هوية بريس – ذ. إبراهيم الطالب لا شك أن اتخاذ المواقف مما يجري بأرض المسلمين من مصائب ودواهي أمر مطلوب، إذ به يعرف الناس الحق فيتبعونه، ويكشفون به الباطل فينكرونه ويجتنبونه. لكن أن يغلب على المسلم الشجب والإنكار ولوم المخالفين له والإغلاظ عليهم في العبارة، دون أن يكون له عمل تأسيسي يشارك به في البناء المجتمعي، ويشتغل به طول حياته حتى يرأب الصدوع، ويستكمل مع العاملين بناء ما انهدم من صرح الأمة، فهذا يكون أقرب إلى قِمع (مدوز)، وأشبه بالظاهرة الصوتية، التي قد تنفع في أمور قليلة وتضر في أخرى كثيرة، فالعمل على أرض الواقع هو المحك التجريبي للأفكار والقناعات، وبه فقط يصنع القادة ويسود الصلاح، فلا إصلاح بدون مشاريع عملية بنّاءة تزاحم مشاريع الإفساد. إن التنبيه على الخطر لا يُغني عن العمل على إزالته، بل قد يصبح إدمان الشجب والمبالغة في الإنكار دون عمل على إزالة المنكر والخطأ، عاملا من عوامل الإحباط، ومنهجا ينتج جيلا يستسهل الخوض في مدلهمات الأمور لكن يبقى فعله لا يتجاوز الكلام، ويعجز عن مواجهتها الفعلية على أرض الواقع، وهذه من مظاهر المرض والفشل والانهزام. فكم من منكَر لا يتطلب تنبيها ولا شجبا وإنما ينتهي بمجرد ملئك للفراغ على أرض الواقع، والمتأمل يدرك أن كثيرا من أنواع الفساد ما ظهرت في المسلمين إلا لكون الصالحين تركوا لها المجال فارغا واكتفوا بالكلام والشجب. إن الفساد والخَبَث لا يضعفان ولا يضمحلان إلا بعمل الصالحين المصلحين، وذلك من خلال مشاريعهم وأعمالهم على أرض الواقع، وهي سنة الله في التدافع بين الشر والخير. والتدافع مع الفساد والباطل هو ممارسة لشعيرة إنكار المنكر التي تعتبر في الإسلام من شروط الخيرية، ومن ضمانات المعافاة من الهلاك العام المقرون بكثرة الخَبث، وهو محاولة لحماية الوجود الجماعي، فعندما نحارب الفساد والخَبث إنما نحاول الحفاظ على وجودنا، ولنتأمل حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَهُوَ يَقُولُ: "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ -وَعَقَدَ سُفْيَانُ بِيَدِهِ عَشَرَةً-؛ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: "نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" رواه البخاري ومسلم. ولنتأمل كذلك كلمة: "وفينا الصالحون" فلها دلالة عميقة تدعو إلى الانتباه إلى الفرق الكبير بين: "الصالح" الذي ينفع نفسه بصلاحه؛ و"المصلح" الذي يتعدى صلاحه وإصلاحه لنفسِه إلى إصلاح غيره. المعنى العميق للإصلاح اشتملت عليه الآية من قول ربنا سبحانه: "فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)" هود. فهذه الآيات وخصوصا آخرها تجيب عن سؤال أُم المؤمنين: أنهلك وفينا الصالحون!؟، لكن بطريقة أخرى. فإذا غيرنا كلمة "الصالحون" بكلمة المصلحون"، صار السؤال: أنهلك وفينا المصلحون؟ يكون الجواب حينها قول ربنا سبحانه: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ". فدلالات كلمات هذه الآيات: "ينهون"، "الفساد"، "الذين ظلموا"، "مجرمين"، "يهلك القرى"، "أهلها مصلحون"، كلها مضامين ومفاهيم تشير إلى التدافع بين المفسدين والمصلحين، وتختزل الواجب الذي يلحق المؤمنين اتجاه مجتمعاتهم، وتفيد أن تغيير المنكر لا يقتضي الإنكار باللسان فقط بل يستوجب وضع المشاريع الإصلاحية القمينة بإزالة الفساد برؤية نافذة وخطة فاعلة في الزمان والمكان بمنهاج تراكمي يحدث التغيير على أرض الواقع من الفساد إلى الصلاح، بمقاربة إصلاحية تنظر "للفعل الإصلاحي" على أنه "حركة فاعلة في المكان تراكم القوة عبر الزمان لتحدث الإصلاح في وقته بأقل الخسائر وأقل تكلفة ممكنة". فأكبر فساد وظلم في الوجود كان هو الشرك، وقد وصفه الله سبحانه فقال: "إن الشرك لظلم عظيم". وإنما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم لإصلاح العقيدة أولا لأن