هكذا كانت البداية "" راود حلم "إلقاء إسرائيل في البحر" الكثيرين، منذ قيام دولة بهذا الاسم سنة 1948، في مكان ضيق، لا يسع أكثر من بضعة ملايين من الخلق، لكنه يعتبر مهد ومهجع، كل الديانات السماوية. كانت البداية مع الشريف حسين، الذي انطلق من الحجاز، أوائل القرن العشرين على رأس قوة من المتطوعين، من مختلف الأقطار والأمصار العربية، كان الرجل يحلم، بتحقيق نمط نظام خلافة عربية، على أنقاض امبراطورية الرجل المريض، أي خلافة الباب العالي، التي صنعها الأتراك بحد السيف، وامتدت من شرق أوروبا وجبال الأناضول، حتى الجزائر. كان الحلم جميلا، بقيام كيان عربي كبير، على أساس قومي، في زمن ازدهار القوميات، وبالفعل مد الانجليز "شريف مكة" بدعم سياسي ولوجيستيكي، بنية القضاء على خلافة الأتراك الإسلامية. كانت فترة زاخرة بالأحلام و.. الدسائس، صنعت، جغرافيا المنطقة العربية برمتها، بعد اندحار العثمانيين، والقضاء على آخر نظام للخلافة، موروث عن الامبراطوريات العربية الاسلامية الكبرى، منذ عهد بني أمية، ومجيء الاستعمار الأروبي الغربي، الذي قسَْم امبراطورية الرجل المريض، وجعلها مناطق نفوذ سياسي وعسكري، وفق المصالح الاستراتيجية للقوى الأوروبية الصناعية والعسكرية. وبطبيعة الحال رُدَْ "شريف مكة" على عقبي حُلمه، الإمبراطوري العربي الاسلامي، ليموت حسرة وندما، على وضعه ثقته كاملة في الإنجليز، لنزع الخلافة من العرق التركي، وإعادته إلى بني قريش، كم كان الرجل غبيا. في خضم تلك المُلابسات السياسية، الإقليمية والدولية، كانت هناك نخبة من يهود أوروبا الغرب، تعمل، بكد واجتهاد، مستفيدة من وجود حلفاء أساسيين في حكومة انجلترا (القوة العظمى آنذاك) لانتزاع حق إنشاء وطن لليهود في فلسطين، وتوجوا ذلك بوعد بيلفور الشهير سنة 1917. ويُمكن القول، أن الفضل في تحقيق الحلم الكبير، يعود إلى صحفي يهودي، ينحدر من أوروبا الشرقية، اسمه "تيودور هرتزل".. فقد اشتغل الرجل، كما لم يفعل سوى أفراد قليلون، عبر تاريخ البشر، ليكون لبني جلدته، وطن يجمعهم ويحميهم، من تاريخ البطش الطويل، الذي سامهم إياه الأباطرة والحكام، منذ عهد الرومان حتى "أدولف هتلر".. فقد أقام الدنيا ولم يُقعدها، لتكون كل المساعي الديبلوماسية، والمالية والدعائية، لتحصد الوكالة اليهودية التي أنشأها، أواخر القرن التاسع عشر، النجاح تلو الآخر. وبالفعل تحققت الأماني الكبيرة، لأنها اقترنت بالمسعى الجاد، ونكران الذات، حيث توفي الرجل قبل أن يرى الأمل الذي منحه كل جهوده وحياته، يتحقق، وهو تأسيس وطن ليهود الشتات، منتصف القرن العشرين. وكأنه بذلك طبق قولة النبي محمد : "إذا قامت القيامة على أحدكم وفي يده نبتة فليزرعها". جيل المُؤسسين لدولة إسرائيل هكذا كانت البداية، عسيرة، أما المسار فكان أعسر، حيث انبرى بضعة شباب من خيرة الكوادر العسكرية، منهم غولدا مائير، وإسحاق شامير، وميناحيم بيغان، وأبا إيبان، ورفائيل إيتان، وبن غوريون.. وآخرون من الرعيل الأول، لتحقيق القرار الأممي، بالاعتراف بدولة إسرائيل، على أرض الواقع، حيث اكتسحوا أجود الأراضي، مُنتزعينها من أصحابها الفلسطينيين، في القدس، وحيفا ويافا وطولكرم ودير ياسين والخليل.. إلخ، كانت النخبة العسكرية الصهيونية، وليست اليهودية، كما يقول المرضى بإيديولوجيا الصراع الديني التاريخي، مُدججة بآليات العمل الميداني، عسكريا وماليا وسياسيا وفكريا.. لانتزاع مكان تحت الشمس، بسعة وطن ليهود الشتات، ويجدر التنبيه هنا إلى حقيقة تاريخية، غاية في الأهمية، توقف عندها، بشكل مثير للإعجاب والاحترام، المثقف والباحث المصري الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي أنتج أضخم موسوعة فكرية وعلمية عالمية، عن الإديولوجية الصهيونية، فندت، علميا، الطروحات التاريخية الإسرائيلية، حيث أكد أن مطلب إنشاء دولة إسرائيل، قام بهاجس براغماتي سياسي واقتصادي، على أيدي ثلة من النخب