من الشبهات التي يثيرها الكثير من معارضي الحكم الإسلامي قولهم: إن الديموقراطية ناجحة في الدول الغربية، ونحن نقول لا، لا ينسب نجاح الدول الغربية إلى الديموقراطية ولكن ينسب نجاح الديموقراطية للدول الغربية، فلا نقول إن الدول الغربية نجحت لما طبقت الديموقراطية بل نقول إن الديموقراطية نجحت لما طبقتها الدول الغربية، وعلة ذلك أن تلك الدول تلزم نفسها بمواثيق وعهود ومبادئ عليا وسامية، مبادئ فوق دستورية وفوق ديموقراطية هي التي تتحكم بممارساتها الديموقراطية، ثم نقول إن من يعجب لذلك التطور الوقتي في النظم السياسية الغربية أن يتدبر تاريخ تلك الدول ليعرف كيف تحقق لها ذلك التطور، إن التاريخ المظلم شديد السواد الذي مر به الروم من صراعات طويلة ووحشية، وبعد أن فتحت عليهم الدنيا ذلك الانفتاح العظيم بعد سقوط الأندلس واكتشاف الأمريكتين، وبعد أن أبادوا الهنود الحمر وبدأ العالم يتحول ليسقط من جديد تحت هيمنة الروم حينها فقط تعاهد الروم فيما بينهم ألا يعودوا لعصور الظلام والتخلف والانحطاط، كان هذا الميثاق الشعبي غير المعلن هو ما يربط بين أغلب طوائف الروم في ذلك الوقت، سمو ورقي وتحضر يتعاملون به فيما بينهم ووحشية وهمجية وسوقية يتعاملون بها مع غيرهم ليحتفظوا بالمكانة التي وصلوا إليها، لذا فأي نظام من أنظمة الحكم سيطبقه الروم في هذا الزمان سينجح عندهم، لأن نجاحهم ضرورة حياة وغاية وجود عندهم. ثم إننا نسأل سؤالا آخر فوق ذلك فنقول: هل حقا نجحت الديموقراطية في الدول الغربية ؟ ولكي نعرف جواب هذا السؤال علينا أن نعرف أولا، ما هو الشيء الناجح في الدول الغربية ؟ وقبل ذلك فلنحدد أولا المقصود بالدول الغربية. إن المعني عند العرب عادة بمسمى "الدول الغربية" هو أمة "الروم"، وهي أمة عظيمة وعرق قديم، وأخلاط كثيرة وشعوب عديدة، وطول تاريخهم كانت تتركز نهضتهم في بعض شعوبهم أو بعض مدائنهم، وهي الآن مركزة في "الروم الأمريكيين" فيما يسمى "الولاياتالمتحدةالأمريكية"، فلنقل إذا إنها هي المعنية في هذا المقال الموجز. ففي أي شيء نجح ذلك الاتحاد الرومي إذا؟ هل نجح في إفقار شعوب الأرض؟ أو في قتل وتشريد وتعذيب وإذلال ملايين البشر؟ أو في إفساد مناخ الأرض وتخريب فضائها؟ أو في العبث في طعام البشر وشرابهم ؟ هل نجح في إلقاء قنبلتين ذريتين على اليابان؟ أم في تسليح إسرائيل بالقنابل الذرية؟ أم في حرمان المسلمين من أي نشاط ذري حربي أو سلمي؟ أم تراه نجح في تزويج الرجال بالرجال والنساء بالنساء والناس بالحيوانات؟ أو أنه نجح في تحكيم اليهود المرابين وتسليطهم على أعناق كل شعوب الأرض ليفسدوا الأرض كلها بالربا الفاحش ويطحنوها بالأزمات الاقتصادية المتلاحقة ويسرقوا مواردها وخيراتها ويصدروا لشعوبها الأوراق الخضراء التافهة ؟ أم نجح في نشر الإلحاد والكفر برب الأرباب ومحاربة كل مظاهر التدين وكل آثار الأديان ؟ نقطة نظام: لقد نجح اتحاد الروم إمبراطوريا. نقطة نهاية. النجاح الذي نراه اليوم إذا نجاح إمبراطوري معتاد في كل مراحل التاريخ البشري ككل النجاحات الإمبراطورية المؤقتة السابقة عليه في مصر وبابل وآشور وفلسطين وروما والقسطنطينية وغيرها. والنجاح الإمبراطوري ليس بدعة عجيبة ولا فكرة غريبة، النجاح الإمبراطوري نراه يتكرر كل يوم أمام أعيننا في كل مشروع ناجح أو فكرة متطورة، في كل مجال من المجالات البشرية التي تتصارع فيها المشاريع يبرز مشروع واحد أو عدة مشاريع تتضافر له العوامل