صرح بابا الفاتيكان حتى قبل أن تطأ قدماه أرض المغرب أنه سيأتي إلى البلاد لتشجيع مسيرة الجماعة النصرانية الموجودة في المغرب قائلا: "إنه لمن دواعي فرحي أن أتشارك معكم مباشرة هذه القناعات في اللقاء الذي سنعقده في مدينة الرباط، إن هذه الزيارة، علاوة على ذلك، ستمنحني الفرصة الثمينة لِلِقاء الجماعة المسيحية الموجودة على أرض المغرب وتشجيع مسيرتها".(و م ع). ما يمكن استنتاجه بوضوح هو أن من أهداف زيارة بابا الفاتيكان تشجيع مسيرة الجماعة المسيحية على حد قوله. ومن أجل أن نتبين حقيقة هذا الهدف ينبغي علينا أن نتساءل: ما هي هذه المسيرة التي جاء رأس الفاتيكان ليشجعها ويدعمها؟ وكيف تشكلت هذه الجماعة التي يَعتبِرُ أن اللقاء بها فرصة ثمينة؟؟ فالمسيرة واضحة وهي مسيرة التنصير التي بدأت منذ الاحتلال. وأما بالنسبة لكيف تشكلت "الجماعة المسيحية"، فالتاريخ سجل لنا أن بدايتها تعود إلى مرحلة إعداد الدول الغربية لمؤتمر مدريد 1880م، فقبل هذا المؤتمر لم يكن هناك أي وجود لجماعة نصرانية بالمغرب. وتخبرنا الوثائق التاريخية للفاتيكان، أن بابا النصارى ليون الثالث عشر أصدر قبيل انعقاد المؤتمر المذكور مذكرة وجَّهها إلى السفير فوق العادة للنمسا وهنگاريا المعتمد لدى "الحضرة البابوية" مؤرخة في 05 مايو 1880م، يطلب فيها من الدوائر العليا للدول الكاثوليكية أن تمارس الضغوط على المغرب من خلال مؤتمر مدريد، من أجل أن يسمح بالحرية الدينية؛ ومما جاء فيها: "إن قداسة البابا الذي يفرض عليه واجبه الديني الاهتمام بكل أمر قد يفيد في تعزيز المصالح الدينية في جميع أطراف الأرض، صح عزمه على أن يطلب من الدوائر العليا للدول الكاثوليكية أن تتبنى -خلال المؤتمر الديبلوماسي الذي يكاد ينعقد بمدريد للنظر في شؤون المغرب- توصية حول الحرية الدينية للسكان هناك، شبيهة بالتوصية التي تبنتها تلك الدول خلال مؤتمر برلين لفائدة رعايا الباب العالي. ومن بين تلك الدول يعتمد قداسته بالدرجة الأولى على التأييد الفعال للإمبراطورية النمساوية الهنگارية، وقد عهد إلى الكاردينال كاتب الدولة الموقع أسفله أن يجدد لحكومة صاحب الجلالة الرسولية الإمبراطور الملك، تلك المناشدة التي سبق أن وُجِّهت إليها قبيل افتتاح مؤتمر برلين. وعليه فإن الكاتب يرجو من سعادتكم -تحقيقا للمهمة الموكولة إليه- أن تتكرموا بنقل المطلب البابوي إلى حكومتكم، وتعبروا لها عن الثقة الوطيدة لقداسته في أن الحكومة ستصدر إلى ممثليها في المؤتمر تعليمات شبيهة بتلك التي سبق توجيهها إلى المفوضين في المؤتمر المذكور". واضح إذن أن بابا الفاتيكان من منطلق مسؤولياته الدينية قرر ممارسة الضغوط السياسية على المغرب وسلطانه من أجل إعطاء الانطلاقة لخلق جماعة نصرانية وسط الشعب المغربي المسلم. ومؤتمر برلين الذي ذكرته مذكرة البابا هو المؤتمر الذي انعقد ببرلين سنة 1878م، والذي فرضت فيه دول الغرب على الخلافة العثمانية شروط الإذلال وانتزعت منها كثيرا من أراضيها، وفرضت فيه الحرية الدينية مع التأكيد على أن هذه الحرية الدينية لا ينبغي أن تحول دون تولي اليهود والنصارى للوظائف السامية، ويعتبر المؤرخون أن هذه المعاهدة هي التي فتحت المجال في وجه اليهود الذين اخترقوا الجيش العثماني وأطاحوا بعد ذلك بالخلافة الإسلامية العثمانية في مؤتمر "لوزان" وعزلوا قبلها السلطان عبد الحميد الثاني. الفاتيكان بعد مؤتمر مدريد استمر في عمله الرامي إلى اختراق الشعب المغربي والدولة المغربية إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة، عند فرض الحماية الفرنسية بالسلاح والقتل والتدمير، حيث عُقدت الشراكة بين الصليب والمدفعية فكان التنصير من أهم عوامل الهدم التي أعملتها الجيوش الغازية في تفتيت البنيات السياسية والعقدية والثقافية والدينية المغربية. وتخبرنا الوثائق الفرنسية أنه بعد فرض الحماية التي وقعها المولى عبد الحفيظ، احتاج مؤيدو الاحتلال إلى مصادقة البرلمان الفرنسي، فناقشها مجلس النواب أولا، ثم أحيلت على مجلس الشيوخ فأخضعها للدرس والمداولة، حيث كلف المجلس لجنة خاصة بدراستها، وكان المقرِّر هو المسيو بودان «Baudin» وبعد موافقة اللجنة على تقريره نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 10 يوليوز 1912م. ومن أهم ما جاء في هذا التقرير