزمة الاقتصادية سنة 2008 . ويُعتبر دعم التطوّر المتزايد والمجدّد للاقتصاد الاجتماعي والتضامنيّ واحداً من السُّبُل التي تُثار باستمرار في اللقاءات الدولية الكبرى التي تناقش آثار الأزمة وتبحثُ عن إجابات مناسبة. ففي هذا السياق صرّح جوزيف ستيغليتز )جائزة نوبل في الاقتصاد(، في مداخلته ضمن أشغال المؤتمر الدولي الذي نظّمه "المركز الدولي للأبحاث والمعلومات حول الاقتصاد العمومي والاجتماعي والتعاوني ( CIRIEC )، في شنبر 2008 بإشبيلية، بأن "نموذج المستقبل هو وجود اقتصاد متوازن، بقطاع خاصّ تقليدي، وقطاع عموميّ فعّال، واقتصاد اجتماعيّ في طور التقدّم ."[4] وتعمل بلدان متعدّدة، وخاصّة إسبانيا وفرنسا، على تقديم الدعم لهذا النَّفَسِ الجديد من الاقتصاد الاجتماعيّ والتّضامنيّ عبْر إصْدارِ نصوص قانونية جديدة لتوضيح وتنشيط هذا القطاع. كما يتعلق الأمْر بالرّفع من قدرة القطاع على جلب تمويلاتٍ جديدٍة. ومن الملاحَظ أنّ نفس الاهتمامِ المتجددِ، وبروز الاقتصاد الاجتماعي والتضامنيّ، في أشكاله القديمة والجديدة، تشهده مختلف القارات ومختلف البلدان. وتتمّ ترجمة وتجسيد ذلك بالأولوية التي تُعطى للتنمية البشرية، ولازدهارها الاجتماعيّ، وهي الأولويّة التي صارتْ مُشتركة على نطاق واسع عالميا. * مستوى محلي : يتعلق بالمغرب الذي انخرَطَ في هذا التوجّه منذ زمن بعيدٍ ، حين التحق قبل عشرين سنة، بالتحالف التعاوني العالمي ( ACI) مُمثَّلاً بمكتب تنمية التعاون إلى جانب ممثّلين عنْ000.000 منخرط في التعاونيات عبر العالَم. وبالفعل، فقد انتبه المغربُ، منذ أواخر التسعينيات، إلى الدوْر الذي يمكن أنْ يلعبه الاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ في إيجاد حلول لبعض المشاكل النّاجمة عن السّياسات الاقتصادية التقليدية المتّبَعة. بعد ذلك، شهدت المكوّنات الأساسيّة للاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ في المغرب تطوّرا كبيرا. فقد وسّعت التعاونيات من مجالات تدخّلها، وأدّى تطور القطاعُ التعاضديُّ إلى بروز التعاضديّات الجماعيّة، متجاوزًا بذلك الطابع الوطنيَّ أو القطاعيّ الذي نشأ في البداية منْ أجله. كما شهد العمل الجمعويّ، انطلاقة قويّة على المستوى الكمّي )من حيث عدد من الجمعيات والمنخرطين( وعلى المستوى النوعيّ )من حيث مجالات التدخّل والمناطق(. وبلغة الأرقام يضيف التقرير أبعادا متعددة لسياق الاهتمام بهذا النوع من الاقتصاد : فمعدل الناتج الداخلي الإجمالي عرف تراجعا واضحا بعد 2010 مقارنة مع ما قبلها (انخفض مثلا من معدل 4,9 % سنة 2005 وما بعدها ليظل متذبذبا مابين %4,6 سنة2011 و 2,7 سنة 2012 و 4,4 سنة 2013 خاصة بفعل الانكماش الاقتصادي العالمي منذ أزمة 2008 ) ، وترتيب المغرب في مؤشر التنمية البشرية بقي متدنيا (129من أصل 187 بلدا سنة 2013 ) . كما أنه – على مستوى الإدماج الاجتماعي – ورغم أن النمو الاقتصادي ساهم في انتشال حوالي مليون وسبعمائة ألف نسمة من الفقر ، وتراجع نسبة البطالة من %13,4 سنة 2000 لتستقر حول %9 بعد 2009 … إلا أن الأثر على مستوى تقليص الفوارق الاجتماعية وتحسين مستوى العيش ظل محدودا. هذا إضافة إلى استمرار تحدي التفاوتات المجالية بين الجهات وبين المجالين الحضري والقروي [5] 1. تشخيص محلي وتجارب دولية : ينتقل التقرير في قسمه الثاني إلى تشخيص