باقي مظاهر الفساد السلوكي الاجتماعي مثل الزنا والدعارة والكذب واللواط، ومظاهر الفساد الاقتصادي والمالي مثل الربا والغش في الميزان والاحتكار والرشوة مرتبطة بالانحراف العقدي الذي تُبنى عليه قاعدة الأخلاق الثابتة، فالأخلاق بوصفها قاعدة تُبنى عليها النظم التشريعية والاجتماعية والاقتصادية إنما تبنى على الأساس العقدي في الإسلام، ومن لم يخف من الله ويؤمن باليوم الآخر والحساب يصعب ضبطه بالقانون والزجر. ولما كان الأساس العقدي فاسدا قبل مجيء الإسلام احتاج إصلاحه إلى مشروع دام ثلاثا وعشرين سنة من تنزيل الوحي والعمل على أرض الواقع بالدعوة، والهجرة والجهاد والإنفاق للمال وبذل المهج والأرواح، وراعى الفعل التراكمي للنتائج المرحلية، وترك هذا الفعل يعتمل في بنيات المجتمع المختلفة مستفيدا من توالي الأيام وتغيرات الزمن، لينصهر الفعل والزمن والمكان في بوتقة التدافع والاحتكاك فيذهب الباطل والفساد مع الزبد جفاء، ويمكث الحق في أرض الواقع لينتفع به الناس. إن الفعل الإصلاحي في مشروع الإسلام كان يعتبر حالة المجتمع وظروفه وتَمكُّن الفساد والباطل من بِنياته، وكان هَمّ الدعاة المصلحين هو البحث عن السبل التي تهيئ المجال للقبول بعقائد الإسلام حتى يقبل الناس بشريعته لاحقا، فعمِل الدعاة للتمكين للإسلام في قلوب الناس وإفراغها من الشرك وإعمارها بالتوحيد، فقامت الأجسام التي كانت تدافع في الغزوات عن الكفر إلى الأصنام لتُحطمها، بعدما أن قام هو بتحطيمها بفعل التوحيد الذي تمكن من القلوب والأفهام. أليست تلك الأجسام والقلوب هي التي كان قائدها أبو سفيان يقول بعد غزوة أحد وهو يتحرى خبر موت النبي عليه الصلاة والسلام والصديق وعمر، فلما علم بحياتهم صاح قائلا: أُعل هبل!!؟ فكان يرد عليه المؤمنون: الله أعلى وأجل. ثم يقول: لنا العُزَّى، ولا عُزّى لكم. فيجيبه الموحدون: الله مولانا ولا مولى لكم. إن المشروع الإصلاحي للإسلام كان مشروعا مؤثرا رغم عناصر الضعف التي تعتري البدايات ولَم يكن أبدا متأثرا، كان مشروعا يعتز بقيمه التوحيدية لا مشروعا منهزما يداهن في مكان المفاصلة، بل كان يحرص على أن ينتصر لمفاهيمه وقيمه ومعتقداته، يبلغها بكل الطرق، حتى إذا لم يستطع استكمال البناء هاجر ولَم يستسلم للباطل والفساد والظلم، هاجر لحماية المعتقد وبناء الذات ليتقوى حتى يكون أقدر على حماية نفسه ودعوة غيره. إن المصلح لا يكون همه أن يقتلع المنكر والفساد من أرض الواقع بل تكون غايته الأولى هي أن يفقد الباطل والفساد بريقه وقوته في قلوب الناس، لتنهدم فيها مكانته وسلطانه وحظه، فيقوم أتباعه بهدمه بأيديهم في واقعهم بعد أن يضعف تواجده بينهم، ألم يكن الصحابة قبل إسلامهم يقيمون المواسم لمناة والعزى وهبل، فكيف طاوعتهم قلوبهم حتى مدوا أيديهم إلى معبوداتهم وآلهتهم وهدموها بأيديهم؟؟ إنه المشروع الإصلاحي الذي بدأ قبل 23 سنة، يوم "خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البطحاء فصعد إلى الجبل، فنادى يا صباحاه، فاجتمعت إليه قريش، فقال: "أَرَأَيْتُمْ إِنْ حَدَّثْتُكُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أَوْ مُمَسِّيكُمْ أَكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا تَبًّا لَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ" أخرجه البخاري ومسلم. فكم يتصدى اليوم من أبي لهب لمشروع التوحيد قائلا: "تبا لك ألهذا جمعتنا". إن الباطل والفساد والظلم مهما تعاظم في نفسه تبقى عوامل انهياره كامنة فيه، يكفي أن يحسن استغلالها المصلحون ويستثمرونها في وضع برامجهم الإصلاحية البعيدة المدى، فقد أبى الله سبحانه أن يكون النصر سهلا، والتمكين يسيرا، حتى يعطي كل مؤمن دليل صحة إيمانه: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)" العنكبوت. وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.