العلمانية، غير المنتسبة كلها، للعرق اليهودي، وإيديولوجيته الدينية، بل استخدمت مُعطى الشحن الديني، كعامل من ضمن عوامل أخرى، غير أساسية، لإقناع عامة الناس والدهماء، ورجال الدين اليهود، ب "العودة إلى أرض الميعاد".. ونجحت الخطة، لأن مَن قاموا بها، كما سبقت الإشارة، كانوا نخبة من الكوادر العسكرية، والسياسية والفكرية والمالية.. إلخ الذين تشبعوا بالحداثة الغربية، فكرا وسلوكا، وطرائق عمل. وهو ما يفسر سرعة وقوة، خططهم، ونجاحها في أرض الواقع.. هل تدرون، مثلا، أن الكثيرين من العرب الفلسطينيين، باعوا أراضيهم للصهاينة، الذين كانوا يستخدمون، ليس السلاح فحسب، بل الكثير من المال، لشراء أجود المواقع الفلاحية والإستراتيجية، في فلسطين. وبينما كان العمل قائما على قدم وساق، لتوطين الدعائم العسكرية والسياسية والاقتصادية، لدولة إسرائيل، لتُصبح حقيقة على الأرض، وليس على الورق فحسب، كانت الأنظمة العربية تُقايض استقلالات بلدانها، لتُرسي دعائم الحكم الشمولي القروسطي، حدث ذلك تباعا، في مصر والعراق وسوريا والسعودية... إلخ، وانطلقت في حروب كلام ضد إسرائيل، ذهبت إلى حد نسب قول للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ب "رمي إسرائيل في البحر".. بل وتم رفض مشروع أممي من طرف دول الطوق: مصر وسوريا والأردن وقبلته إسرائيل، بإقامة دولتين، فلسطينية وإسرائيلية، في المنطقة، وبطبيعة الحال لم يكن العزم على قدر العزائم، كما يُقال، حيث مُنيت كل العنتريات الفارغة بالفشل، وأقساها، هزيمة 1967، حيث ربحت إسرائيل الحرب في ساعة واحدة، وليس في ستة أيام، وبالتحديد ، حينما استطاع الخبراء العسكريون الإسرائيلون، بمساعدة استخباراتية ولوجستيكية من فرنسا وأنجلترا وأمريكا، قصف الطائرات الحربية المصرية في مطاراتها، قبل أن تنطلق، فبالأحرى أن تُمطر العدو بوابل القنابل، وكانت الهزيمة مُمضة ومُدوية، قضمت على إثرها معظم مدينة القدس، والضفة الغربية وقطاع غزة، واختنقت حناجر ملايين العرب من المحيط إلى الخليج بغصة النكسة، وليس النكبة. والأولى أشد وقعا على النفوس. ديموقراطية إسرائيل وديكتاتورية العرب وتُوجت مأساة الهزيمة، بملهاة، حيث اندفعت الجماهير تتشبث بقائد الهزيمة عبد الناصر، حينما أعلن نية الاستقالة من قيادة "أقوى" وأكبر دولة عربية.. بطبيعة الحال كان ذلك من نتائج ذهنية القطيع، التي أرساها الحكم الشمولي العسكري، في مصر، ما بعد ثورة الضباط الأحرار، مُستهل عقد الخمسينيات من القرن الماضي. أما في باقي الدول العربية، فكان التنويع على نفس الإيقاع، وبذلك اتضحت خريطة الصراع: أنظمة حكم شمولية طالما لوحت، بذريعة "القضاء على إسرائيل" لإيقاف كل أسباب التحديث السياسي والمُجتمعي العربي، وتدعيم الحكم الفردي، العشائري والعسكري والملكي، في حين أن إسرائيل استطاعت أن تُقنع الغرب، سيما انجلترا ثم أمريكا، كقوتين عظميين، قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، أنها واحة ديموقراطية وتقدم، قادرة على رعاية مصالحه - أي الغرب - الاستراتيجية في المنطقة، مقابل ديكتاتورية الأنظمة العربية الحاكمة، وهمجية وغوغائية شعوبها. أدرك ياسر عرفات، في مرحلة متقدمة من العجز العربي، عن تحقيق تقدم يُذكر، على أرض الواقع، أن عليه بناء جهاز عسكري وديبلوماسي، يقترب ويبتعد، عن نماذج الأنظمة العربية، بقدر فارق "استقرار" هذه الأخيرة، و "ترحال" منظمة التحرير الفلسطينية، التي أنشأها. لكن ذلك لم يمنعه من إيقافها - أي منظمة التحرير - على أساس الكاريزما الشخصية، وشبكة مصالح مُعقدة، عربية وغربية، وصال وجال بحسناته وأخطائه، وحينما رحل عن الدنيا، ترك، كما عبد الناصر، نائبا ضعيفا كالسادات، هو عباس أبو مازن.. أما في أرض الواقع، فكانت حركة حماس قد تجاوزت منظمة التحرير وجهازها العسكري، متمثلا في حركة "فتح".. لذا قبل بشروط العودة وفق اتفاقات "أوسلو" السرية، مكتفيا ب "شقة دو