قسم خاص بموضوع التنصير والمنصرين تحت عنوان: "المسألة الدينية المسيحية في المغرب وجنسية المبشرين الكاثوليكيين"، وفِي جلسة مجلس الشيوخ المنعقدة يوم 11 يوليوز 1912م نوقشت بنود معاهدة الحماية لمدة ساعتين، وكان على رأس خطباء المجلس المسيو "جينوفريي" «Jénouvrier» الذي بحث مسألة تجديد علاقات الجمهورية مع الفاتيكان والذي تمحور حول موضوع: "تنظيم الديانة الكاثوليكية بمنطقة الحماية الفرنسية، وتجديد علاقات الجمهورية مع الفاتيكان"(1). ثم توالى المخطط الرامي لخلق الجماعة النصرانية بالمغرب، وأطلق الجنرال ليوطي يد البعثات التنصيرية في المغرب، في إطار شراكة بين الجيوش الغازية ودولة الفاتيكان، واستهل الاحتلال الفرنسي أعماله التنصيرية الكبرى ببناء كاتدرائية في عام 1919م، وهي التي تقع اليوم في ساحة الجولان بمدينة الرباط. وعند انتهاء الأشغال ترأس حفل الافتتاح المقيم العام "هوبير ليوطي" في عام 1921م، وسميت كاتدرائية القديس بطرس (Cathédrale Saint-Pierre de Rabat) وهي كاتدرائيَّة رومانية كاثوليكية، وتمثل اليوم مقر رئيس أساقفة الأبراشية الرومانية الكاثوليكية في الرباط. ثم قبيل ذلك وبعده انتشرت المراكز والكنائس والجمعيات التنصيرية؛ إلى أن وصلت إلى 400 كنيسة سنة 1956، حسب تقرير أصدرته "فرانس بريس"، ويخبرنا الأستاذ القدير عامل أكادير والدار البيضاء رجل الدولة السيد محمد المعزوزي عامل سابق لأكادير والدار البيضاء وعضو اللجنة الملكية التي كلفها العاهل محمد الخامس رحمه الله بملف التنصير بعيد الاستقلال أنه: "تبين بعد التحريات أن شبكة تبشيرية كانت تقوم بتجميع الأطفال اليتامى والفقراء واللقطاء في مراكز معينة بغية ترحيلهم إلى بعض الدول الأوربية. وهذا ما أكده الأستاذ عبد الله گنون بقوله: "وقد تبين من خلال البحث الذي أجرته الوزارة في هذا الصدد، أن هذه الجماعات تقوم بنشاط ملحوظ لتضليل الناس وتشكيكهم في دينهم وحملهم على الدخول في معتقداتها.. وأعطى التقرير بعض الأرقام والإحصائيات التي توصلت إليها الوزارة عن المؤسسات التبشيرية في المغرب.."(2). فهكذا تشكلت الجماعة النصرانية التي صرح بابا الفاتيكان أنه جاء ليشجع مسيرتها، وذلك بإحياء قداس في الكاتدرائية الكبرى بالرباط. وهذه الكاتدرائية التي افتتحها قائد الجيوش الفرنسية الغازية بالمغرب ليوطي يخبرنا عنها الشيخ عبد الله الجراري رحمه الله في كتابه: (أعلام العدوتين) (1/11) في معرض كلامه عن المساجد التي بناها السلطان محمد بن عبد الله رحمه الله قائلا: "كما أن الكنيسة الكاثوليكية الكائنة قرب قصر العمالة على أنقاض أحد المساجد أسست، ويقال إنه مسجد سعيد بن صالح". اه. لقد كان تصريح بابا الفاتيكان الذي دفعنا لكتابة هذه المقالة في منتهى السوء، ولَم يراعِ مشاعر كل المغاربة وعقيدتهم، والذين يعتبرون المساس بعقائدهم أخطر من المساس بوحدتهم الترابية وكل مصالحهم الاستراتيجية. فإن كان بابا الفاتيكان رجل دولة فزيارته يجب أن تكتسي اللباقة الديبلوماسية وألا يحرج الدولة المغربية التي تعتبر إمارة المؤمنين من أهم دعائمها، فالمغرب يعطي الحرية الدينية بالمفهوم الذي لا يتنافى مع وظائف إمارة المؤمنين الساهرة على حماية عقيدة المغاربة الإسلامية وأمنهم الروحي. ولن ننتظر من أحد أن يفهمنا معنى الحرية الدينية، ورحم الله الأستاذ الجهبذ مؤرخ المملكة ومدير الوثائق الملكية عبد الوهاب بن منصور حين علق على وثيقة تاريخية متعلقة بمذكرة الفاتيكان المذكورة أعلاه حين قال: "لسنا في حاجة إلى التذكير بأن الإسلام ضمن لجميع أهل الأديان السماوية حرية ممارسة شعائرهم الدينية وذلك طبعا في إطار الاحترام المتبادل، لذلك فالحرية التي يتحدث عنها هنا البارون هايمرلي(3) لا تعدو أن تكون إطلاق يد الإرساليات المسيحية لتنصير الرعايا المغاربة..". وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم. ———————— (1) الشيخ المكي الناصري؛ "موقف الأمة المغربية من الحماية الفرنسية"، نشر حركة الوحدة المغربية 1365ه/1946م، ص:24-25. (2) محمد لومة؛ دفاعا عن تحرير المغرب وتحصين وحدته الترابية (المؤرخ ورجل الدولة، الحاج محمد المعزوزي.. يتذكر) سلسلة منتدى الأمة للدراسات -9-. ص 118-118، ط الأولى 2018.المغرب (3) هايمرلي؛ هو سفير النمسا بروما سنة 1880م.