والظروف التي تضمن تميزه وتألقه ومن ثم تطوره وتعاظمه، وكذلك في مشاريع الإمبراطوريات والحضارات. فتأمل معي الظروف التي توافرت لأمة الروم الأمريكيين ليبرز مشروعهم الإمبراطوري الحديث. صراعات متوحشة بين الإمبراطوريات القديمة. سقوط الأعداء الطبيعين وانكسارهم. أراضي شاسعة بكر مليئة بالخيرات الطبيعية – قارة كاملة – التي لم تمس. اختلاط عدد كبير من الأجناس والثقافات وتوحدهم حول فكرة واحدة ومشروع واحد. البعد الجغرافي الشبيه بالانعزال عن أسلحة الأعداء العسكرية والسياسية. الاتحاد بين قوى المال اليهودية وبين شعوب رأسمالية متوحشة للمادة. بيئة جاذبة للعلماء والمفكرين والأدباء والمثقفين يعود بطبيعته إلى عدد من العوامل السابقة. ومازالت هناك الكثير من العوامل التي لم نذكرها. لكن لا يوجد من بين هذه العوامل أبدا "نظام الحكم"، نعم يمكن أن نعتبر من بين هذه العوامل الفكرة أو المشروع الذي اتحدوا عليه، أي المبادئ السامية التي التفوا حولها واجتمعوا عليها، لكن هذه المبادئ أعلى من نظام الحكم وسابقة عليه. فأخبرني إذا ؟ كم عدد المشاريع الإمبراطورية السابقة في التاريخ كانت تحكم بالديموقراطية ؟ بل في أي مشروع منها كان شكل الحكم مؤثرا في نجاح ذلك المشروع ؟ الحقيقة أن نظام الحكم بصفة عامة والديموقراطية خصوصا ليس له أي أهمية أو اعتبار عندما يتعلق الأمر بمشروع إمبراطوري، وعلى العكس من ذلك فإن الحالة الأمريكية خصوصا تشهد فشلا ذريعا لنظام الديموقراطية، فشلا على جميع المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وغيرها، ولتعرف مدى الفشل المروع لهذا النظام البائس سنحيلك على مثالين فقط – في ضوء الملاحظات التي سبق أن ذكرناها. قارن بين الحالة الأمريكية الحالية وبين المبادئ الأصلية التي التف حولها الآباء المؤسسون وآمنت بها عامة الروم حتى اصطلحوا على تسميتها ب"الحلم الأمريكي". وقارن بين الظروف التي توفرت لهم من وفرة الأرض وغناها وعزلتها وسقوط أعدائها وغير ذلك مع الحالة الإسلامية في صدر الإسلام التي حكمت بالخلافة والشورى من نقص الأرض وفقرها وإحاطة الأعداء بها مع قوتهم وشوكتهم إلى آخر ذلك من الظروف المعروفة التي نشأت في ظلها أمة الإسلام، لاحظ أن المقارنة تكاد تكون حرفيا بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، بين أسود السواد وأبيض البياض، ثم سل نفسك هذا السؤال الظريف، ماذا كان ليكون شكل هذه الأرض لو أنها توفرت لأمة المسلمين تلك الظروف التي توفرت لأمة الروم الأمريكيين ولو أنها حكمت بالإسلام والمسلمين بنظام الخلافة والشورى. لعل هذا يجيبك على سؤاليك الأولين، لقد نجح في أرض الروم -فقط- مشروع "إمبراطورية مؤقتة"، لكن الديموقراطية أفشلت في ذلك المشروع كل شيء الآخر، وهي توشك -حسبما نرى- على إسقاط المشروع كله. وحين تنهض إمبراطورية جديدة تحكم بنظام حكم آخر فسنعود نراك أنت نفسك يا مسكين تهلل للإمبراطورية الجديدة منبهرا بنظام حكمها الآخر، وإن كان فيك شيء من دين وتقوى فستحاول أن تشرعن ذلك النظام الآخر من خلال منظومتك الدينية المنهزمة بل المحطمة بل المسحوقة تحت أقدام كل مشروع إمبراطوري مؤقت. حينها لن تتذكر ديموقراطية الروم وإن ذُكرت بها فستراها تخلفا وهمجية وحماقة ولسان حالك "مات الإمبراطور عاش الإمبراطور". وتنسى في لوثة التبعية الفاجرة تلك إمبراطورك الذي لا يموت – الإسلام العظيم، وسلطانه الذي لا ينهزم – الخلافة والشورى.