بياس" كما نعتت الصحافة الدولية، قيام كيان سياسي فلسطيني، لا هو بالدولة، ولا هو بالإقليم التابع كليا لإسرائيل، في غزة وأريحا. "أنت ضيف مغربي لحسن حظك" سنحت لي الفرصة شتاء سنة 1998، لزيارة قطاع غزة، بدعوة من منظمة التحرير الفلسطينية، ضمن وفد صحافي مغربي، أتذكر أنه كان فيه الزملاء: محمد مستعد (صحافي يشتغل حاليا بقناة دوزيم) ومصطفى اليزناسني الذي كان حينها مديرا لجريدة "المغرب" وكمال لحلو مدير جريدة "لاغازيت" وعبد الله شنكو (حينما كان يعمل في جريدة ماروك إيبدو).. وآخرون لا يسع المجال لذكرهم.. وسعينا لدى زملاء من نقابة الصحافيين الفلسطينيين، لعقد لقاء لوفدنا، مع وزراء الحكم الذاتي الفلسطيني، وصدف حينها، أن وسائل الإعلام، العربية والدولية، كانت مُترعة بفضائح الفساد المالي، للعديد من وزراء سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، فضلا عن أساليب القمع المُستخدمة، ضد المُعارضين، سيما المُنتسبين لحركة حماس، غير أن العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، كانت تمر بفترة استقرار نادرة، فقد كانت الحكومة الأمريكية، على عهد بيل كلينتون، ومعها الدول الأوروبية، تعمل جاهدة لإنجاح اتفاقية أوسلو، وبالتالي سل شوكة مشكل الشرق الأوسط، الأكثر تعقيدا في العالم. طرحتُ في اللقاء المذكور، سؤالا عن المغزى من منح تلك الصورة السلبية، عن الفلسطينيين، للعالم أجمع، من طرف أعضاء في حكومة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني، عبر قضايا فسادهم المالي، وبالتالي فشلهم في تقديم صورة أناس قادرين، كما حدث للإسرائيليين قبيل وبعد 1948، في الانتقال من حركة عسكرية غازية، إلى دولة ديموقراطية مُتحضرة؟ واتجهت حينها إليَْ الأنظار، وكأنني ألقيتُ قنبلة، في تلك الصالة الفسيحة، التي احتضنت اللقاء، وهمس في أذني زميل فلسطيني، بلهجة فيها من الجد أكثر من الهزل: "لحسن حظك أنك ضيف من المغرب الشقيق".. وفهمتُ أن وراء الأكمة ما وراءها. مات عرفات دون حلم "دولته وشعبه" هكذا إذن أخذت حركة المقاومة "حماس" شيئا فشيئا، تنتزع ، مشروعية المقاومة، من حركة فتح، التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية، لتفرض بعملياتها الفدائية، شروطا جديدة على أرض الواقع، تجاوزت الشيخ عرفات، وقد حاول هذا الأخير، حتى آخر رمق، أن ينتزع مكاسب من خلال المشي بدقة، فوق حبال تناقضات "مكاسب" اتفاقات أوسلو، والعمليات العسكرية لحركة حماس، غير أنه حصد القصف الإسرائيلي على مقر إقامته، ودك مقرات عمل سلطة الحكم الذاتي، وتبخرت آمال إقامة الدولة الفلسطينية، التي حلم بها طويلا، ومات دون أن يكون كأي حاكم عربي له "دولته وشعبه". يجب القول أن إسرائيل نجحت بالتحديد، حيث فشلت الأنظمة العربية، أي إقامة أنظمة حكم تستجيب لمعايير النظام العالمي الحديث، وعصبها إقامة علاقات سياسية واقتصادية، على قدم المساواة مع الغرب، وكان حتميا أن ينتقل مشعل المُقاومة، من العنتريات اللفظية، ثم الهزيمة، فالاستسلام لإسرائيل وأمريكا، من أيدي الأنظمة العربية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، إلى الجناح الديني الراديكالي، متمثلا في حركة "حماس" الفلسطينية وحزب الله اللبناني، اللذان وقفا في وجه إسرائيل، وأفسدا عليها أسباب الاستقرار الأمني في المنطقة، وبذلك أخذت مشروعية المقاومة، على أساس المرجعية الدينية، مكان مشروعية الخلافة العربية الإسلامية (على أنقاض الامبراطورية العثمانية) ثم مشروعية مُقاومة الاستعمار الأوروبي، وغيرها من الدعوات القومية البعثية الاشتراكية. وهو ما يُفسر شراسة الحرب التي الدائرة رحاها الآن في غزة، ومن قبل في لبنان، لأن هاجسها ليس تحقيق مكاسب ديبلوماسية، بل هذا الخيار المصيري: "أن تكون أو لا تكون" بتعبير وليام شكسبير، وفي ذلك مرحلة جديدة للصراع، تُلغي كل ما قبلها، وسيكون من "خفة" الذهن التكهن بنتائجها منذ الآن.