هوية بريس – الإثنين 23 فبراير 2015 بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلي آله وصحبه أجمعين، أحبابي الكرام التوبة هي ذلكم الضياء الذي يتسلل إلى قلب العبد، فيفتح له آفاقا من الأمل، ويشعره بإمكانية النجاة، بعد أن عاش زمنا يعاني مرارة البعد ويكابد لوعة الحرمان، الحرمان من أمن النفس، الحرمان من لذة الأنس. كان يعيش تحت وطأة وسلطة نفس بالسوء أمارة، وشياطين من الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخارف العبارة، غرورا وتغريرا، وتزويرا للحقائق وتغييرا، كلما أراد أن يرفع رأسه كي يتخلص من حالة الانبطاح المخزي، جرته نفسه مستعينة بجيوشها حتى تصرفه عن منابع النور، وحتى تقطع عنه ذلك الإمداد، كي يبقى في العتمة، فلا ينتظم شانه، ولا يستقيم حاله، ويبقى في حالة الانفراط، وتلكم رسالة الشياطين وأعوانهم، قال تعالى: (والله يريد أن يتوب عليكم، ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما)، أرباب الشهوات غرضهم الأول أن يبقى هذا العبد في حالة الميل عن الحق، عن الهداية، لذلك يبثون الصوارف، ويضعون في طريق سيره إلى الله الموانع، فهم بمثابة قطاع الطرق، بل أسوء قيلا، واضل سبيلا، فشتان بين سارقي الجيوب، وسارقي القلوب، ومع ذلك يستمر النداء العلوي في مداعبة الأسماع والقلوب (ومن يغفر الذنوب إلا الله) (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده). ولا شيء أشرح لنفس الراغب في التخلص والتخصص من هذه النداءات التي تشعره أنه في محل الاعتبار، وأن الأبواب مشرعة أمامه للولوج إلى عوالم النور، كي يضع عنه الآصار والأغلال التي حبست أنفاسه، ومنعت روحه من العروج في عوالم التزكية، فالتوبة إذن إنقاذ، وإمداد ،وحبل نجاة ممدود من لدن ربنا الرحيم، يشعر العباد بفرص النجاة، ويمد القلوب بتلكم النفحة، نفحة السرور التي ما خالطت قلبا إلا جعلته يطير في الآفاق بجناحي الشوق والخوف، فيرتفع ويحلق، ويلتفت ببصره فيرى موضعه الأول الذي كان فيه عندما كان مرتكسا في حمأته، غارقا في شهوته، أسيرا لصبوته، ثم يقارن مع ما أصبح فيه من حرية، لا تستعبده شهوة، ولا تتملكه رغبة، ولا تستنزله من عرشه صبوة، فيهيم حبا في مولاه، ويشعر بمعنى التطهر الكامل. هذا المعنى الذي لا يحصل إلا بتطهير الباطن وغسل الروح بماء الوحي، وحشوها بأنوار الوعي، لذلكم يقول ربنا في مقام الإشادة بالمتطهرين (إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين)، فبدأ بطهارة الباطن التي تمثل التوبة أجلى صورها، ثم أتبعها بطهارة الظاهر، فطهارة الصورة لا تجمل إلا بطهارة السيرة والسريرة. التوبة إحساس بالرجوع، وجبر للكسور، وإصلاح لنتوءات الروح، التوبة إعادة للاعتبار، بعد أن ضاع أو كاد، لأن المنغمس في اوحال الشهوات وأحوال أهل الغفلات، يأتي عليه وقت يفقد فيه الإحساس، فتراه منطلقا دون قيد ودون قائد، ودون عقل ودون عقال، يمشي كالأنعام السائمة، ملجمة، مكممة، نظرها إلى الأرض، وتعلقها بالتراب، لا ترفع بصرها إلى السماء، وإن رفعت فسرعان ما ترجع، لان الرفع لا يناسب تركيبها، وما تعودت عليه، (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم). لذلكم فإن التوبة هي فرصة ومنحة، تعيد التوازن، وتشعر بالذات، وتمنحك عقلا جديدا، وإحساسا جديدا، وشعورا جديدا، لذلك ترى التائب وكأنه طفل في فرحه وسرور ونشوته وتأثره، ولعل في قوله صلى الله عليه وسلم (خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) لعل فيها ما يعزز هذا المعنى، إذ أن الوليد لا يحمل هما ولا نكدا، ولا يتشوف لغد، يعيش لحظته بغاية التفاعل، والتوبة كذلك فيها خصيصة التخفيف، فإن الذنوب هي أثقال تحملها الروح، فتضيق من أثر ذلك النفس، وتظلم الدنيا، ويحصل الكرب، وتثقل الجوارح، ويسيطر اليأس، فيحاول العبد مدافعة ذلك بمزيد من الإغراق في الشهوات ظنا منه أنه يتخلص من اثقاله، وما درى أنه إنما يزيد ثقلا إلى ثقل، وكربا إلى كرب، فلا يزداد مع الأيام إلى انهيارا ودمارا، ولو أقبل على ربه بغاية الاعتذار، لفتح له الباب، ليلج الرحاب، ويدخل رياض الأحباب، حيث الأنس، والحب، والسلم، والأمن، (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون). وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، محبكم وحافظ عهدكم وودكم عمر بن أحمد القزابري.