واقع الحال على المستوى المحلي فيتناول بالدرس واقع الاقتصاد الاجتماعي التضامني بالمغرب من خلال تشريح دقيق نسبيا لوضعية أبرز الفاعلين في الميدان : التعاونيات والتعاضديات والجمعيات ، ملقيا الأضواء عليها من حيث الأطر القانونية والمؤسسية وتدابير الدعم والمواكبة والتمويل ، إضافة إلى مؤشرات الأداء الكمية منها والنوعية … مستخلصا الأهمية القصوى لهذه المؤسسات في تطوير قطاع أصبحت مساهمته مطلوبة بشدة على المستويين الدولي والمحلي للتخفيف من اختلالات التدبير الاقتصادي التقليدي في قطاعيه العام والخاص . ويختم التقرير هذا القسم الثاني بفصل يفرده للوافد الجديد على قطاع الاقتصاد الاجتماعي التضامني ويقصد به المقاولة الاجتماعية باعتبارها "نموذجا صاعدا من التنظيم الاقتصادي يأتي للتوفيق بين المنطق الاقتصادي وبين المنفعة الاجتماعية ، وذلك في سياق تبحث فيه السلطات العمومية والفاعلون الاقتصاديون عن حلول مبتكرة ومستدامة من الناحية الاقتصادية " .[6] و يخصص التقرير قسمه الثالث لعرض تجارب مقارنة ومقارنات دولية ، حيث يتناول بالدراسة والتحليل والاستخلاص تجارب دول عديدة متقدمة ونامية باعتبارها تجارب ناجحة ومبادرات مبتكرة وخلاقة … ويتعلق الأمر بكل من كندا وفنلندا وفرنسا والإكوادور والبرازيل وإسبانيا . * توصيات من أجل التطوير : استجماعا لمختلف المعطيات الواردة في أقسامه السابقة واستثمارا لمخرجاتها ، ينتهي التقرير إلى صياغة مجموعة مفصلة من التوصيات الكفيلة بتطوير فعاليات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني ، وذلك من خلال ثلاثة محاور من شأنها – حسب التقرير – أن تجعل المغرب ينخرط بعمق أكبر في الحركة العالمية الرامية إلى الاعتراف المتزايد بهذا النوع من الاقتصاد . وتتمثل هذه المحاور في : أولا : اعتماد إطار قانوني خاص وجامع يمكن مختلف الفاعلين في القطاع من السلامة القانونية والتنظيمية لأنشطتهم ، ويسمح بوضع آليات سليمة للحصول على التمويل ثانيا : تعزيز وإحداث منْظومة للحكامة الوطنية والجهوية من شأنها تحفيز ومُواكَبَة تطوّر هذا القطاع ونموّه ،وذلك بتحْسينِ حكامة قطاع الاقتصاد الاجتماعيّ والتضامنيّ، وإدْراجه في إطارِ الجهوية المتقدّمة. يتعلق الأمر هنا بالخصوص بإحداث " الهيئة الوطنية للنهوض بالاقتصاد الاجتماعي والتضامني " وإدماج مختلف الهيئات الوطنية والجهوية الموجودة أصلا داخلها ، ضمانا لتجانس أكبر في السياسات العمومية الخاصة بالقطاع ، على أن تستثمر موارد المبادرة الوطنية للتنمية البشرية واحدة من ركائز هذا التوجه ثالثا : مُصاحبة وتنْسيق وتطوير الفاعلين في القطاع بهدف الانْدماج، بصفة كلّيّة، في السياسات الاقتصادية، والأوراش الكبْرى للبلاد ، ويتطلب ذلك من الدولة نهج سياسة مبنية على الإدماج العمودي والأفقي لمختلف الفاعلين في القطاع سواء تعلق الأم بالفاعلين التقليديين مثل التعاونيات والتعاضديات والجمعيات ،أو الوافدين الجدد مثل المقاولات الاجتماعية[7] [1] يمكن الرجوع في تعريفات هذه العادات إلى التقرير نفسه ص ص37 و38 [2] الصفحة 42 من التقرير [3] المرجع نفسه ص 43 [4] الصفحة 33 من التقرير [5] للوقوف على التفاصيل يراجع التقرير ص 47 وما بعدها [6] التقرير نفسه ص 75 [7] لمن أراد التوسع في التوصيات ، يمكنه الرجوع إلى تفاصيلها في التقرير ابتداء من ص 107